مات محمد حسني مبارك (1928 – 2020) رابع رؤساء الجمهورية المصرية، وأطولهم مدة في الحكم 1981 – 2020. ومن يراقب صوره في أيامه الأخيرة سيلحظ مدى شبهه بصور مومياءات الفراعنة المحفوظة في المتاحف لليوم. والواقع أنه حكم مصر كفرعون، صلاحيات مطلقة وسعى جديا لتأسيس سلالة فرعونية حديثة بتوريث ابنه، ومساعي زوجته، فساده كان بلا حدود، سمح للموالين له وأصدقائه بالإثراء غير المشروع على حساب الدولة والشعب المصري الفقير، حسين سالم، وأحمد عز، ومحمد ابراهيم سليمان، وحسب الله الكفراوي ويوسف بطرس غالي. الفرعونية الحديثة التي أحياها مبارك امتدت إلى بقية افراد الأسرة، زوجته، نجلاه، جمال وعلاء، والثلاثة شاركوا والدهم سلطته فعليا، وكان لكل واحد منهم تعيين وزراء أو تشكيل مؤسسات وشركات ومنظمات. حتى أن زوجته سوزان أسست جهاز استخبارات خاصا بها، لتستعمله في التحضير لنقل السلطة لابنها البكر جمال، ومعاقبة المناهضين للعملية. وهذا الجهاز السري الذي شكلته من متقاعدي جهاز مباحث أمن الدولة، لا من المخابرات العامة ذي السمعة الحسنة هو الذي خطف الصحافي عبد الحليم قنديل وكاد أن يقتله في الصحراء، وخطف الصحافي البارز رضا هلال وأخفى أثره نهائيا.
ثم اتسعت الدائرة للأقرباء والمحازبين، وخاصة اقرباء سوزان الذين كان لهم دور كبير في الفساد والنهب. وكان أحدهم عينه مبارك ملحقا عسكريا في سفارة مصر في اميركا، ويتقاضى عمولات خيالية من كل صفقة سلاح.
كان مبارك يحكم آمنا مطمئنا بسبب غياب معارضة قوية، وكان لا يمانع بوجود معارضة محدودة في البرلمان والشارع، بما فيها الاخوان. وحين حاولت المعارضة انشاء برلمان شعبي مواز، وسئل عن موقفه قال ضاحكا (سيبوا العيال يلعبوا شوي) وأطلق الحريات الفردية الى درجة غير مسبوقة، حتى أن عبد الحليم قنديل كتب مرة مقالا عنوانه (عار علينا أن تحكم مصر) وكان الناس في الشارع يطلقون النكات عليه تركز على بلاهته، ولم يكن يغضب، لأنه يعرف أن المصريين ساخطون عليه، ولا يمكنه معاقبة الجميع. وكان محمد حسنين هيكل يصف فسحة الحرية التي سمح بها مبارك (مسموح للناس والصحافيين ولأحزاب المعارضة أن يقولوا ما يشاؤون، ومن حقه أن يحكم ويقرر كما يريد)!
أقام علاقات راسخة مع الولايات المتحدة، وكان مطيعا جدا لها، ولا سيما العلاقات مع اسرائيل المستندة على اتفاق كامب ديفيد، ومع الدول العربية التي تآمرت عليها الولايات المتحدة، وخاصة ليبيا والعراق، وقدم لها خدمات كثيرة، خصوصا عند إجبار الدول العربية والجامعة العربية على اتخاذ قرار بالمشاركة في تحرير الكويت تحت رايات الولايات المتحدة. وأكدت بعض المصادر العليمة أن أوامر واشنطن كانت تصله عبر جهاز فاكس موضوع في غرفة نومه ولا يطلع عليها سواه. وقدد هددوه في بعض المرات إذا لم ينفذ أوامرهم. وفي مطلع الالفية الثانية ضاق الاميركيون به، وصاروا يرسلون له رسائل تطالبه بالاستقالة والامتناع عن توريث نجله جمال، فتوقف عن زيارة واشنطن، وطلب من اسرائيل اسكات الاميركيين عنه وتركه يحكم بدون ضغوط، مقابل أن يضمن هو ونجله من بعده استمرار السلام والتطبيع مع اسرائيل وبيعها الغاز المصري بأسعار أقل كثيرا من اسعار السوق. وعندما زارت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس مصر والتقت ببعض شخصيات المعارضة قامت الاستخبارات باعتقال بعضهم ولفقت لهم التهم (أيمن نور مثلا)، وكان يصر أن يحكم الى آخر يوم في حياته، إلا أن ثورة 2011 وضعت حدا لأحلامه واسقطته بطريقة غير نمطية وغير متوقعة. وساقته الى قفص الاتهام هو وولديه بتهم الفساد، وأدانت عددا من زمرته الفاسدة، وحكمتهم، وخاصة وزير داخليته حبيب العادلي، ولكن (الدولة العميقة والمؤسسة العسكرية) لم تتخل عن الفرعون، بل قامت بحمايته وأسرته وزمرته، من خلال وضعه في المستشفى بدلا من السجن، وخفضت العقوبات الى أدنى قدر على كل رجال الزمرة الذين دينوا وحكموا، مع أن المفروض أن يحكم الجميع بالإعدام إذا طبق القانون تطبيقا عادلا.
تدخل الدولة العميقة لحماية مبارك استمر بعد موته، بل اتضح هذا الدور من خلال الجنازة الفرعونية المهيبة له التي نظمتها له، وسار على رأسها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي وكبار القادة ورموز الدولة، ما يشكل إهانة قاسية للشعب المصري الذي أسقطه يوم 11 فبراير 2011 بعد ثورة شعبية مائة في المائة، عارمة وناصعة لا تشوبها شائبة، ثورة 25 يناير 2011، وتكريسا لطقوس الفرعونية، وتقاليد الحكم الاستبدادي.
المؤسسة العسكرية أداة الدولة العميقة والنواة الصلبة لها، لم تكن مع ثورة 2011 ولا غيرها، وهي مؤسسة تحكم وتسير الدولة بموجب ميثاق وعهدة راسخة، تقضي ألا يكون الفرعون المعاصر الذي يحكم مصر إلا عسكريا منها، وهذا ما كان مع مبارك. وهذه العلاقة هي التي تضمن الاستمرارية في مؤسسة الحكم والولاء والاستقرار. طبعا كان الرئيس الراحل محمد مرسي من خارج المؤسسة العسكرية ومثل نشازا واستثناء من حكام مصر بعد ثورة يوليو 1952.
وحسب مصادر خاصة، وروايات شهود موثوقين فإن الدولة العميقة رغم خضوعها له، وطاعتها له لم تكن راضية عن توريثه السلطة لابنه جمال، لعدة أسباب وجيهة، فهي تعارض عملية خلق التوريث وخلق أسرة فرعونية، وتعارض توريث جمال لأنه غير عسكري، وغير محبوب ولا مقبول من الغالبية المصرية، وقد يهدد توريثه استقرار مصر الضروري لبلد مأزوم بأزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية خطيرة، قد تنفجر لأي سبب غير محسوب بعناية.
وقد تحول في سنواته الأخيرة طاغوتا مكروها من غالبية المصريين، وصار وجوده واستمراره عامل تهديد لمصر. بل إن التخلص منه برز في وقت مبكر بحسب رواية المرحوم خالد جمال عبد الناصر لي عن تأسيسه (منظمة ثورة مصر) التي مارست العمل المسلح ضد الاسرائيليين والأميركيين بين 1985 وحتى انكشافها عام 1988.
قال لي خالد (كان هناك اتفاق بيني وبين محمود نور الدين – الرجل الثاني في المنظمة – أن نقتل اسرائيليين فقط وألا نتسبب بسفك نقطة دم واحدة لمصري أبدا، أيا كان ومهما كان، باستثناء مصري واحد، هو حسني مبارك، لأنه الرجل الذي مكن للإسرائيليين في مصر، وأصبح القصاص منه بمستوى التخلص منهم) وأضاف خالد: (كنا نعمل على رصده، لكي نقتله، بينما كنا حريصين ألا نجرح أي مصري مهما كان).
ولا يخلو سجل مبارك من بعض الحسنات القليلة، ومن أبرزها موقفه المعادي للإيرانيين بشكل قاطع وحاسم. وقد روى لي سفير مصري شغل منصب قائم بالأعمال في طهران في منتصف ثمانينات القرن السابق القصة التالية.
قال: اتصلت بي رئاسة الجمهورية الايرانية وأبلغتني أن الرئيس (هاشمي رفسنجاني) يريد مقابلتي في اليوم التالي، وقال لي المتحدث: وقت الزيارة سيكون طويلا نسبيا لكي استعد لذلك، وفي الموعد المحدد جاءت سيارة المراسم وأقلتني الى مكتب الرئيس وأنا لا أعرف ما هو سبب الاستدعاء وموضوع المقابلة).
تابع السفير (دخلت فوجدت الرئيس رفسنجاني هاشا باشا، ومبتسما. استقبلني بترحيب حار، وقال لي تفضل اجلس، ولم يكن معنا أحد آخر سوى مترجم، وقال لي هذه الجلسة ليست برتوكولية ولا علاقة لوزارة الخارجية بها. إنها جلسة خاصة بيننا فقط، ولا أريد أن يعلم بالحديث الذي سيدور بيننا فيها، فوعدته أن يبقى سرا).
وتابع: قال لي الرئيس إننا في الجمهورية الاسلامية نكن تقديرا خاصا لمصر، ومحبة للشعب المصري الشقيق، ونكن كل الاحترام للرئيس محمد حسني مبارك، ولذلك نعتقد أن القطيعة بين بلدينا ليست في صالح البلدين ولا الشعبين، كما نؤمن بضرورة التعاون بيننا ضد العدو الاسرائيلي، وضد النفوذ الاميركي والغربي في المنطقة).
وتابع رفسنجاني: نحن نعلم أن مصر تمر بحالة اقتصادية صعبة أجبرتها على توقيع اتفاق كامب ديفيد، لتحصل على مساعدات أميركا الاقتصادية، ونحن على ثقة أن شعبكم يريد تحرير فلسطين والقضاء على الكيان الاسرائيلي المعادي).
وقال لي السفير: كان الرئيس الايراني يحدثني بإسهاب وتوسع، ويضرب أمثلة كثيرة من التاريخ عن مصر وعن دورها ومقاومتها لإسرائيل، ويعرج على ماضي العلاقات الطيبة بين مصر وإيران ويضرب أمثلة من التاريخ القديم والوسيط، وكان أحيانا يتوقف عن الحديث لتناول الطعام، أو الحلويات وتناول القهوة والشاي والعصير. وقد استغرق اللقاء حوالي ست ساعات، وعاملني بود واحترام غير عادي، كما لو أنني رئيس جمهورية مثله الأمر الذي أثار اهتمامي وفضولي، وكنت أنتظر معرفة ما يريد الوصول اليه.
وتابع: بعد عدة ساعات من هذا الحديث بدأ رفسنجاني يدخل الى الموضوع الرئيسي:
أريدك أن تسافر الى القاهرة بسرعة وأن تبلغ رسالتي الى اخي سيادة الرئيس مبارك بشكل مباشر ودون المرور عبر الخارجية المصرية. أنقل له تحياتي الخاصة والصادقة: وأبلغه ما يلي: إن الجمهورية الاسلامية مستعدة لتسديد ديون مصر الخارجية، وتعويضها عن المساعدة الأميركية الاقتصادية، ومنحها حصة من النفط، مقابل أن تلغي مصر اتفاق كامب ديفيد، وتتعاون معنا ضد أعداء المنطقة.
وقال: إننا في كل الأحوال نتطلع للحوار مع مصر ومراجعة علاقات بلدينا وطي صفحة الماضي وحل الخلافات فيما بيننا.
وختم: أريدك أن تسافر الى القاهرة بسرعة وتبلغ رسالتي حرفيا للرئيس بنفسك وبدون المرور عبر أي مسؤول آخر، أخشى ألا تصل بشكل دقيق له.
وأكمل السفير سرده للحادثة فقال لي: أخبرت الخارجية في القاهرة بأني عائد بصورة مستعجلة حاملا رسالة خاصة الى الرئيس من الرئيس الايراني، وسافرت فورا. وهناك استدعاني وزير الخارجية عصمت عبد المجيد، وسألني عن الرسالة فقلت له إنني أحمل رسالة خاصة من الرئيس الايراني طلب إيصالها بنفسي للرئيس، ورفع الأمر الى الرئيس فاستدعاني الى مكتبه، فأخبرته بالقصة كاملة كما حدثت، والرئيس صامت يستمع، ثم وجه لي بعض الأسئلة غير المهمة جعلتني أعتقد أنه يستعير بعض الوقت ريثما يبلور إجابته، وعندما اكتملت نظر الي أريدك ألا تعطي كل هذا الكلام أهمية، انه يريد أن يخدعنا لنقطع علاقاتنا مع اميركا، ونصبح رهائن لهم، وبعدها يمكنهم أن يبتزونا كما يريدون لنتبعهم، ومن ناحية ثانية أعتقد أنهم قدموا لنا العرض لنتخلى عن دعمنا للعراق في حربه ضدهم حاليًا !
وختم مبارك الحديث مع السفير: عد الى طهران وقل لهم إن الرئيس لم يوافق على العرض.
عدت وأبلغت الجواب إلى الرئيس مكتب الرئيس رفسنجاني، وانتهى الأمر من لحظته.