رغم كثرة الموضوعات المأساوية التي تنوء بحملها قلوبنا وعقولنا نحن السوريين والعرب سأسمح لنفسي بنعي ديميس روسوس ووداعه لا باعتباره فنانا يونانيا فقط بل باعتباره عربيا أيضا، فقد اثار خبر موته صباح الاثنين26 كانون الثاني / يناير في نفسي شجونا وذكريات وحملني على عقد مقارنات بين مستوى التزامه والتزام اقرانه من المطربين والفنانين السوريين والعرب.
أذكره منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي حين لمع اسمه وتألق نجمه في الفضاء العالمي فنانا مميزا ذا صوت لا يشبه سواه من الأصوات، برقته ورخامته وقوته , كان يغني باليونانية والانجليزية والفرنسية , بيد أن عناصر عدة كرست هويته الشرقية , فبعض الألحان التي غناها شرقية تماما , وطفولته المصرية , واعتزازه بمصريته , وسمرته , وإجادته للعربية المحكية , وارتداؤه للجلابية العريضة احيانا ! جعلت منه فنانا عربيا بدون افتعال ولا تكلف , حتى أنه كان يصف نفسه بالبدوي. وإذا أضفنا لهذا السجل دفاعه عن قضايانا السياسية القومية , وخاصة القضية الفلسطينية والعمليات الفدائية التي كانت توصف بالارهابية منذ ذلك الوقت فإن المحصلة ترسخ هويته العربية بكل تأكيد , أكثر من فنانين عرب ميعوا مواقفهم وهوياتهم حتى لم يعد من عروبتها والتزامها القومي سوى حروفها الأبجدية .
وربما لا أحد من العرب يعلم أن روسوس دفع ثمنا ماديا باهظا لدفاعه عن القضايا العربية . فقد حدثني عدة مرات عن محاربة اللوبي اليهودي في أمريكا له بإلغاء كثير من عقوده وحفلاته فيها مما سبب له خسائر مادية بالملايين , ولا سيما بعد حادثة خطف مجموعة لبنانية للطائرة الامريكية تي دبليو إي عام 1985 الى بيروت والتي كان هو من بين ركابها ثم تصريحه الشهير بعد انتهاء العملية والذي دافع فيه عن الخاطفين وأبدى تفهمه لمطالبهم وبرر لجوءهم لهذا السلوك , مما سمح للوبي اليهودي في العالم بتصنيفه كداعم للارهاب ومنعه من الغناء في الكثير من الدول الغربية . وقال لي أنه أثناء عملية خطف الطائرة اختاره الركاب ممثلا لهم للتفاهم مع الخاطفين , وقد سر لهذا الاختيار وقام بالمهمة وكان يعرب للخاطفين عن تعاطفه معهم مما خلق جوا من الالفة بينهما . وكان الفنان الكبير يقول لي : البلد الوحيد الذي لم أزره ولم أغن فيه هو فلسطين لأن الاسرائيليين لا يسمحون لي بسبب مواقفي المؤيدة للشعب الفلسطيني , وأنا لست مستاء لذلك .
هذه المواقف الشجاعة يفتقر لها كثير من الفنانين العرب , بما في ذلك السوريون الذين دمر النظام بلدهم على رؤوس سكانها وشرد الملايين وقتل وجرح مليونا على الأقل , ومع ذلك فأكثرهم جبناء يتهربون من إعلان موقف صريح يدين النظام , وقد التقيت بأحدهم مؤخرا وسألته عن موقفه من الثورة فقال لي : أنا في الواقع مع الثورة وقلبي يتقطع لما يجري لكنني لا استطيع اعلان موقفي وإدانة النظام علنا لأن ذلك سيقطع رزقي ويفقدني جزءا من جمهوري !.
تعرفت على ديميس عام 1986 بالصدفة . كنا جارين نسكن في حي واحد من العاصمة اليونانية أثينا, حي غليفادا الراقي الذي يفضله الأثرياء والاجانب لقربه من البحر ونظافة هوائه وروعة مبانيه وحيويته السياحية حيث يتحول في الصيف مهرجانا صاخبا لا تهدأ الحركة واصوات الموسيقى فيه حتى الصباح .
كان تعارفنا بسيطا وديا كأي عربيين , وصرنا نتبادل الاتصالات ونلتقي في مقاهي غليفادا لنتبادل الحديث في كل شيء , الفن والطعام والسياسة . كان بشوشا وضحوكا, يحدثني عن ذكرياته المصرية وتعلقه بطبق الفول والطعمية وحبه للعرب المصريين واللبنانيين والسوريين والفلسطينيين والسودانيين, ويحكي لي عن زياراته للدول العربية والطرائف التي تصادفه فيها . وكان دائما يذكرني : كله كوم وما جرى لي في مدينتكم حلب وحده كوم آخر !
ذلك أنه في منتصف السبعينات تعاقد على عدة حفلات في دمشق وحلب , وكانت الصالة التي سيغني بها في حلب تقع داخل قلعتها التاريخية الشهيرة , وعندما اقلته السيارة الىها أنزلته امام مدخلها كان عليه إكمال الطريق على درج صاعد طوله ثلاثمائة متر , ولم ينتبه القائمون على الحفل صعوبة ذلك على الفنان بسبب سمنته المفرطة إذ كان وزنه يناهز 300 كيلو غرام !. قال لي : فوجئت بهذا المدخل الصاعد فنظرت الى مرافقي وسألتهم كيف سأتسلق هذا الدرج لأبلغ المكان ..؟ فأجابوا : ما من وسيلة سوى السير على القدمين !, قال : فاعتذرت لهم عن عدم قدرتي , ووقفت أحدق في وجوههم وقد تملكتهم الدهشة والحيرة لا يعرفون وسيلة لحل المشكلة العويصة , وأخيرا اهتدوا إلى فكرة الاستعانة بحمار يحملني .. فجلست على السور أنتظر احضار الحيوان , ولكن المشكلة تعقدت أكثر ولم تحل .. لأن الحمار كان اضعف من ان يقوم بالمهمة , وحين ركبته وصاروا يدفعونه للسير صعودا لم يحتمل وزني فكبا وتعثر ثم سقط على الارض وسط ضحكات وصرخات الجمهور الذي كان يتفرج على المشهد الغرائبي المثير في الشارع . وكرروا المحاولة حتى وصل المسكين الى نهاية السلم بعد سقوطه مرتين وانهاضه بالقوة والضرب ..!
عانى ديميس روسوس من مرض السمنة في تلك الفترة , وعندما تعرفت عليه وجدته في صورة أخرى , فقد تخلص من السمنة ونقص وزنه الى مائة كيلو فسألته مرارا عن الريجيم أو الطريقة التي اتبعهما للحصول على هذه النتيجة , فلم يجبني بوضوح ولكنه أشار إلى أنه خضع لنظام علاجي في مصح أوروبي عدة شهور ودفع مبلغا كبيرا لتحقيق هذا الاعجاز الذي غير احساسه بالحياة وسمح له بحياة طبيعية , وقال لي : أريد أن أكشف سر انقاص وزني في كتاب خاص لهذه الغاية واريد بيعه بمبلغ مناسب لتعويض ما دفعته !
كان متزوجا من أمريكية رزق منها بطفلين ( حتى حينه !) وكان دائم السفر والتجوال , وعندما سدت في وجهه أبواب الولايات المتحدة صار يقصد روسيا ويغني فيها , ولكن بأجر أقل !
في السنوات العشر الأخيرة عانى من مرض آخر غامض , لم يفصح عنه الاطباء حتى بعد وفاته , ويبدو ان له صلة بالسمنة والعلاج الذي خضع له . واضطر للتوقف عن الغناء عدة سنوات ثم عاد له في السنوات الخمس الأخيرة .
كان يجيد العزف على عدة آلات موسيقية, كالبيانو والجيتار والكونترباص والاورغ, وورث حب الغناء والموسيقى من أبويه, إذ كان أبوه عازفا موسيقيا محترفا, وأمه مغنية ايطالية الاصل ,عاشا في الاسكندرية في حقبة ازدهارها الثقافي الاوروبي , حين كانت تضم جالية يونانية كبيرة نسبيا وأخرى ايطالية , برز من أوساطها عباقرة كثيرون في النصف الأول من القرن العشرين وساهموا في نهضتها وبروزها العالمي كالشاعر اليوناني الكبير قسطنطين كافافيس ( 1864 – 1933) وجورج موستاكي والنحات ابرام لاساو , والروائي أندريه أكام , وعدد من الفنانيين السينمائيين . وكانت بوتقة تلاقح بين ثلاث ثقافات عربية وافريقية واوروبية , وظلت هكذا حتى غادرها الاوروبيون بعد عام 1956 بسبب العدوان الثلاثي والتغييرات الثورية في مصر .
ويسجل لديميس روسوس وفاؤه لمصر وللعرب ثقافيا وسياسيا , ويسجل له انه ختم حياته دون أي اخلال ولو عرضي يوحي بتراجعه عن حبه ووفائه .
**********************
هذا المقال منشور في العدد 261 لمجلة ( الشراع) الصادر في بيروت بتاريخ 6 / 2 / 2015
رحم الله المناضل والكاتب العروبي “محمد خليفة” وأسكنه الفردوس الأعلى، رؤية استشرافية رائعة عن إلتزام الفنانين بقضايا الشعوب من خلال نعيه الفنان اليوناني “ديميس روسوس” ورؤيته للفنانين العرب ، فكيف لوكان حاضراً ويشاهد حفلات الرفيه غناءً ورقصاً على دماء شعبنا ومآسيه بفلسطين.غزة وسورية .