لم يكن انخفاض وتيرة الحرب متزامناً مع انخفاض حدّة الصراع الدولي والإقليمي على الجغرافية السورية، بل يمكن القول: إن العكس هو الصحيح، ذلك أن غياب صوت المدافع والطائرات إنما كان نتيجة لتوافقات دولية على كيفية إدارة فصل جديد من صراع المصالح، قد تكون المصلحة السورية ليست أولوية في حسابات الأطراف المتصارعة، وليس توافقاً على إنهاء الصراع.
ولئن لم تكن القضية السورية إحدى أولويات الولايات المتحدة الأميركية منذ انطلاقة الثورة عام 2011 ، إذ آثرت إدارة أوباما – من خلال اللقاءات الماراتونية بين كيري ولافروف – تفويض الروس – على المستوى الميداني العسكري – ليحققوا مُنجزاً عسكرياً تمثّل بتمكين نظام الأسد من استعادة معظم المدن والبلدات التي فقد سيطرته عليها ما بين عامي 2012 – 2015 ، كما حققوا مُنجزاً سياسياً تمثّل بالالتفاف على القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، وإيجاد مسار أستانا موازاة مع مسار جنيف، إلّا أن هذا النأي الأميركي عن الاهتمام بالقضية السورية – كقضية شعب – لم يكن يعني أبداً غياب واشنطن عن الأرض السورية، كمسرح لصراع المصالح، ولعل هذا ما بات واضحاً من خلال إقرار الحكومة الأميركية لقرار لقانون قيصر، ذلك الإقرار الذي زامنه عودة أميركية، وبزخم قوي إلى الشأن السوري.
لم تكن الانعطافة الأميركية نحو الملف السوري تحمل في مضامينها اهتمامًا بالقضية السورية ذاتها، بقدر ما تحمل استراتيجيات أميركية جديدة، ليس بخصوص سورية بالضرورة، بل حيال مواجهة إيران التي باتت هي الهدف الأول لإدارة ترامب، بعد انتهاء الحرب على داعش، وبناءً عليه، فإن وضع قانون قيصر في حيّز التنفيذ منذ منتصف حزيران/يونيو 2020 إنما هو في واقع الحال، سلاح ثلاثي الأبعاد، تلوّح به الولايات المتحدة تجاه موسكو أولاً لإجبارها على ممارسة دور فعال في طرد إيران من سورية، كما تلوّح بهذا السلاح -ثانياً – في وجه بشار الأسد بغية انصياعه للقرارات الأممية والدخول بجدية في العملية السياسية، وكذلك الانفكاك العضوي بينه وبين إيران، وهي تلوّح به – ثالثاً – في وجه جميع حلفاء نظام الأسد المحليين والإقليميين والدوليين بهدف إحكام الخناق عليه اقتصاديًا وسياسياً. أمّا الشروط التي وضعتها واشنطن لرفع العقوبات التي يتضمنها قانون قيصر، فإنها شروط تعجيزية – بالنظر إلى بنية أو طبيعة نظام الأسد – ذلك أن انصياع نظام الأسد لتلك الشروط أو التزامه الفعلي بتطبيقها، إنما يعني في واقع الحال، زواله عن السلطة.
لا جديد في القول: إن إيجاد أي حل لقضية السوريين بات مرهوناً بتوافقات بين أطراف دولية تتصارع مصالحها على الأرض السورية، ولسنا بحاجة إلى تكرار وتفصيل لندرك أن دور قوى المعارضة الرسمية السورية (السياسية والعسكرية) قد انحسر منذ زمن عن حيّز الفعل والتأثير، ولكن ما هو جدير بالوقوف عنده، إنما يكمن في تداعيات الانعطافة الأميركية على الشأن السوري، من خلال تشديد واشنطن على التطبيق الفعلي لقانون قيصر، وفي هذا السياق يمكن لنا الوقوف عند أمرين إثنين:
الأول: أيّاً كانت الدوافع الأميركية الكامنة وراء قانون قيصر، فإن الموجبات الرسمية المعلَن عنها لتفعيل هذا القانون، جميعها تناصر قضية السوريين، لا بل هي تتماهى مع تطلعات الشعب السوري الذي يعاني الهوان من وحشية نظام الأسد على مدى عشر سنوات، حتى لو كانت هذه الموجبات هي مجرّد وسائل – بالنسبة إلى واشنطن – يُراد استثمارها لأهداف أميركية أخرى، كالضغط على إيران أو الروس مثلاً، فإن ذلك لا يفقدها أهميتها، إن لم نقل يعزّز من جدواها وفائدتها الكبيرة، ذلك أن إيران وروسيا، وبما قدمتاه من دعم مطلق لنظام الأسد، هما شريك حقيقي في تعميق مأساة السوريين، وليستا مجرّد حليفين تقليديين لنظام الأسد، وفضلاً عن ذلك كله، فإن أيّ مسعى دولي يهدف إلى إحكام الخناق على النظام وحلفائه، بغية ردعهم عن الاستمرار في قتل السوريين هو مسعى مبارك ومُرحّب به. أمّا الهواجس والتخوّفات التي تنتاب الكثير من السوريين خشيةً من التداعيات الاقتصادية التي يمكن أن تطال المواطنين وتنعكس سلباً على أوضاعهم المعيشية، وبعيداً عن التطمينات والإيضاحات الأميركية لهذه المسألة، فإنها تخوّفات مشروعة ويمكن تفهّمها، بالنظر إلى الأوضاع الاقتصادية المتردّية بالأصل، وقبل إقرار قانون قيصر، والتي تعود بواعثها وأسبابها إلى ممارسات رأس النظام ومافياته المالية التي لم تكن معيشة السوريين وبؤسهم الاجتماعي والاقتصادي لتشغل حيّزاً من اهتمامهم، بقدر انشغالهم بالسطو على أموال السوريين واستثمارها في تعزيز آلة القتل الأسدية.
الثاني: لم تفلح قوى المعارضة الرسمية السورية في أن يكون لها دورٌ فاعلٌ ومؤثّر في سيرورة العملية السياسية منذ لقاء جنيف الأول في حزيران/يونيو 2012، وحتى اللحظة الراهنة، إلّا أن هذا الإخفاق السياسي قد اقترن بإخفاق لا يقل عنه فداحةً، وأعني إخفاق قوى المعارضة في الدفاع عن قضية المعتقلين في سجون الأسد، وجعْلها إحدى أولويّات الوفود المفاوضة، علماً أن القرار الدولي ( 2254 ) يؤكّد في بنوده التمهيدية ( 11 – 12 – 13 – 14 ) على جملة من المسائل الإنسانية منها: وقف إطلاق النار وفك الحصار عن المدن والبلدات المحاصرة وإطلاق سراح المعتقلين، فضلاً عن أنها مسائل فوق تفاوضية، و تنفيذها مُلزِم قبل الدخول في أي عملية تفاوضية، وكان متاحاً آنذاك لوفود المعارضة – سواء في جنيف أو آستانا – ألّا تخطو باتجاه أيّ تفاوض رسمي دون البحث في قضية المعتقلين، ولكنها لم تفعل ذلك، لذرائع شتى، لا يتسع سياق هذه المقالة للحديث عنها. اليوم، نجد أن قضية المعتقلين ذاتها، والتي لم تكن إحدى أولويات المعارضة الرسمية، تصبح هي المدخل الأساسي لحديث المجتمع الدولي عن حل سياسي في سورية، بل تصبح هي الكاشف الحقيقي والبرهان القانوني والإنساني لوحشيّة النظام ومجافاته لجميع الشرائع والنواظم الإنسانية في نظر المجتمع الدولي.
ما من شك في أنّ ثمة أطراف دولية تدفع باتجاه استثمار قضية المعتقلين السوريين لممارسة مزيد من الضغوط على نظام الأسد لتقويض أركانه، لخدمة مصالحها قبل مصلحة السوريين، ولكن مما لا شك فيه أيضاً، أن قضية المعتقلين هي من ثمار تضحيات السوريين ومعاناتهم وبسالتهم في التصدّي لطغيان الاستبداد، ولعله من دواعي الشرف أن تكون تضحيات السوريين هي إحدى سبل تحرّرهم وخلاصهم.
المصدر: اشراق