شهدت إدلب ومحيطها شمال غربي سوريا مجموعة من التطورات والمتغيرات في الإدارتين المدنية والعسكرية، ويرجع السبب في ظهورها المفترض دفعة واحدة إلى المواجهات بين “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام) من جهة وتحالف التنظيمات السلفية في غرفة عمليات “فاثبتوا” من جهة ثانية. المواجهات بين الطرفين هدأت لكن نتائجها الأولية كانت في صالح “النصرة” التي اتسع نفوذها، في حين اشتد الخناق على التنظيمات السلفية أكثر.
أسهم الانتصار المفترض ل”النصرة” في الجولة الأولى من المواجهات مع تحالف تنظيمات “فاثبتوا” في تعزيز هيمنتها في إدلب، وأتاح لها الفرصة بالتحكم في بعض المناطق التي كانت خارج إدارتها الفعلية، وساهم في إحكام قبضتها على مختلف القطاعات الحيوية. وبدأت الجبهة تتصرف كحاكم فعلي يصدر القرارات وينفذها. ويبدو أن تحركاتها في العموم تستهدف التنظيمات السلفية بالدرجة الأولى بغرض إضعافها والاستثمار في المكاسب الأولية التي نتجت عن المواجهات معها.
أعلنت “النصرة” مؤخراً عن مجموعة من القرارات الإدارية الصادرة عن “إدارة المناطق المحررة” في ادلب ومحيطها، وهي إدارة محدّثة لا تتبع “حكومة الإنقاذ” لكنها تنسق معها من خلال وزارة الإدارة المحلية. وترتبط إدارة المناطق بشكل مباشر بقيادة “النصرة”. والإدارة عبارة عن نموذج مصغر لنظام الإدارة المحلية التي يرأسها المحافظون عادة، لكنها في إدلب سميت “إدارة منطقة” وأهم المناطق (سرمدا والدانا وحارم وجسر الشغور وأريحا وسلقين ومعرة مصرين وادلب المدينة)، ويتمتع مدير المنطقة بصلاحيات واسعة (أمنية وعسكرية وفي الإدارة المدنية)، والتقسيم الجديد هو بديل عن تقسيم مناطق نفوذ الجبهة لإمارات صغيرة كان يتزعمها أشخاص مكلفون من القيادة بصفة “أمراء”.
يبدو أن لكل منطقة وفق التصنيف الجديد في “إدارة المناطق المحررة” وضعها الخاص في حسابات “النصرة” الأمنية والعسكرية، لذا كانت القرارات الصادرة عن المناطق مختلفة في مضمونها إلى حد ما، ومثال على ذلك في جسر الشغور جنوبي إدلب، حيث قررت إدارة المنطقة إغلاق كافة مقار تنظيم “حراس الدين” في كامل قرى وبلدات المنطقة، ومنعت افتتاح أي مقر عسكري جديد داخل المدينة لأي جهة عسكرية كانت بما فيها “الجبهة الوطنية للتحرير”، كما ألزم القرار جميع الفصائل التي لديها مقار في جسر الشغور بمراجعة مسؤول المنطقة لترخيص تواجدها العسكري.
يبدو قرار إدارة منطقة جسر الشغور أكثر تشدداً من ناحية تواجد التنظيمات والمقار بسبب أهمية المنطقة الواقعة على الطريق الدولي “أم-4″، والتي تكثر في ريفها مقار ومواقع “الحراس” والتنظيمات في تحالف “فاثبتوا”، ومن خلال قرارها الحالي تريد “النصرة” ضبط تحركات ومواقع هذه التنظيمات ومراقبتها.
من جهتها أصدرت “إدارة منطقة مدينة ادلب” قراراً بإغلاق كافة المقرات العسكرية ماعدا مقار فصائل “غرفة عمليات الفتح المبين” أي مقار فصائل “الجبهة الوطنية” ومقار “النصرة” وهي إشارة مباشرة للتنظيمات في “فاثبتوا” التي لم يعد لها أي وجود في منطقة مدينة إدلب (المركز). وينص القرار أيضاَ على منع الجهات العسكرية من التدخل في الشؤون العامة وشؤون “الإنقاذ” على اعتبار أن المنطقة مركزاً لعملها ووزاراتها. وألزم قرار المنطقة كافة الجهات والفصائل العسكرية المتواجدة بمراجعة مسؤول المنطقة لأخذ ترخيص وتنظيم تواجدها العسكري.
وفي “منطقة سرمدا” القريبة من معبر باب الهوى، والمخيمات قرب الحدود السورية-التركية شمالي إدلب تضمن قرار إدارة المنطقة بنداً يلزم كافة الفعاليات المدنية والعسكرية بمراجعة مسؤول المنطقة لأخذ تراخيص، ويشمل ذلك بطبيعة الحال المنظمات والجمعيات الإنسانية التي لديها الكثير من المقار في المنطقة القريبة من المخيمات، كما منع القرار إنشاء أي مقار عسكرية أو إدارية لأي فصيل عسكري.
تخفي “إدارة المناطق المحررة” خلفها قبضة “النصرة” الأمنية والعسكرية في المناطق، ويمكن ادراج التغييرات الجديدة في إطار التحولات البراغماتية والانقلاب على آخر المسميات والهياكل التنظيمية في التنظيم السلفي الساعي إلى تغيير جلده بالسرعة القصوى وأكثر من أي وقت مضى.
وفي النواحي الإدارية والتنظيمية عززت “الإنقاذ” من سطوتها في إدلب مؤخراً، وافتتحت مراكز سجل مدني لمتابعة الأحوال المدنية وتوثيقها للنازحين والمهجرين في المناطق الرئيسية، وأعفت إدارة النقل أصحاب المركبات والآليات الزراعية من رسوم التسجيل لدفع أكبر عدد ممكن منهم لتسجيل مركباتهم في الإدارة التابعة ل”الإنقاذ”. كما أنشأت عدداً من الإدارات والمؤسسات الخدمية (شركة المخابز والمؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب والرقابة التموينية ودائرة التعليم الشرعي والإدارة العامة للتجارة والتموين والمؤسسة العامة لإدارة النقد) واشترت مؤسسة الحبوب كميات لا بأس بها من الحبوب من فلاحي إدلب والتي سيتم طحنها وتوزيعها على الأفران.
نجحت “النصرة” إلى حد كبير في الهيمنة على الاقتصاد المحلي في ادلب ومحيطها بمختلف قطاعاته (مكاتب الصرافة والتحويل والتجارة الداخلية والاستيراد)، وكان لها القدرة على إلزام السوق بداية شهر حزيران/يونيو بالتحول في تعاملاته اليومية من الليرة السورية إلى التركية. ولتزيد من هيمنتها وتحكمها في قطاعي الصرافة والحوالات المالية فرضت “المؤسسة العامة لإدارة النقد” التابعة لها على مكاتب الصرافة والحوالات الحصول على تراخيص لكي يواصلوا عملهم وذلك خلال مدة حددها القرار تنتهي في 4 تموز/يوليو القادم.
قرار “النصرة” الخاص بمكاتب الصرافة والحوالات يضيق على خصومها، وبات في إمكانها إغلاق ومنع ترخيص أي شركة صرافة ترتبط بأشخاص مقربين من التنظيمات السلفية والمنشقين عنها، ويمكّنها ذلك أيضاً من مراقبة التحويلات الخارجية، ويدعم تحكمها في القطاع ككل من خلال البنوك التابعة لها (بنك شام وبنك النقد) وهما أكبر شركتي صرافة في إدلب، وتصب فيهما جميع أموال “النصرة” التي تحتكر معظم العمليات التجارية مثل تجارة الإسمنت والحديد والحبوب والمبيدات الزراعية والأسمدة والمواد الغذائية) وغيرها.
المصدر: المدن