قراءة في رواية: زمن التعب المزمن (خسوف)    -سيرة روائية-

أحمد العربي

ياسين الغماري روائي تونسي متميز وواعد. زمن التعب المزمن (خسوف) – سيرة روائية – أول عمل روائي اقرؤه له. مع ملاحظة انه اضاف في عنوان الرواية إنها سيرة روائية، لذلك هي أقرب الى سيرة ذاتية للكاتب نفسه…

تعتمد رواية زمن التعب المزمن… أسلوب السرد بلغة المتكلم على لسان الشخصية المحورية فيها. دون تحديد اسمه، ونحن هنا سنسميه صاحبنا في قراءتنا للرواية…

صاحبنا دارس اقتصاد و ادارة المال والاعمال، وهو يعد دراسته للماجستير حول البنوك، ولكي يقدم رسالته للجنة الفحص النهائي للحصول على الماجستير، لابد له من أن يحصل على وثيقة من أحد البنوك بأنه حصل عندهم على دوام وتدريب واطلاع لوقت معين وحصل على معلومات وقدم وثيقة للّجنة الفاحصة حيث يحصل بعد ذلك على شهادة الماجستير، وينتقل للعمل بموجبها كوثيقة علمية موثّقة، أو يكمل دراسته الجامعية دكتوراه وغير ذلك. لذلك كانت هذه الدورة او الذهاب الى البنك ضرورة حتمية له.

 وبالفعل ذهب صاحبنا الى بنك عريق وريث بنوك أوروبية كانت في تونس في وقت سابق. تم استقباله بفتور، فهو يحمل شهادة علمية لا يحملها مدير البنك نفسه. هذا غير النظرة العدائية المتواجدة عند جميع الموظفين إلى أي جديد قد ينافسهم على وظائفهم و مكتسباتهم. لقد تم تعريفه على الموظفين كلهم تقريبا. حتى وصل إلى رئيس البنك الذي استقبله بفوقية وتعالي. حدثه عن مطلبه وأنه يود لو يحصل منهم على المعلومات التي يودها…

لقد تحول موظفي البنك الى جبهة موحدة عدائية تجاه صاحبنا. فالمدير لم يتجاوب مع أطروحات صاحبنا عن ضرورة ان يكون من واجب البنك أن يقدم لصغار الكسبة قروضا متواضعة للمزارعين والصناعيين الصغار و النساء الماهرات في بعض المهن… الخ، يحسّنوا فيها شروط حياتهم. كان رد المدير أن البنك معنى بتراكم أمواله ومربحه، ولا يهمه أي دور يعتقده صاحبنا حول تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين فرص الحياة للناس في القاع الاجتماعي، المهم ضمان القروض وانها ممكنة الاسترداد، وتحقق الأرباح للبنك…

 كما لفت نظر صاحبنا ان البنك لم يكن ينظر الى مصدر الأموال التي تودع به. فقد ازدهرت في عهد ما بعد الثورة التونسية حركة تهريب أموال ضخمة لعائلة الرئيس المخلوع بن علي. كما ظهرت طبقة جديدة استفادت من مرحلة ما بعد الثورة واستثمرت بالفساد، استيلاء على أراض وبيعها والترويج للدعارة والمخدرات والتجارة بالبشر وأعضائهم. شكل العاملون في البنك شبكة مستفيدين من تبييض هذه الأموال عبر وضعها في اقنية الاستثمار العام عبر البنك. ولكل حصته من الموظف الصغير حتى رئيس البنك. لذلك لم يكن مرحبا لحضور صاحبنا الى البنك، ولا محاولته الحصول على المعلومات، شكل الجميع سدا وحاجزا تجاهه، يحاربونه نفسيا ، بعضهم يتهكم عليه ويستهزء به، والبعض يزدريه والبعض يعمل على إذلاله، وهو صابر يود أن يمضي فترة الحضور عندهم ويحصل على الورقة التي تثبت ذلك ليكمل امتحان الماجستير ويبدأ مرحلة جديدة في حياته…

لصاحبنا حياة لم تكن مقبولة بالنسبة له، لقد اخبرنا انه مرّ ويمر في حالة مرضية شبه مزمنة لها علاقة بمرض اصاب كليته، وكما انه مرّ بظروف حب فاشل، وفوق ذلك حاول الانتحار سابقا، وأنه يتابع عند طبيب نفسي. وأنه يتناول علاجات نفسية وعضوية كثيرة. وكل هذا يعني أن صاحبنا كان غير محصن نفسيا بما فيه الكفاية أمام عصابة البنك التي توحدت ضده للحفاظ على مصالحها وكأنها عصابة تمتص دماء الناس. اخذ صاحبنا ما حصل معه بكثير من الاسى والالم. لكن احدى الموظفات اضاءت له نقطة نور من خلال تعاملها الإيجابي معه. وعاملته بكثير من الحنان والاحتضان والتفهم. اصبحت اشبه بصديقة ومشروع حبيبة. صارحها بحبه بعد حين…

انتهت فترة الحضور في البنك ورفض المدير أن يعطيه الورقة المطلوبة. وحاول الاستعانة بالموظفة التي يحبها وتحبه. لكنها خذلته. واخبرته انها لم تكن صادقة معه وأنها كانت تمثل عليه دورا، وهي تخدم نفسها ومصلحتها ورب عملها مدير البنك…

كانت صدمة كبيرة، احساس صاحبنا بالخذلان من هذه الفتاة التي باعت عواطف كاذبة وادخلته مرة اخرى في نوازع النفس التواقة للخلاص من كل شيء والانتحار…

صحيح انه استطاع الحصول على الورقة المطلوبة أخيرا من خلال الفساد عبر أخيه ومن موظف في البنك نفسه. وحصل على الماجستير بدرجات متدنية لا تمنحه فرصة اكتمال دراسته للدكتوراه، وهذا زاد في احساسه بالغبن وغياب المعنى للوجود الذاتي، وزاد دافعه للتخلص من حياته مجددا. وفعلا أقدم على تناول جرعات كبيرة من علاجات كادت أن تودي بحياته.

 غاب عن الوعي لعدة أيام وتم انقاذه في المشفى، لكن الى حين .هاجس الموت والانتحار يسيطر عليه كل الوقت…

لدى صاحبنا هوى لكتابة الرواية، وبالفعل بادر بكتابة الرواية،  كتب وبادر لارسالها الى دور نشر في تونس وخارجها، كما عرضها على كتّاب آخرين يستمزج رأيهم، القليل شجعه و الكثير حاربه إلى درجة خلق حالة من التشويه له، وأنه ليس روائي وما يدعيه من روايات ليس هو كاتبها. كان يطمح بكل طاقته لان ينشر رواية واحدة على الأقل…

كل هذه الخيبات. من البنك ومن الكتّاب ومن الحبيبة الكاذبة ومن الجسد الذي يستشري به المرض… جعل صاحبنا ينتظر فرصة يتخلص فيها من حياته لينتهي من عبء لا يستطيع حمله…

هنا تنتهي الرواية:

في التعقيب عليها اقول:

انني تفاعلت مع رواية زمن التعب المزمن للصديق ياسين الغماري بكل عمق واحسست بأني جزء من أحداثها. لقد دخلت في أجوائها كما دخلت في عمق نفسي وعقلي. وهذا يعني بالنسبة لي أنها عبرت بمصداقية وبراعة عن حالة انسانية أدخلتني داخلها… وهنا تنجح الرواية او تفشل..

على المستوى الخاص في عالم صاحبنا في الرواية، مؤسف ان لا تجد لك من ملايين البشر حولك من يكن صديقا وفيا تبث له لواعج نفسك، وتحدثه عن كوابيسك، وعن أحلامك.

 من المؤسف أن لا يكون لك حبيبة تضعك في قلبها. وتضعها في وجدانك وضميرك وتبني معها أحلام تتحقق ببناء أسرة تحارب ظلم الحياة وتنتصر لحياة افضل.

 مؤسف أن لا يوجد نموذج لقوى سياسية تمثل طموحاتك و تنضوي فيها لتحقق في حياتك رسالة وجودك.

 مؤسف ان لا تجد أن لك اسرة تحتضنك في السراء والضراء وفي مواجهة كل الظروف الحياتية.

 مؤسف ان تكون انسان في بلاد تجعلك درجة في سلم القهر الاجتماعي ضحية ممن فوقك، و تضطّهد من دونك، في معادلة ذئاب تنهش بعضها كل الوقت.

 ثم تجد نفسك في بلاد تحكمها انظمة لا تفكر إلا بكيف تبيعك و تبيع وطنك بأبخس الأثمان وتقبض ثمنك لتضعه في فم الشيطان الذي يبتلع العالم…

هذا ما شعرته عندنا تابعت سيرة صاحبنا في سيرته الذاتية…

ما يفرح النفس حول صاحبنا الكاتب نفسه أنه كتب هذه الرواية وغيرها ونشرهم ايضا، وهذا يعني أن الإنسان المكافح المنتصر على ظروف القهر انتصر داخل صاحبنا الكاتب ياسين الغماري…

كما أن الرواية تعطي للجانب العام في حياة تونس وشعبها وما حصل إبّان الربيع العربي الذي كان لتونس شرف إطلاق شعلة الحراك الشعبي العربي الممتد من تونس إلى مصر فليبيا فاليمن وسوريا. ثورة المظلومين مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الافضل… البعض نجح والبعض فشل، والكل بعد ذلك انتكس بفعل فاعل من داخل البلاد العربية ومن خارجها…

المهم الرواية تقول ان البنية الفاسدة التي قامت الثورة عليها في تونس لم تنتهي رغم انتصار الثورة. شبكة الفساد وتبييض أموال السرقة للأملاك العامة ورواج الدعارة والمخدرات وبيع الإنسان نفسه بالرخيص. كل ذلك يستوجب كل الوقت ثورة أخرى. ثورة على البنى الفاسدة ولتحقيق العدالة وانصاف أبناء الشعب الفقراء وإحقاق الحقوق. أوليس إحراق البوعزيزي لنفسه في مواجهة المظلومية أبان ربيع تونس وثورتها. تماثل محاولة صاحبنا في الرواية أن ينتحر لكثير من المرات…

نحن بحاجة لثورة جديدة…

ثورة في ذواتنا حيث ينتصر الإنسان على الوحش فينا…

ثورة في مجتمعنا و دولنا لنسترد حقوق المظلومين نسقط الاستبداد والفساد وننعم في أجواء الحرية والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل…

بلاد تصون كرامتنا كشعوب وأفراد وتحافظ عليها… وتعتبرها أهم رأسمال لها…

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “زمن التعب المزمن (خسوف)-سيرة روائية” للروائي التونسي “ياسين الغماري” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية هي أقرب الى سيرة ذاتية للكاتب نفسه ، بعد حصوله على الشهادة الجامعية وحاجته لشهادة خبرة للحصول على الماجستير ومعاناته بذلك وحصوله على الوثيقة بالفساد، لتؤكد بان البنية الفاسدة التي قامت الثورة عليها في تونس لم تنتهي رغم انتصار الثورة .

زر الذهاب إلى الأعلى