بعد أن اتهمت العروبة بالفشل، والخواء، وأحيلت اليها نزعات التعصب القومي، وأزاحتها عن المسرح الهويات القطرية المحدثة، ووصل الأمر الى حد انكارها كهوية حضارية، نشهد اليوم بداية عودتها نحو الظهور، وبصورة أدق بداية العودة اليها.
فاذا كنا نعلم أسباب ازاحتها من كثرة النقد الذي وجه اليها في العقود الأخيرة، فلماذا العودة اليها اذن؟ واذا بدأنا بالعراق ، وهي واحدة من أهم دول المشرق العربي ، نجد أنه بعد حرب الخليج الثانية واسقاط نظام صدام ، لحق بفكرة العروبة الكثير من الأذى ، انتقاما من حزب البعث القومي ، وبدلا عنها صعدت موجة من ثقافة الانتماء المذهبي ، وتعززت تلك الثقافة بسيطرة أحزاب موالية لإيران على المشهد السياسي ، وعلى معظم وسائل الاعلام ، لكن الذي حصل بعد ما يقرب من عقدين من الزمن ، أن عرب العراق الشيعة ، اكتشفوا بالممارسة ، أن ايران تظل تنظر اليهم كعرب وليس كشيعة في نهاية المطاف ، ومن تلك النظرة فان استراتيجيتها التي تنفذها في الواقع كانت تعتمد على اختراق العراق ، والامساك بمفاصل الدولة ، وجعله حديقة خلفية لطهران ، مع منعه من التطور والتقدم واستعادة مكانته الطبيعية السابقة .
وبعد سنوات من المعاناة، ذهبت السكرة وحضرت الفكرة، ونضج عند الشيعة العرب العراقيين الشعور بأن هويتهم العربية ليست اختيارا ايديولوجيا بل هي قدرهم الذي لا فكاك منه. فاذا أنكروه هم فان الآخرين يظلون يعاملونهم على أساسه، وأن أشقائهم العراقيين من العرب السنة هم أقرب إليهم بكثير من النظام الايراني وحرسه الثوري.
هكذا بدأت الحياة تدب من جديد للعروبة كهوية من شأنها الدفاع عن وجود العراق ومنع انهياره والحاقه أو تقسيمه. وبصورة مشابهة مع الفارق، بدأت الحياة تدب في ” العروبة ” في سورية بعد أن شعر السوريون أن الهوية القطرية السورية لم تعد كافية للحفاظ على وجود سورية، فالصدع الطائفي الذي حصل خلال تسع سنوات بحاجة الى استعادة الرابط العربي، كما أن مشروع الكيان الانفصالي في شمال وشرق سورية، أيقظ حفيظة العرب السوريين الذين ناموا على وسادة من حرير ثم افاقوا وقد رسم أصحاب المشروع الانفصالي وعرابوهم الدوليون حدودا تزيد عن ثلث مساحة سورية وتضم أراض لا يشكل فيها الأكراد نسبة 15% من عدد السكان. ولمس العرب السوريون بأيديهم كيف يتم استبعادهم حين يتعلق الأمر بتقرير مصير الاقليم الجديد “روج آفا.
وفي دول عربية أخرى ظهر جليا أن الدول الاقليمية بدأت تمد نفوذها على حساب الدولة العربية القطرية، وأن الرابطة العربية التي انهارت فعليا كأساس لنظام الأمن في المنطقة أسهم انهيارها في انكشاف تلك الدول القطرية أمام الدول الاقليمية والكبرى.
وآخر مثال حي هو تلك الصلافة التي تتعامل بها دولة مثل أثيوبيا التي كانت الى عهد قريب احدى بؤر المجاعة في افريقيا، ولم تتمكن من الوقوف أمام جيش صغير كالجيش الاريتري في نزاع الحدود، كيف تستأسد اليوم أمام دولة مركزية في القارة الافريقية والمنطقة العربية كمصر، فهل كانت ستقف هكذا لو أن الرابطة العربية كانت فعلا حية وحاضرة ولو في حدودها الدنيا.