قراءة في رواية: السّعلوة الفرات.. لغز الأزمنة الخافتة

أحمد العربي

أسماء شلاش روائية سورية واعدة، منتمية للثورة السورية، قرأت لها روايتها وطن في ١٢٠ دقيقة وكتبت عنها.
السّعلوة – الفرات.. لغز الأزمنة الخافتة، رواية أسماء شلاش الجديدة تعتمد لغة السرد على لسان الراوي…
تبدأ الرواية من تاريخ حياة زعتر الاول جد ابو زعتر الذي عايش الأحداث السورية في العقود الأخيرة المعاصرة، أما زعتر الأول فقد عاصر العثمانيين، هو من بلدة الطابوسة بجوار مدينة دير الزور السورية الواقعة على نهر الفرات، تتحدث الرواية بشغف و إسهاب عن نهر الفرات بصفته رمز الحياة والخصب والعطاء لأهله على طول مساره من جبال الأناضول مرورا بسوريا ثم العراق وعندما يلتحم بأخيه نهر دجلة عند شط العرب على الخليج العربي. النهر الذي كان يحمل الخصب والموت احيانا عند فيضانه. كان زعتر الاول متميزا بعلمه واطلاعه، والاهم انه كان يوثق كل ما يمر عليه وما يحصل في بلده الطابوسة وجوارها. وما خفي منها وعنها ما قبل زمانه وما بعده. لقد تحدث عن خيرات كثيرة كانت مدفونة في باطن الأرض، بعضها منذ عصور تصل لآلاف السنين. ومنها ما يعود الى العصر العثماني، فحيث النهر يسير تتالى الحضارات عليه، تزول وتعيد كرة البناء. في الطابوسة وعلى مسار نهر الفرات كنوز ذهب وآثار تعود لعصور مختلفة. وثّق زعتر الاول الحفريات الكثيرة التي كان يقوم بها الفرنسيون ايام احتلالهم لسوريا و انهم اخذوا الكثير من الكنوز والاثار، وتابع ابنه نهر الدين والد ابو زعتر التدوين بعد والده وتحدث عن استمرار الحفر بعد استقلال سوريا عن الفرنسيين. وان ذلك كان يحصل على يد عصابات التهريب وعلى يد أجهزة الأمن وأعوان النظام. وكانت الارض تجود بما فيها ويثري الكثيرين. لكن المتضرر الأول هم أهل طابوسة الذين لا ينتفعون من كنوز أرضهم بل تذهب لجيوب المهربين وأعوان النظام…
كما اقترن وجود بلدة الطابوسة مع اعتقاد راسخ قديم متوارث عن وجود حيوان غريب هو السعلوة تأكل بعض البشر وتغرقهم في ماء النهر وتلقيهم على جواره ، كانت السعلوة هي جواب الناس في طابوسة عن أي حادث مأساوي يمر بحياتهم ولا يجدون له تفسيرا. كما كانوا يزيدون من خيالهم حكايا ترتبط بهذه الحادثة أو تلك لتكتمل صورة معقولة للأحداث الغريبة التي تمر بهم. دون بحثهم الجدي عن الفاعل الحقيقي وراء ما يلقونه على الحيوان الأسطوري السعلوة الذي ادعى بعضهم أنه رآها وانها حاولت ان تستميل هذا او ذاك لكي تمارس معه الجنس، هي لا تلتقي بالنساء. وضحاياها الرجال فقط. لذلك عندما وُجدت تلك الغريبة الجميلة غريقة في النهر قبل عقود، اتهم أهل طابوسة نهر الدين والد أبو زعتر أنه أغرقها لأنها لم تلبي طلبه بعلاقة عشق محرّم…
كلها حكايا ليس لها من مصداقية إلا أنها تتواتر على لسان الناس وكأنها الحقيقة المطلقة…
ابو زعتر حفيد زعتر الاول وريث المعرفة المتراكمة التي وصلته من جده زعتر ووالده نهر الدين، وهو تابع بعدهم بتوثيق كل شيء يمر في الطابوسة وحولها، متعلم ذكي لماح يدرك كل ما يحيط به. يعتقد الناس انه يمتلك خرائط الكنوز في الطابوسة، وانه لم يلتقي بالسعلوة لأنها لم تجد به جاذبا جنسيا لها. والحقيقةةان وعيه لكونها وهما منع من توهم ظهورها امامه او ادعائه بلقائها مثل كثير من أهل البلدة من باب التفاخر… لدى أبو زعتر في البلدة خصم عنيد هو المختار، رغم كونه صديقه من ايام المدرسة، لكن المختار وابوه قبله، كانوا أدوات السلطة وعيونها للأمن ولسان حالها في كل شيء. بينما أبو زعتر كان نموذج الرجل صاحب الموقف والذي رفض ان يبيع نفسه للنظام الذي يسرق كنوز طابوسة وخيراتها وغير ذلك كثير. زيادة على ذلك كان بين المختار وأبو زعتر صراع ضمني على أم زعتر التي تزوجت ابو زعتر ورفضت المختار منذ عقود، وأصبح هذا ثأرا لا تبرد ناره ابدا…
ابو زعتر يعرف الكثير وهذا ماجعله خطرا على المختار وعلى مصالح النظام والمهربين والأمن… يعلم أن هناك حفر مستمر من رجالات يتبعون للنظام عن كنوز طابوسة وآثارها. حفر دائم ولُقيا لا تنتهي. وزاد في الموضوع سوءا طمر النظام للنفايات النووية في البلدة وجوارها. وكذلك في مواقع أخرى في دير الزور وتدمر. وتم كشف ذلك بعدما انتشر الموت بكثافة في البلدة واكتشاف طبيب من ابناء البلدة لكونها من تأثير الإشعاع النووي، مما أدى لاعتقاله وقتله في المعتقل… لم يكن النظام ومخبرهم المختار راضين عن أبي زعتر، فاعتقلوه لكثير من المرات. تعرض للتعذيب بجميع الانواع والأدوات. وتم التعدي على خصوبته الجسدية. فلولا أنه كان لديه أولاد خمسة قبل ذلك لما تمكن من الإنجاب أبدا…
لم تكن الطابوسة بمنأى عن ما يحصل في سوريا وفي العراق جوارها منذ بداية القرن الماضي. اغلب اهل الدير وجوارها هواهم عراقي. تفاعلوا من كل ما حصل فيها. حرب الأمريكان ضدها ومن ثم احتلالها من قبلهم. الذهاب إليها كل الوقت للعمل والتجارة، وعندما حصل الاحتلال الأمريكي للعراق ذهب الكثير من الشباب لقتال الأمريكان. بدفع من ضمائرهم و وجدانهم. وبتشجيع من رجالات دين يعملون بإمرة النظام. ليعودوا ويستثمرهم النظام بعد حين. حيث زجّهم في المعتقلات ليكونوا جنودا بعد الإفراج عنهم في القوى الجهادية التي حاربت النظام و الثورة السورية بعد ذلك ممثلة بالقاعدة وداعش…
ذهب أحد أولاد أبي زعتر للقتال مع العراقيين ضد الامريكان وقتل هناك. وهكذا أصبح أبو زعتر ابو الشهيد. أما ابنه الآخر فقد أصبح واحدا من داعش. حيث كانت قد حصلت الثورة السورية في ربيع عام ٢٠١١م ضد كل مظالم النظام. وامتدت إلى كل سوريا ووصلت إلى دير الزور والطابوسة واستطاع الجيش الحر تحرير الطابوسة، لكن داعش أخذت السلطة من الجيش الحر وسيطرت على دير الزور والطابوسة. داعش التي حاربت الثوار. ثم عادت وسلمت النظام مدينة دير الزور والطابوسة أيضا. في ذات الوقت كان أبو زعتر مستغرقا في مشاكله فقد قرروا ترك البلدة للعيش ببلدة جوارها هربا من الموت الناتج عن دفن النفايات النووية. وكذلك معاناته من التحاق ابنه بداعش وتحوله لعبئ نفسي واجتماعي عليه. بحيث تبرأ منه. كما أن أهل البلدة لم يتحرروا من اعتقادهم حول السعلوة ووجودها. وعندما عاد النظام مسيطرا على دير الزور والطابوسة حاول ابو زعتر العودة هو وعائلته إليها. لكن المختار اشترط عليه أن يقتل السعلوة حتى يسمح له بالعودة للبلدة. وهو كيف يقتل وهْما غير موجود ؟!!. احضر بندقية والده التي حارب فيها في فلسطين وبنى بيتا من الطين على شط الفرات وربض به ينتظر السعلوة ليقتلها. لكنه سرعان ما يختفي ولا يُعرف أين ذهب. ؟. ويتبين أنه وفي بحثه عن السعلوة وصل الى مغارتها. واكتشف فيها. بشرا بأعداد كبيرة مقتولين ومصابين معطوبين وأشلاء مبعثرة في كل ناحية. نعم لقد وصل إلى أحد الفروع الامنية للنظام. حيث القتل والتعذيب وتقطيع الأوصال والتمويت قتلا وجوعا. نموذجها صور قيصر. لم تذكر الرواية ذلك لكنها اومأت اليه…
هنا تنتهي الرواية..
في التعقيب عليها اقول:
السعلوة وجدت في الذهن الشعبي لتبرير ما يحصل من أمور غريبة وضارة لأهلنا هناك بجوار الفرات، وفي كثير من الامكنة ولو باسماء مختلفة. أما إخفاء للحقيقة أو لعدم تمكن الناس من معرفتها…
لكن السعلوة أصبحت بعد حين هي الوحش الكبير الرابض على حياة الناس الناهش لحومهم ووجودهم انه النظام المستبد القاتل…
سلطت الرواية الضوء على مكبات النفايات الإشعاعية في تلك المناطق وغيرها وما لم نعرف اين. وللعلم فهذه النفايات تستمر بتأثيرها الضار والمسرطن للبشر ولكل أشكال الحياة لملايين السنين…
سلطت الرواية الضوء على عظمة نهر الفرات والحضارات التي تعاقبت عليه عبر آلاف السنين. وحولت حوضه لخصب دائم يولد أسباب الحياة للبشر بجواره، و لكنوز ذهب وآثار نهبت كل الوقت ولم تعد على أهل سوريا والبلدات المحاذية بأي منفعة…
كما سلطت الرواية الضوء عن البترول المكتشف والمستخرج والمنهوب والذي لا يعود اي من ريعه على ميزانية الدولة والشعب السوري. هذا قبل أن يستحوذ عليه الامريكان وأدواتهم حزب العمال الكردستاني وقوات سورية الديمقراطية و مشروعهم الانفصالي الكردي هناك…
كما لا يغيب عن الرواية الجانب النسوي فهي تنير جوانب كثيرة منها أحوال المرأة و كفاحها وصبرها وتفانيها في سبيل عائلتها…
لم تقف الرواية كثيرا عند المبررات التي أدت للثورة على النظام. لكن المظلومية المجتمعية حاضرة. نموذج النظام المختار. ونموذج ابن الشعب الأصيل الواعي المعتقل ابو زعتر. ولم تتوسع في تحولات الثورة من السلمية الى العسكرة وولادة القاعدة وداعش وعودة النظام حاكما مطلقا استبداديا متوحشا على رقاب الناس مجددا…
لم تتطرق الرواية الى تقسيم سوريا بين محتلين متعددين فغير امريكا وال ب ك ك هناك إيران وروسيا والميليشيات الطائفية حزب الله وغيره. وبعض الشمال السوري المحرر تحت سلطة الجيش الحر برعاية تركية…
ماذا بعد السعلوة هي الجهل والتخلف والاستبداد والظلم والجانب الوحشي من الإنسان وغياب الوعي وهضم الحقوق…
أما الثورة فهي انتصار للحرية والعدالة والكرامة الانسانية والحياة الافضل…

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. رواية “السّعلوة الفرات.. لغز الأزمنة الخافتة” للروائية السورية “اسماء شلاش” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية تتحدث عن مبررات الثورة وسرقة ثروات الوطن من المحتلين وسلطة أمر الواقع اللاوطنية قسد/مسد بعد السعلوة هي الجهل والتخلف والاستبداد والظلم والجانب الوحشي من الإنسان وغياب الوعي وهضم الحقوق…والثورة انتصار للحرية والعدالة والكرامة الانسانية والحياة الافضل .

  2. قراءة وازنة لرواية رائعة
    دمتم متألقين ودام عطاؤكم الإبداعي الراقي أستاذ أحمد العربي

زر الذهاب إلى الأعلى