صدرت أخيراً وثيقة “إعلان الوطنية السورية”، بتوقيع عددٍ لا بأس به من السوريين. تُغلّب الوثيقة، كما يشير عنوانها، “الوطنية” على القومية. وتتناول المقالة هنا فهم كاتبها معنى هذا التغليب وقيمته السياسية.
في سورية، كما في “دول وطنية” كثيرة، مشكلة مستعصية على الحل، ناجمة عن التعارض بين النزوع الوطني، الذي يعني تغليب الانتماء إلى البلد الفعلي (سورية الحالية) الذي لم يختر حدوده أصلاً، والنزوع القومي الذي يعني ميل أبناء القوميات في البلد إلى التمتع بحقوق قومية كاملة، ومن ضمنها تكوين دولتهم القومية. لا يوجد حلٌّ نهائي لهذه المشكلة. هناك خياران سياسيان متعارضان، لكلٍّ منهما وجاهته الخاصة، وينشأ تعارضهما من التعارض الدائم بين القبول والتأقلم مع الإطار الحالي بوصفه الإطار “الوطني” النهائي، من جهة، والتطلّع والعمل لإنجاز وحدة قومية أو كيان قومي، من جهة ثانية. هناك منظوران: بين جعل مركز التفكير داخلياً ويُنظر إلى الخارج من خلاله، أو جعل الخارج مركزاً وموجهاً للنظر إلى الداخل والعمل فيه.
سوف يبقى هذا التعارض إشكالياً، أي مصدراً لإنتاج المشكلات، ولا مجال للخروج النهائي من هذا التعارض. إذا تناولنا سورية وطناً نهائياً لأبنائه، كما تذهب وثيقة إعلان الوطنية السورية، كيف ننكر على الكرد في سورية تطلعهم إلى تحقيق حلم الدولة القومية المجهض؟ وكيف ننكر على العرب السوريين ذلك أيضاً؟ لا يبدو لنا أن نبش التاريخ يقدّم حلاً للمشكلة، كما لا تحلّها التنظيرات الإنكارية، مثل التي ترى في الكرد السوريين قوماً وليس قومية، كمقدمة نظرية لإنكار الحقوق القومية الكردية في سورية. ولكن في المقابل، كيف ننكر على السوريين من غير الكرد رفضهم تحويل “وطنهم” إلى منطلقٍ لصراعاتٍ “قوميةٍ كردية” تتجاوز حدودهم وتُثقل على وطنهم؟ وبالدرجة نفسها، كيف ننكر على الكرد أن يروا في ما يستجرّه الانشغال السوري بالقضية الفلسطينية أمراً “قومياً عربياً” لا يعنيهم؟
بين حقوقٍ قوميةٍ مقرّة دولياً (حق تقرير المصير) وممنوعة دولياً بالدرجة نفسها (الاعتراف الدولي بالحدود السياسية للدول الأعضاء ورفض تغييرها بالقوة)، تطرح القضايا القومية في سورية (بشكل أساسي بين الكرد والعرب) مشكلات مستعصية.
حين يتوفر في البلد المتعدّد القوميات توافقٌ بين التوزّعين السكاني والجغرافي، يمكن التخفيف من التعارض المذكور من خلال إيجاد كيانات قومية داخل “الوطن”، أي كيانات حكم ذاتي بدرجاتٍ مختلفة، تندرج في الحكومة المركزية. التداخل السكاني في سورية يعيق هذا الحل، أو يجعله منطلقاً لإشكالات جديدة.
هناك من سوف يعترض على اعتبار سورية بلداً متعدّد القوميات، مؤكداً عروبة البلد. ولكن ماذا عن السوريين غير العرب؟ كيف يمكن حل إلحاقهم بقوميةٍ ليست قوميتهم؟ بكلام آخر: كيف يمكن بناء رابطة وطنية فعلية ومتينة بين السوريين، إذا كان سيتم إلحاق الوطنية السورية بقوميةٍ، أكانت قومية أغلبية أو أقلية؟
طوال تاريخ سورية، كانت “وطنية” الدولة محلّ خلاف وتنازع. الحزب القومي العربي الذي حكم سورية منذ 1963 اجتهد في سحق التطلع القومي للكرد السوريين. وفي فعله هذا، كان يسحق “الوطنية السورية” أيضاً وبالقدر نفسه. لم تكن الأنظمة السياسية السورية السابقة أكثر “ديمقراطيةً” مع حقوق الكرد، ولذلك كان هناك على الدوام اعتلالٌ وطنيٌّ في سورية مرافقٌ للاعتلال القومي. ويمكن القول إن مصدر الاعتلالين انشغال السلطة السياسية دائماً في ترسيخ “أبديّتها” على حساب كل المبادئ الأخرى، قومية كانت أو وطنية. على هذا، من المفهوم أن يجد أصحاب التطلعين، الوطني والقومي، أنفسهم في مواجهة الاستبداد.
اليوم تمرّ سورية بأكثر مراحلها الوطنية ضعفاً، في ظل الاحتلالات وخطوات التقسيم الصريحة والتشتت السياسي.. إلخ. وضمن هذه المعطيات، صدرت وثيقة إعلان الوطنية السورية، ولاقت قبولاً من سوريين كثيرين. والإعلان يحدّد خياراً أمام السوريين، هو تغليب الوطنية السورية على النزوعات القومية. وفي هذا نوع من القسر الذي لا مهرب منه، ولكنه من وجهة نظر الوثيقة الخيار الأنسب لسورية بوصفها “بيتاً” للجميع. هذا لا يعني أن ما جاء به الإعلان يعكس حقائق “علمية”، فالسياسة خيارات، والإعلان يحدّد خياراً سياسياً استراتيجياً لسورية، يحافظ على وحدة سورية وينطوي حكماً، بالتالي، على منع حق الانفصال.
من المفهوم أن يكون هناك خيار آخر يتضمن خيار الانفصال بوصفه أحد الحقوق القومية المعترف بها عالمياً. ولهذا الخيار وجاهته من منظور يعلي شأن القومية على الوطنية. ومن المفهوم أن يكون للعروبي السوري خيار يميل إلى العمل الوحدوي العربي، وكذا الحال في ما يخص الكرد، أو أن يكون للإسلامي السوري خيار لا يتقبّل فكرة “الدولة الوطنية”. دائماً كان في سورية مجال لوجود هذه الخيارات، غير أن إعلان الوطنية السورية يرى إلى نفسه أنه الخيار الذي قد يلائم الجميع، من حيث احتواء التنوّع ضمن الكيان الواحد، من دون تغليب لون محدّد من الألوان على الجامع الوطني الذي يتسع ويحتفي، في الوقت نفسه، ببروز كل الألوان.
يمكن أن يثار نقاش حول السؤال: ومن قال إن الكرد يريدون الانفصال حتى يجرى وضع خيارهم القومي في مواجهة الوطنية السورية؟ إذا كان الكرد لا يريدون الانفصال، وهم فعلاً لا يرفعون هذا المطلب، فإنهم يطالبون بحقوقٍ قوميةٍ منقوصة، وهذا لا يتعارض مع الإعلان. ولكن المشكلة أن حق الانفصال يبقى، بشكل طبيعي، في وجدان الكرد، أو نسبة مهمة منهم على الأقل، كما أن في وجدانهم تشكيل دولة قومية على أرض كردستان التاريخية. كما يبقى في وجدان السوريين العرب تطلّع لا يموت إلى بناء الوحدة العربية. هذا مفهومٌ، ولكن وضعه ضمن استراتيجية سورية يفتّ في عضد الوطنية السورية. هذا يعني أن الوطنية السورية القابلة للحياة لا تستجيب لهذه النوازع، وتنطوي بالتالي على إحباط أو قسر في وجه الخيارات البعيدة الأخرى.
هل يمكن تخفيف هذا القسر بأن يسمح لأصحاب النوازع القومية (أي من يغلبون نزوعهم القومي على الانتماء الوطني) بممارسة نشاطهم السياسي؟ بمعنى أن لا يتضمن الدستور منع النشاط السياسي الذي يتجاوز في أهدافه الوطنية السورية؟ في كل حال، ينبغي أن يكون في البال أنه لا يوجد في سورية حل نهائي للتعارض بين القومي والوطني، وأن الأمر خيار سياسي، وأن انتهاج خيار يعني مصادرة الخيارات الأخرى، ولكن المصادرة تتم هذه المرّة بوعي وإرادة تحتاج أغلبيةً وازنةً من السوريين، أو خيار جمعيةٍ تأسيسيةٍ منتخبة.
على الرغم من أن الواقع السياسي الناجم عن صراع قوى خارجية هو ما رسم حدود سورية الواقعية، وعلى الرغم من أن تجاوز هذا الواقع، تجاوباً مع تطلعاتٍ قومية، عربية كانت أو كردية، ليس في المتناول القريب، ولا البعيد ربما، فإن الوطنية السورية هي الابتكار السوري الممكن. ابتكار رابطة وطنية واعية وديمقراطية تتوافق مع الواقع “المفروض”، يتفتح فيها القومي بالقدر الذي تسمح به الرابطة الوطنية، قد يشكّل مخرجاً مقبولاً من التعارض بين القومي والوطني، وهو التعارض الذي يعيش في أحشاء سورية مثل ألمٍ لا يهدأ إلا لكي يشتد.
المصدر: العربي الجديد