
التغيير في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 أدخل سورية في المرحلة الأولى للتحوّل من الدولة التسلطية لآل الأسد إلى دولة الحق والقانون، ويبقى السؤال عن المراحل اللاحقة لنجاح العملية بعد تسعة أشهر. إذ يبدو أنّ إجراءات قيادة المرحلة الانتقالية، التي تواصل العمل بفلسفة “من يحرّر يقرّر”، كشفت أنّ المردود العام متواضع، إذ هناك مؤشرات تنذر بتراجع تدريجي للرصيد الإيجابي.
ولا شك إنّ التغيير المفاجئ حمل في طياته، كأي انتصار، فرصاً ومخاطر. الفرص بأن تعمل كل قوى المجتمع السوري، وفي مقدمتها قيادة المرحلة الانتقالية، لينعم السوريون بالأمن، والحرية، والسلام الأهلي، والتنمية الاقتصادية، والتموضع في إقليم الشرق الأوسط والمجتمع الدولي. وفي هذا السياق يحتاج الحكم الانتقالي لاعتماد مقاربة الحلول السياسية أكثر من الحلول الأمنية، فالأولى تبقى دائماً مضمونة، خصوصاً أنّ المبادر هو الحاكم، فيما خطورة الثانية تكمن في تعدّد اللاعبين، المحليين والإقليميين والدوليين، القادرين على أداء دور سلبي فيها، وهو ما يفرّغ المرحلة الانتقالية من مضمونها، وتعود سورية إلى عهود الظلام.
ويبقى على السوريين ترتيب أولوياتهم لتعظيم الفرص والحدِّ من المخاطر، تعبيراً عن تقاسم توقعاتهم نزعات الأمل والقلق في آن واحد حول التغيير في سورية الجديدة، وقد يكون من الصعب أن نقول: إنّ عملية التغيير تملك حلولاً سحريةً لكل مشاكل السوريين. خاصة أنّ سورية ورثت تركة ثقيلة: دولة متأخرة، ونفوذ جماعات تتسلط على مصالح البلاد والعباد، وإدارة اقتصادية غير حكيمة في إدارة الموارد الاقتصادية والبشرية بشكل عقلاني لإنتاج عناصر تطوير وتعظيم لها، وسجل حافل بانتهاكات حقوق الإنسان.
إنّ سورية الجديدة أمام تحديات حقيقية تستوجب تفعيل الخيارات الممكنة، من خلال إرادة سياسية صلبة، وإدارة عقلانية لكل الإمكانيات المتوفرة، بهدف التعامل مع الوقائع القائمة كما هي لا كما تتخيلها رؤى أيديولوجية مبسطة. فليس من الواقعية والعقلانية أن نغمض أعيننا عن مختلف الخيارات والقدرات التي يمتلكها الشعب السوري بكل مكوّناته، وذلك من خلال إعادة صياغة كل أسس قوته، بترتيب أوضاعه الوطنية، وإعادة ترتيب العلاقات مع العالم والموازين الإقليمية والدولية.
لقد أسهم الصراع في سورية وعليها في زيادة التحديات التي ستواجه عملية بناء دولة الحق والقانون، حيث تنتشر بين السوريين مفاهيم تقليدية تنتمي إلى هويات تقليدية، العشيرة والدين والمذهب، لم تصل إلى حدِّ الهوية الوطنية الجامعة في ظل الدولة الوطنية الحديثة. إذ ثمة تركة الدولة التسلطية، ووهم سهولة التحوّل، ومحدودية الثقافة الديمقراطية لدى النخب السورية، وقصور وعي التيارات السياسية، ونفور أغلب السوريين من السياسة، والتعصب القومي والطائفي والمذهبي، وقصور الخطاب الإسلامي السلفي السائد، وتعدد السرديات بين ثنائيات عديدة، وتحدي جمع السلاح.
فطالما أنّ أغلب الفصائل العسكرية تعتاش على الفوضى وغياب سيطرة الدولة، فإنّ فتح آفاق دولة الحق والقانون يتطلب جمع السلاح ووضعه تحت تصرّف دولة الحق والقانون. إذ إنّ سقوط النظام التسلطي لا يضمن عملية التحوّل نحو هذه الدولة، بل يمكن أن يسفر عن مظاهر من الفوضى والعنف.
كما أنّ السنوات الأربع عشرة للثورة كانت كاشفة لتمزّق النسيج الوطني، مما يؤكد ضرورة الانتقال إلى بيئة قانونية في سوريا الجديدة، تضمن الحقوق لكل مكوّنات الشعب السوري، من خلال إعادة بناء الدولة السورية، استناداً إلى الشرعية الدستورية والرضا المجتمعي. وهنا تبرز طريقة قيادة المرحلة الانتقالية في إدارة الدولة كعامل رئيسي، فإذا كانت تعمل على حماية مبدأ التنوّع ضمن إطار الوحدة، وتضمن الحريات الفردية والعامة والمساواة أمام القانون، يكون التنوّع والتعدد فرصة لتوظيف إمكانيات كافة مكوّنات الدولة في سبيل التنمية والتقدم والازدهار.
ومما يؤسف له أنّ مجزرتي الساحل والسويداء أثبتتا أنّ سلطات الأمر الواقع ليست بوارد اعتبار التنوّع السوري غنىً، وظهر ذلك من خلال الفزعات التي أطلقها ممثلوها للعشائر وقوى أمنها وجيشها. كما يظهر هذا الاستهتار بهذا التنوّع من خلال ” تسييس العدالة ” في تشكيل لجنتي التحقيق في المجزرتين، حيث غلب عليهما الطابع الأيديولوجي المنسجم مع التوجهات الإسلاموية للسلطة.
مما يستلزم مراجعة موضوعية ومتزنة لما تحقق حتى الآن، لمسارٍ يُفترض أن يقود البلاد نحو مرحلة استقرار سياسي، واقتصادي، واجتماعي، يتزامن فيه ترسيخ السلم الأهلي مع تحقيق تقدم ملموس في إطار العدالة الانتقالية، في ظل فكر مؤسساتي عصري يبني سلطات الدولة. وللأسف ما زلنا نجد استمرارًا للعنف والقتل خارج إطار القانون. إذ يُلاحظ وجود معاناة شديدة للأهالي العائدين، حيث يشار إلى وجود إهمال خدميّ واضح لهم في الكهرباء والماء والسكن والتعليم. إنّ التجديد الحقيقي هو ذلك الذي يقترن بخطوات متكاملة مع تحسين البنية التحتية، وخدمات النقل، والطاقة، والتعليم، وبناء مؤسسات دولة عصرية تضمن شمولية التحوّل وتوازنه.
وبعد أن حوّلت سلطة آل الأسد الدولة من فضاء عام لكل المواطنين إلى فضاء خاص لأهل الولاء للسلطة الأمنية، تكمن أهمية تقديم رؤية سياسية أخرى لسورية الجديدة، تتمحور حول أسئلة السياسة الرئيسية: تأكيد حيادية الدولة باعتبارها دولة كل مكوّنات المجتمع السوري، والتعاطي مع أسئلة الدولة والمواطنة والحريات العامة والفردية، والسياسة الخارجية التي تخدم مشروع إعادة الإعمار. ولا شك أنّ الأمر يتطلب إعادة هيكلة النظام السياسي، وإطلاق حرية تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وبناء جيش وطني حديث، تنخرط فيه كل مكوّنات الشعب السوري وليس الفصائل العسكرية التي اجتمعت في “مؤتمر النصر” فقط، إضافة إلى عدالة انتقالية، ومصالحة وطنية.
كما أنّ نجاح عملية التحوّل مرهونة بتوفّر التوعية السياسية المكثفة لقطاعات واسعة من الشباب والنساء، وتشكيل كتلة تاريخية واسعة من القوى السياسية العاملة من أجل نجاح هذا الخيار، والاستفادة من الدعم الدولي لما يخدم عملية الانتقال. مما يفرض على قيادة المرحلة الانتقالية تجاوز العصبية الأيديولوجية، من أجل إعادة بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة، إذ لم يعد – في عالم اليوم – ممكن البقاء بعيداً عن ثورة الحرية والكرامة للمواطن السوري.
إنّ توافقاً بين هذه القيادة والتيارات السياسية والمجتمعية قد يساهم بتطوير آليات التغيير المجدية، خاصة إذا تم التوافق على تشكيل مجلس للوفاق والإنقاذ يضم ممثلين عن كل المكوّنات الفكرية والسياسية للشعب السوري، بما يساعد على توسيع رقعة الحريات العامة، وتحريك وعي الجماهير، ودفع شرائح واسعة منها إلى الانغماس في خضم العمل السياسي العام. مما يفرض على قيادة المرحلة الانتقالية الدعوة الشاملة إلى الحوار الوطني المفتوح والمجدي والعملي مع القوى السياسية والمدنية والثقافية الأساسية، مما يرفع من شأنها في أعين المجتمع، ويفتح في المجال لتجسيد قيم التغيير وحاجاته في الواقع.
ومن جهة أخرى، باعتبار أنّ المنطقة مقبلة على تحوّلات تضبطها توازنات إقليمية وشروط القوى الدولية الكبرى، ثمّة إمكانية لرسم جديد لأدوار دول المنطقة. وفي هذا السياق، تندرج فرصة مكانة سوريا الجديدة، إذ إنّ الاحتضان الدولي والإقليمي لها يندرج ضمن إطار إعادة التموضع في الشرق الأوسط، مما يشكّل فرصة للسوريين يجدر بهم عدم تفويتها.
إنّ السوريين يأملون أن تتمكّن قيادة المرحلة الانتقالية من عدم تضييع فرصة إعادة التموضع في الشرق الأوسط الجديد، من خلال حرصها على ملاءمة خطابها البراغماتي في السياسة الخارجية مع سياسات داخلية تنتمي إلى قيم العالم المعاصر. كما يبدو أن مستقبل الاحتضان الإقليمي والدولي مرهون بمدى انتقال القيادة السورية الجديدة من الثورة إلى دولة الحق والقانون، وإقلاعها عن الرهان على مقولة “من يحرّر يقرّر”، ونجاحها في توظيف كل الموارد الاقتصادية والبشرية السورية، على قاعدة أهل الكفاءة لا أهل الولاء، في إعادة الإعمار.
وفي سياق هذه الالتزامات والضغوط المتعدّدة عليها، يمكن تفهّم ميلها للتهدئة مع إسرائيل، ضمن إطار مقاربة ناضجة، تأخذ بعين الاعتبار موازين القوى الحالية، إضافة إلى حاجة سوريا إلى الأمن والاستقرار لإعادة عجلة الاقتصاد وتلبية الحاجات الضرورية للمواطن السوري. وهنا يبرز السؤال عن المدى الذي يمكن أن تصل إليه عملية “التطبيع الناعم” تلبيةً للضغوط الأميركية والإقليمية، وهل تبقى في إطار تفادي التصعيد الإسرائيلي على أمل تفعيل اتفاقية “فك الاشتباك” لعام 1974، وتأجيل الحديث عن الانضمام إلى اتفاقات “السلام الإبراهيمي” ريثما ينفتح أفق السلام العادل، القائم على ضمانات وحدة الأراضي السورية؟
وفي هذا السياق، تواجهنا عدة أسئلة وتحديات: هل ستكون الجمهورية السورية الثالثة دينية أم مدنية؟ ما مدى ضمانها للحريات الفردية والعامة بما فيها حرية المعتقد؟ وكيف يتم تأمين تداول السلطة والفصل بين السلطات الثلاث. كما يتطلب طمأنة تلك الدول، بأن الهدف الأساسي للسياسة الخارجية السورية هو المساهمة في خلق وضع إقليمي ودولي، يتمتع بالتعاون المشترك من أجل التنمية، والاحترام المتبادل، والشراكات الاستراتيجية، ونبذ التطرف.
إنّ تجاوز مرحلة الاستبداد وإعادة السلم الأهلي ووحدة المجتمع يتطلبان تهيئة النفوس بردِّ المظالم وإعادة الحقوق لأصحابها، والتعويض للمتضررين، والكشف عن مصير المفقودين، وتحديد المسؤوليات، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية. وأكثر ما يهدد هذه العدالة هو العمى الأيديولوجي لدى البعض والتعصب الفئوي لدى البعض الآخر، اللذان ينذران بنشوء بؤر متفجرة للنزاعات الطائفية والقومية، ما يفسح في المجال أمام احتمال إسقاط مشروع التغيير السياسي في أتون الفوضى والصراع الأهلي. إذ إنّ العدالة الانتقالية في سوريا تهدف إلى إطلاق المصالحة المجتمعية الشاملة، لكي تتمتع الأجيال المقبلة ببيئة اجتماعية سليمة، غير مشوّهة بأحقادٍ أو مساعٍ للثأر. كما أنها المدخل اللازم لنجاح عملية الانتقال السياسي، والاعتراف بحقوق ضحايا النظام التسلطي وقوى الأمر الواقع الأخرى، وبعد التغيير إلى مجزرتي الساحل والسويداء وتفجير كنيسة مار الياس في ريف دمشق، ولمنع تكرار ما حدث.
المخاطر التي أظهرتها الشهور الماضية
بعد تسعة أشهر من التغيير بدا حصاد سلق الحوار الوطني، وتجاهل أهمية عقد مؤتمر وطني حقيقي، واستبعاد المشاورات مع المنظمات السياسية والحقوقية، والإعلان الدستوري الذي صادق عليه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، وقد تمت مخالفته مؤخراً من خلال إصدار مرسومين، كما ذكر مختصون في الشؤون الاقتصادية: أولهما، ينص على إحداث مؤسسة تحت مسمى “الصندوق السيادي” وتتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وترتبط مباشرة برئاسة الجمهورية. وثانيهما، آخر يعدل فيه قانون الاستثمار، يسمح للرئاسة بالتصرف بممتلكات القطاع العام والاستثمار بمعزل عن الوزارات أو السلطة التشريعية. مما يعكس إطار قانوني غير خاضع للمساءلة، إذ لا توجد أي جهة رقابية مستقلة، ولا إلزام بنشر تقارير مالية دورية. وبهذه الطريقة، يُعاد تسويق تركيز السلطة كخطوة ” إصلاحية “، لا كمخاطر على مستقبل الاقتصاد السوري.
كما أدى إغلاق باب قانون الأحزاب، إلى تسييس أدوار مشايخ وعملقتها في الفضاء العام، كناطقين رسميين باسم السلطة. إنّ الخلط بين الدين والدولة يُنتج سلطة لا تُحاسب، لأنها تستمد شرعيتها من السماء لا من الناس. وفي مثل هذه السلطة، لا يمكن للمعارضة أن تكون سلمية، لأنها لا تواجه قراراً إدارياً، بل مواجهة يُراد لها أن تبدو كفراً بالقيم الأسمى. بل إنّ قرار 53 الصادر عن وزارة الخارجية، في 27 آذار/مارس الماضي، بإنشاء ” الأمانة العامة للشؤون السياسية “، باعتبارها بوابة لتنظيم العمل السياسي، يصادر القانون الذي ينتظره نشطاء الشأن العام، والذي كفله الإعلان الدستوري، في 13 آذار/مارس، حيث ورد في المادة 14 ” تصون الدولة حق المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسس وطنية وفقاً لقانون جديد، وتضمن الدولة عمل الجمعيات والنقابات “. في حين أننا أحوج ما نكون بحاجة إلى عدم احتكار العملية السياسية، والبحث عن أوسع توافق بين أغلب التيارات السياسية الفاعلة، على قاعدة الحلول الواقعية للتعاطي مع تحديات هذه المرحلة الصعبة.
كما يبدو أنّ هناك فصائل متطرفة مسلحة ذات أيديولوجيات سلفية جهادية تعمل في إطار مقولة ” الولاء والبراء “، ترفض الانخراط في المؤسسات الأمنية للدولة السورية الجديدة، مما يعكس عجزاً لسلطة المرحلة الانتقالية عن السيطرة على هذه الفصائل، ويهدد بالمزيد من المخاطر الأمنية. مع العلم أنّ التاريخ السوري المعاصر يشير إلى أنّ الفكر السلفي الجهادي غريب عن البنية الثقافية لمسلمي المجتمع السوري، ومما يؤسف له أنّ العديد من المشايخ والأمراء في مواقع المسؤولية يبررون القتل الطائفي بوصفه سلوكاً فردياً لعناصر غير منضبطة، بالرغم من تهديده للسلم الأهلي ولمستقبل سوريا الجديدة.
ومما يؤسف له أنّ السوريين كانوا ينتظرون إعلان هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية ذات مصداقية، ولكنهم فوجئوا بالعفو عن العديد من مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في العهد البائد، بل تعيينهم في لجان السلم الأهلي!! الأمر الذي جعلهم يشككون في احتمال تطبيق مبادئ العدالة على ” إخوة المنهج “، والعمل الجدي على منع ازدهار خطاب التطرف، بل التدخل في الحريات الفردية والعامة للمواطنين، بذريعة ” الخصوصية الثقافية “، التي تراها قوى التطرف وأجهزة الأمن في ملبس ومشرب السوريين والسوريات، وكأن هذه الحريات هي مصدر تهديد السلم الأهلي وليس قوى التطرف والإرهاب.
ويمكن للتعصّب والإرهاب أن يكون سبباً في تفكك الدولة والمجتمع، فعندما تكون ” الهوية الدينية ” عاملاً وحيداً للتماسك الاجتماعي، لاسيما في المجتمعات المتعددة المكوّنات الدينية والمذهبية والقومية، كما هو الحال في سوريا، فإنها تصبح مورد التعبئة والتحشيد العام الوحيد لأصحاب مشروعات الهوية المغلقة.
كيف نعظّم الفرص ونحدُّ من المخاطر
تتطلب المرحلة الانتقالية إدارة رشيدة للتعاطي المجدي مع تحديات بناء دولة الحق والقانون، دولة مواطنيها الأحرار المتساويين في الحقوق والواجبات، طبقاً لمؤسسات وقيم التحوّل المتدرج. مع العلم أنّ نجاح عملية التحوّل مرهون بتوفّر: التوعية السياسية المكثفة لقطاعات واسعة من الشباب والنساء، وتشكيل ” كتلة تاريخية ” واسعة من القوى السياسية العاملة من أجل نجاح هذا الخيار، والاستفادة من الدعم الدولي لما يخدم خيار هذا البناء، وقطع الطريق على قوى الثورة المضادة. وهذا يدعونا إلى القول إنه من دون معارضة وطنية حقيقية تسهم في ترشيد سلوك السلطة، وتهذّب نزعات الاستبداد الكامنة فيها، وتساعدها في حماية مصالح البلد من التهديدات والتحدّيات الداخلية والخارجية، يغدو مصير سوريا، فعلاً وقولاً، في مهبّ الريح.
إنّ تحديات كثيرة ستواجه سورية في المرحلة الانتقالية، مما يتطلب تأسيس أحزاب سياسية نوعية ومختلفة، حاضنتها الاجتماعية من شابات وشباب سورية، وبوصلتها المصالح العليا للشعب والوطن، ترفع ألوية الفكر والسياسة والواقع، بدل الأيديولوجيا التي قتلت الفكر والروح، تتبنى الديمقراطية منهجاً وقيماً وسلوكاً وعملاً، تؤمن بالعمل المشترك مع الآخرين، وتعمل بالعقلية المؤسساتية، بما تقتضيه من فرق عمل متناغمة ومتكاملة وذات جدوى، تقيم حياة حزبية داخلية ديمقراطية، مؤسسة على الشفافية والمحاسبة والنقد والمراجعة، والانتشار الأفقي بين مختلف المكوّنات السورية، على أساس برامج تستجيب لتطلعاتها.
إذ إنّ المعارضة السياسية المشروعة تشكّل متنفّساً للمجتمع لممارسة حقّه في التعبير عن رأيه، عبر ممثليه في المؤسّسات الوطنية أو عبر وسائل الإعلام، لأن البديل يكون، عادة، اللجوء إلى الشارع، مع ما يعنيه ذلك من احتمال الانزلاق إلى العنف والفوضى. بهذا المعنى، تؤمّن المعارضة طرقاً شرعية، سلمية ومنظّمة، للتعبير عن الرأي المخالف، والضغط عبر الإعلام، والرأي العام، والأحزاب السياسية، لتبنّي سياسات بديلة، تقيّد الاستبداد، بما في ذلك طغيان الأغلبية السياسية المُنتخَبة.
في هذا السياق، يجدر بالمعارضة السورية بكل أطيافها، أن تبحث عن أشكال متطورة للحضور الشعبي الكثيف، خاصة من الشباب والنساء، في فعالياتها السلمية، كي تضمن استكمال عملية التحوّل المطلوب. بعد أن أصبح إنجازه، في كافة البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ضرورة للتمكن من التعاطي المجدي مع تحولات العالم المعاصر طبقاً للمصالح الوطنية السورية العليا. ولعلَّ برنامجاً تشاركياً شاملاً يساعد على الخروج من خيارات الماضي، الذي يفتقد حرارة التواصل مع الحاضر والمستقبل، إلى خيارات المستقبل التي تفتح الأفق أمام انطلاق مبادرات كل مكوّنات الشعب السوري.
ولا شكَّ أنّ نجاح أي مشروع للتغيير مرتبط بإجراء إصلاح سياسي شامل، مقدماته الضرورية تقوم على إلغاء كل القيود على الحريات الفردية والعامة، وتقوم أيضاً على الدعوة إلى استقلال القضاء وسيادة القانون، إضافة إلى كل أسس النظام الديمقراطي، بما يضمن قيام دولة حق وقانون قوية وعادلة.
ومن غير الممكن تصوّر سوريا لكل مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة. إذ من الصعوبة بمكان إعادة بناء الدولة السورية الجديدة، بعد ديمومة الاستبداد لـ 54 سنة، دون فضاء سياسي ومدني تعددي، يقطع مع الاستبداد وينهي حكم الميليشيات العسكرية، ويمنع إدارة المرحلة الانتقالية بعقلية فئوية.
فهل تستجيب قيادة المرحلة الانتقالية للمخاطر الكبرى، خاصة التفرد في السلطة، وهيمنة الديني على السياسي، وسيطرة قادة أجانب على مفاصل أساسية في مواقع الجيش والأمن. بحيث نقتنع أنّ الدولة فضاء عمومي لكل المواطنين يحكمه القانون المتوافق عليه، مما يفترض تقديم أهل الكفاءة والوطنية والمصداقية على أهل الولاء الذين يدّعي بعضهم حصوله على شهادات جامعية.
نحن اليوم لا نحتاج مجرد دولة جديدة، بل مجتمع جديد. إذ إنّ أيَّ مشروع سياسي بدون قاعدة اجتماعية واعية، سيفشل كما فشلت المشاريع السابقة.
المصدر: الجمهورية نت