
ليست هذه المرة الأولى التي يلمّح فيها الأوروبيون إلى ضرورة الاعتراف بدولة فلسطين، لكنها المرة الأولى التي تُقرع فيها الطبول الدبلوماسية في وجه إسرائيل بهذا العنف. من داخل باريس، مرورًا بلندن، وصولًا إلى مدريد، تتزايد الأصوات التي باتت تجد في “حل الدولتين” بوابة للنجاة الأخلاقية من مجزرة متواصلة.
وفي ظل الانقسام الدولي، وسقوط المصداقية عن كثير من المؤسسات الأممية، يبدو أن أوروبا تعيد تموضعها في المشهد الفلسطيني… لكن بأي شروط؟ ولصالح من؟
التحول في الوعي السياسي الأوروبي
مع استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تفاقمت الأوضاع الإنسانية إلى حد المجاعة والتجويع الممنهج، بحسب منظمات الأمم المتحدة. هذا الانحدار الأخلاقي في المشهد دفع شرائح واسعة من المجتمع الأوروبي إلى التحرك، بدءًا من مظاهرات يومية في لندن وباريس وأمستردام، مرورًا ببيانات من نقابات عمالية واتحادات طلابية، وانتهاء بمواقف قوية من شخصيات أكاديمية وفنية.
وأمام هذا الضغط الشعبي، لم يعد من الممكن للحكومات الأوروبية الاستمرار في سياسة “الصمت الأخلاقي”. وقد أُجبرت على مراجعة موقفها المساند لإسرائيل من دون قيد، ما دفعها للتلويح، لأول مرة منذ عقود، بفرض عقوبات أو إلغاء اتفاقات وشراكات تجارية وعسكرية.
الاعتراف جاء مشروطًا، ضمن ما سُمّي بـ”إعلان نيويورك”، بضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وأن تُنقل السلطة في غزة إلى السلطة الفلسطينية
الاعتراف كرمز أم أداة سياسية؟
في أيار 2024، بادرت إسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا إلى الاعتراف بدولة فلسطين. ثم تبعتها دول أخرى أعلنت نيتها المضي قدمًا بالاعتراف الرسمي، من بينها فرنسا وبريطانيا وهولندا، خلال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2025.
لكن الاعتراف جاء مشروطًا، ضمن ما سُمّي بـ”إعلان نيويورك”، بضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وأن تُنقل السلطة في غزة إلى السلطة الفلسطينية، وأن تنبذ فصائل المقاومة العمل المسلح.
هنا تكمن الإشكالية: هل يمكن الحديث عن اعتراف جدي بدولة في الوقت الذي تُحرَم فيه من حقها الطبيعي في الدفاع عن نفسها؟ هل يمكن بناء دولة تحت الاحتلال، من دون سيطرة على الحدود، والمياه، والمعابر، والسيادة الجوية والبرية؟
بل الأخطر من ذلك، أن الاعتراف لا يُلزِم إسرائيل بأي تعهد مقابل، مثل وقف الاستيطان أو رفع الحصار أو الاعتراف المتبادل. لذا، يبدو هذا الاعتراف أقرب إلى إعلان نوايا سياسية، لا يلامس جوهر السيادة الفعلية.
الدور الأميركي الغائب… هل تتحول أوروبا إلى لاعب مستقل؟
في مشهد بدا لافتًا، ظهرت أوروبا وكأنها تسعى إلى “الاستدارة عن واشنطن”. ففي حين ظلّ الفيتو الأميركي حجر عثرة أمام أي تقدم في ملف الاعتراف الدولي أو وقف الحرب، وجدت بعض الدول الأوروبية نفسها محرجة أمام شعوبها، مما دفعها لمحاولة ملء الفراغ.
لكن هذا التحول لا يزال محدودًا. فمع أن فرنسا أعلنت نيتها الاعتراف بدولة فلسطين، إلا أن بيانها الرسمي لم يربط الاعتراف بأي التزام إسرائيلي واضح، مثل وقف الاستيطان أو إنهاء الحصار. كما لم تجرؤ أي من الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي على الاعتراف بفلسطين كعضو كامل في الأمم المتحدة، خشية الصدام مع واشنطن أو لوبيات الضغط المؤيدة لإسرائيل.
ورغم التصعيد الخطابي ضد إسرائيل بعد استهداف المدنيين وتقييد الإغاثة، لا تزال الإجراءات الفعلية غائبة، مما يجعل من “التحول الأوروبي” عملية جزئية قد لا ترقى إلى مستوى كسر التبعية التاريخية للموقف الأميركي.
هل يفتح الاعتراف الباب للمساءلة القانونية؟
الاعتراف بدولة فلسطين، ولو كان رمزيًا، قد يُستخدم لتعزيز الصفة القانونية للدولة الفلسطينية، ما يُقوّي موقفها أمام المحاكم الدولية، وعلى رأسها محكمة الجنايات الدولية. ويتيح تقديم شكاوى جديدة أو تقوية دعاوى سابقة ضد قادة الاحتلال المتهمين بارتكاب جرائم حرب.
لكن حتى الآن، لم تُقدم أي من الدول الأوروبية على خطوات عملية لمواءمة هذا الاعتراف مع التزاماتها القانونية، مثل تعليق التعاون العسكري أو مراجعة الاتفاقيات الاقتصادية. ويبقى هذا الاعتراف، بلا أدوات تنفيذ، محصورًا في الإطار الرمزي، ما لم يتحوّل إلى مدخل لمساءلة قانونية حقيقية.
هل الاعتراف ورقة لتخفيف الحصار على غزة؟
رغم ربط بعض المسؤولين الأوروبيين الاعتراف بالوضع الإنساني الكارثي، إلا أن المقالات والسياسات لا تُشير بوضوح إلى أن الاعتراف قد يُستخدم كورقة ضغط لفتح المعابر، أو فرض شروط أكثر إنسانية في توزيع المساعدات.
في هذا السياق، يبرز تساؤل مهم: هل من الممكن أن يُستثمر هذا الاعتراف سياسيًا لتحسين شروط الإغاثة، وتأمين حماية أكبر للمدنيين في غزة؟ أم سيبقى خطوة سياسية رمزية لا تُلامس الواقع القاسي للفلسطينيين على الأرض؟
الدولة المنشودة لن تُبنى ببيانات أممية، بل بتمكين فعلي للشعب الفلسطيني من حقوقه، وعلى رأسها حق تقرير المصير.
بين الحق الفلسطيني والانتهازية السياسية الغربية
يُثير التوجه الأوروبي تساؤلات مشروعة: هل هذا الاعتراف جاء نتيجة لإدراك حقيقي لعدالة القضية الفلسطينية؟ أم هو محاولة لاستعادة موقع سياسي فقدته أوروبا لصالح لاعبين إقليميين مثل قطر وتركيا؟ هل تحاول أوروبا “شراء الشرعية الأخلاقية” عبر اعتراف لا يتبعه التزام؟
ومن زاوية أخرى: هل الاعتراف وسيلة لإغلاق ملف فلسطين أم لفتحه من جديد؟ هل هو احتواء لحالة التضامن الشعبي المتزايد، أم استجابة حقيقية للانتهاكات المستمرة؟
في المقابل، تُطرح مخاوف من أن تُضطر السلطة الفلسطينية إلى تقديم تنازلات سياسية أو التماهي مع “الدولة منزوعة السلاح” المطروحة، مقابل مكاسب شكلية، في وقت يُغلق فيه باب الخيارات الوطنية الأخرى، وفي مقدمتها إنهاء الانقسام والذهاب لحكومة وحدة وطنية.
الاعتراف وحده لا يكفي
لا شك أن الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين يحمل دلالة رمزية كبيرة، ويكسر احتكار الرواية الصهيونية في الغرب، ويفتح الباب أمام مساءلات قانونية لاحقة.
لكن، في غياب خطوات موازية لإزالة الاحتلال، ووقف الاستيطان، ورفع الحصار عن غزة، يظل الاعتراف بلا سيادة. فالدولة المنشودة لن تُبنى ببيانات أممية، بل بتمكين فعلي للشعب الفلسطيني من حقوقه، وعلى رأسها حق تقرير المصير.
وقد لا تكون هذه التحولات نهاية حقبة الدعم الغربي غير المشروط لإسرائيل، لكنها بالتأكيد بداية اضطراب واضح في ثوابت بدا أنها لن تهتز. ومن غزة التي تنزف، إلى نيويورك التي تصوّت، يكتب الفلسطينيون روايتهم بدمهم، فيما يحاول العالم أخيرًا أن يسمعها… ولو على خجل.
المصدر: تلفزيون سوريا