
لم تعد الدولة الفلسطينية المستقلّة ذات السيادة على بعد مرمى حجر أو حجرَيْن، كما كنا نهتف ونردّد أيام الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة، في أواخر الثمانينيّات وبداية التسعينيّات من القرن الماضي. هتفنا وردّدنا، وكان الخذلان وانكسار الحلم من نصيبنا سنوات كثيرة. أمّا بعد 22 شهراً من الحرب المدمّرة للإنسان والمكان والبنيان في قطاع غزّة، وما رافقها (وما زال) من ممارسات احتلالية إجرامية في الضفة الغربية، يُخشى أنّ الدولة الفلسطينية المشتهاة صارت على بعد جيل. ليس ذلك من باب التشاؤم أو الواقعية السياسية الفجّة، وإنما بناءً على قراءة نقدية للواقع الفلسطيني، مع محاولة استكناه التحوّلات الماثلة والمحتملة وإمكانيات التجاوز. والقراءة النقدية هذه تستبعد حصول قفزات مفاجئة كبرى تنقل الفلسطينيين من واقع نكبة وارتداداتها المحلّية والإقليمية إلى واقع تجسيد الدولة المستقلّة خلال فترة زمنية وجيزة. الانتقال من واقع النكبة إلى واقع الدولة المستقلة عسير وطويل ويحتاج إلى كثير من العمل والتضحيات والظروف المحلّية والإقليمية والدولية المواتية. ولا أظنني أبالغ كثيراً حين أقول: أخشى أن الدولة الفلسطينية المستقلّة قد صارت على بعد جيل، على خلفية نكبة فلسطينية ثانية ما زالت في خضمّها.
رغم نقائصه، أفلح مؤتمر نيويورك في إعادة حلّ الدولتَين إلى السكّة التي حاد عنها سنوات
نحن في خضمّ نكبة فلسطينية ثانية، مركزها قطاع غزّة، ومحيطها الضفة الغربية والداخل والفلسطينيون في دول الجوار العربية، نكبة إبادة جماعية في قطاع غزّة يتخلّلها التدمير والتجويع، ويرافقها شبح التهجير الذي لا يكفّ عن التحليق. وأحوال بقية الفلسطينيين المذكورين، هي أحوال دول الجوار العربية ذاتها، لا تبشّر بالخير (أقلّ ما يُقال). غني عن القول إن من التبعات المتوخّاة لهذا العدوان الإسرائيلي الإبادي، بل من أهدافه الرئيسة، سدّ الطريق على الدولة الفلسطينية المستقلّة، التي تجمع بين شطري الوطن، قطاع غزّة والضفة الغربية. ولكن الغريب (والمفرط في الغرابة حقّاً) أن مثقّفين وسياسيين فلسطينيين وعرب يعتقدون جازمين بأن الانتقال من واقع هذه النكبة إلى واقع الدولة المستقلة قد بات أقلّ عسراً (أو بعداً) ممّا كان عليه سابقاً. وهذا الاعتقاد يفسّر من بين أشياء أخرى ذلك التوق الجامح للحصول على اعتراف بالدولة الفلسطينية من دول أوروبية وازنة مثل فرنسا وبريطانيا وغيرها. كما ويفسّر تلك الحماسة المفرطة لمُخرجات المؤتمر الدولي الذي انعقد في نيويورك برعاية كلّ من فرنسا والسعودية في أواخر يوليو/ تموز المنصرم، التي تمحورت حول إعادة إحياء مبادرة حلّ الدولتَين، الذي قوّضته حكومات نتنياهو المتعاقبة. ومن دون إنكار أهمية المؤتمر المذكور ومُخرجاته، مذيّلةً باعتراف فرنسا الموعود بالدولة الفلسطينية، الذي على الأرجح سيتبعه اعتراف بريطانيا وألمانيا ودول وازنة أخرى مثل كندا وأستراليا، في ترسيخ الالتزام بحلّ الدولتَين، إلا أن السؤال/ الهاجس الذي يؤرّق المَضجِع: كيف ستنقلنا مُخرجات مؤتمر كهذا من واقع النكبة الثانية، وارتداداتها المحلّية والإقليمية بعيدة المدى، إلى واقع الدولة المستقلّة المرجوّة خلال فترة وجيزة أقصاها 15 شهراً؟
لا يجوز التقليل من أهمية المؤتمر الدولي المذكور ومُخرجاته، أو الانتقاص من صدق نيّات القائمين عليه والمشاركين فيه، فهناك شبه إجماع تشارك فيه جميع الدول صاحبة العضوية الدائمة في مجلس الأمن (ما عدا الولايات المتحدة)، على ضرورة تحقيق حلّ الدولتَين المتجاورتَين بأمن وسلام على أساس حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، وحول القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة، تلك الدولة التي يجب أن تجمع بين الضفة الغربية وقطاع غزّة. وهناك في المقابل رفض واضح وقاطع لأيّ إجراءات وممارسات إسرائيلية تتنافى مع ذلك، مثل الضمّ أو التهجير أو تكثيف الاستيطان أو تدمير المنازل وتشريد سكّانها. وهناك (ثالثاً) التزام بدعم وحماية السلطة الفلسطينية، والاعتراف بها دولةً مستقلّةً، وذلك رهن إصلاحها ودمقرطتها. مواقف واضحة وواعدة وجدت تعبيراً لها في البيان الختامي، وذلك رغم ما يعتري تلك المواقف من النقائص، وفي رأسها غياب التلويح الصريح بإجراءات عقابية رادعة ضدّ إسرائيل، التي ترفض حكوماتها المتعاقبة التزام قيام دولة فلسطينية مستقلة. وهل تجرؤ معظم الدول التي باركت البيان الختامي على فرض عقوبات رادعة ضدّ إسرائيل إذا كان الموقف الأميركي رافضاً لذلك؟!… يستبعد صاحب هذه السطور ذلك، فالموقف الأميركي، كما نعرف جيّداً، ما زال غير متحفّظ في دعم إسرائيل وحمايتها.
حالم أو مفرط في التفاؤل من يعتقد بإمكانية الانتقال من واقع نكبة ما زالت في خضمّها، إلى واقع تجسيد الدولة الفلسطينية المرجوة، خلال 15 شهراً
ورغم النقائص المذكورة (وغيرها)، أفلح المؤتمر في إعادة حلّ الدولتَين إلى السكّة التي حاد أو حُيّد عنها سنوات كثيرة بفعل المواقف والممارسات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلّة. وعلى المدى القصير، قد تساعد مُخرجات مثل هذا المؤتمر، واعتراف دول أوروبية مؤثّرة (وغيرها) بدولة فلسطين لاحقاً، في لجم الاستيطان وعنف المستوطنين وإحباط مخطّط الضمّ في الضفة الغربية، والتصدّي لمخطّط التهجير والتطهير العرقي في قطاع غزّة، على سبيل المثال. غير أن الانتقال من واقع النكبة إلى واقع الدولة المستقلّة يتطلّب اتخاذ إجراءات عقابية أشدّ إيلاماً، وأكثر ردعاً من ذلك كلّه، وهو ما لا نراه قادماً خلال السنوات القليلة المقبلة، أساساً بسبب الموقف الأميركي المناهض له.
حالم أو مفرط في التفاؤل كلّ من يعتقد بإمكانية الانتقال من واقع نكبة ما زالت في خضمّها، إلى واقع تجسيد الدولة الفلسطينية المرجوة، واجتياز المطبّات و”الاختناقات المرورية” في الطريق، خلال فترة أقصاها 15 شهراً، فهي فترة لا تكفي حتى لإزالة ملايين الأطنان من الركام والتعرّف إلى هُويَّات الآلاف من الغزّيين المفقودين. ومفرط في التفاؤل أيضاً كلّ من يعتقد أن نهاية الدولة اليهودية صارت وشيكة. ولكن هذا الحشد غير المسبوق من الدول التي باركت البيان الختامي، وسيتبعه اعتراف دول وازنة ومؤثّرة بدولة فلسطين، يقول ما مفاده: لا بديل من (ولا مناص من) حلّ الدولتَين، وعاجلاً أوجب وأفضل منه آجلاً. وإذا كانت مستبعدة إمكانية الانتقال من واقع النكبة الثانية إلى واقع الدولة المستقلّة خلال فترة زمنية وجيزة، فإن في نهاية النفق المظلم والمرعب الذي نحن فيه هناك شعلة ضوء، وهناك إشارة مرور مضاءة لطريق باتجاه واحد نحو الدولة الفلسطينية المستقلّة، حتى ولو كانت على بعد جيل.
المصدر: العربي الجديد