حراسة “الازدهار” الأميركي في الشرق الأوسط

رانيا مصطفى

أعلنت الولايات المتحدة، على لسان وزير دفاعها، لويد أوستن، إنشاء تحالف “حارس الازدهار” لحماية الملاحة في البحر الأحمر من هجمات أنصار الله (الحوثيين) التي استهدفت حركة الملاحة في البحر الأحمر من إسرائيل وإليها، فضلاً عن استهدافها ميناء إيلات بالمسيّرات والصواريخ الباليستية. وجاء الإعلان ضمن استراتيجية أميركية للحفاظ على مصالحها وإعادة ترسيخ نفوذها في الشرق الأوسط، مع شعورها بتراخي هذا النفوذ أمام تصاعد اهتمام الصين وروسيا، العسكري والاقتصادي في أفريقيا والعالم العربي من جهة، وتراجع هيبتها بسبب الفشل العسكري الإسرائيلي في حسم المعركة في غزّة، وما سينتج من ذلك من صعوبة تنفيذ الممر الاقتصادي الهندي إلى أوروبا عبر ثلاث دول عربية وإسرائيل. ربما كان القصد بـ”الازدهار” الذي سيحرُسه التحالف الجديد، المصالح والنفوذ الأميركيين، والذي يتلاقى مع المصالح الأوروبية، في استقرار الدولة الصهيونية وإنشاء الممرات البرّية وحماية الممرّات البحرية، خصوصاً للحؤول دون ارتفاع أسعار النفط عالمياً، بسبب كلف النقل الإضافية.

جاءت الاستجابة الأوروبية للانضمام إلى التحالف دون المستوى المطلوب من واشنطن، حيث نأت فرنسا وإيطاليا وإسبانيا بنفسها عنه، واكتفت دول أخرى بتقديم أعداد قليلة من الضباط والآليات العسكرية. لم تعد تلك الدول تثق بالولايات المتحدة، بسبب أدائها في الحرب الروسية الأوكرانية، وتضرّر تلك الدول من إطالة أمد الحرب، وأن واشنطن وتفرّدها بقيادة حلف الناتو هي التي سبّبت اندلاع تلك الحرب؛ وأيضاً بسبب رفضها إيقاف النار في غزّة في مجلس الأمن، وتبنّي الرواية الإسرائيلية، وبشكل فظّ يُحرج حكومات تلك الدول التي تشهد شوارعها مظاهرات مندّدة بالعدوان الإسرائيلي.

لم تعلن الدول العربية، عدا البحرين، استجابتها للطلب الأميركي الانضمام إلى التحالف، وهذا يشكل ضربة كبيرة لطبيعة العلاقة بين واشنطن وحلفائها العرب، بسبب فقدان الثقة أيضاً، ولأن هذه العملية تبدو كأنها حماية لتجارة الكيان الصهيوني، وهذه الدول تحاول الاحتفاظ بموقف الاعتدال من إسرائيل، في ظل عجز الأخيرة عن حسم المعركة في غزّة. وربما كان “حارس الازدهار” الاسم المحيّر الذي اختارته واشنطن على عجل لتحالفها الجديد، يشير أيضاً إلى المشاريع التنموية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بقصد إغراء الرياض بعودة الأميركيين إلى سياسة حماية أمنها من هجمات متوقّعة من جانب الحوثي، وأن تشارك بدورها في دفع تكلفة هذا التحالف؛ وهو الأمر الذي جاء متأخّراً جداً بالنسبة إلى المملكة، فليس من مصلحتها استفزاز جماعة أنصار الله، في توقيتٍ باتت فيه مهتمة وراعية للمصالحة اليمنية – اليمنية وللتهدئة مع الحوثيين، بعد التواصل الذي بينها وبين إيران بوساطة صينية. الإمارات أيضاً، رغم أنها تختلف مع السعودية بشأن الموقف من جماعة أنصار الله، لكنها لم تسارع إلى الانضمام إلى “حارس الازدهار”، حتى لا تستفز الجماعة، وضمن سياق معاقبة أميركا على تخليها عن حماية أمن المنطقة، وعدم تقديم السلاح الهجومي لمواجهة الحوثيين. ومصر التي تجني قرابة عشرة مليارات دولار سنوياً من قناة السويس، ستتأثر بتحويل الطريق التجاري البحري إلى رأس الرجاء الصالح، إذا استمرّت اعتداءات الحوثي على حركة الملاحة في البحر الأحمر. ومع ذلك، فضلت التروّي، ولم تعلن انضمامها إلى التحالف المذكور، الذي يبدو كأنه دعم لاستقرار إسرائيل.

على الأرجح، ليست إيران وراء التصعيد الحوثي أخيراً في البحر الأحمر، كما لم تكن وراء عملية طوفان الأقصى، لكنها مستفيدة مما يجري؛ فهي لا تريد التصعيد، لكونها في مرحلة مفاوضات مع الولايات المتحدة للإفراج عن بعض أموالها المحتجزة في البنوك بسبب العقوبات الغربية عليها؛ وبالتالي، هجمات الحوثي على حركة الملاحة في البحر الأحمر، وكذلك الرد الأميركي بتشكيل تحالف عسكري، لا يأتيان ضمن الصراع الأميركي الإيراني في المنطقة. بالنسبة إلى جماعة أنصار الله، الذين يربطون تعطيل حركة الملاحة البحرية من إيلات وإليها بإيقاف العدوان على غزّة، هم يريدون كذلك تثبيت سلطتهم في العاصمة صنعاء، وقد يقدّمون تنازلاتٍ لواشنطن مقابل الاعتراف بهم. قد يوجّه التحالف الجديد، الذي تقوده الولايات المتحدة في البحر الأحمر، ضربات محدودة إلى جماعة الحوثيين، من باب إظهار قوة الردع الأميركية، غير أن واشنطن لا ترغب في التورّط في حرب قابلة للتوسّع في المنطقة، وهي بدورها لجمت رغبات نتنياهو في توسيع دائرة النار، وأبقت الحرب محصورة في غزّة.

لا تعترف الولايات المتحدة بتراجع هيبتها على مستوى العالم. بدأ ذلك مع انشغالها ببناء أسطولها البحري في الباسيفيك، لمواجهة خطر الصين الاقتصادي، من دون التخلّي عن دورها المتحكّم بمنطقة الشرق الأوسط، عبر تأجيج الصراعات الأهلية، وإبقاء هذه الصراعات محصورة في دول المنطقة، من دون انفلاتها إلى حروبٍ شاملة؛ فمنذ عهد الرئيس السابق، باراك أوباما، بدأت بالانسحاب من الحروب التي أشعلتها في الشرق، في أفغانستان والعراق، وتركت عن قصد، الأولى لحركة طالبان المتشدّدة، والثانية للنفوذ الإيراني، وتركت سورية لروسيا ولتوسع نفوذ إيران، مع بقاء نظام دمشق في أضعف حالاته، واضطرّت إلى الدخول في تحالف دولي لقتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسورية، من أجل إبقاء قدرتها على التحكّم في المنطقة. واستفزّت روسيا بتوسيع حلف الناتو بالقرب من حدود الأخيرة، وتبنّت دعم الأوكرانيين، من دون القدرة على الحسم. وفي اليمن، لم تكمل حملتها ضد الحوثيين في 2018، بل مكّنتهم من السيطرة على مناطق استراتيجية، وتخلّت عن التزاماتها بحماية أمن حلفائها في الخليج، وهي تدعم العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزّة وتتبنّاه، ودعمت توسيع المستوطنات في الضفة الغربية والانتهاكات في الأقصى، الأمر الذي يخالف أية مقولة حول دعمها ازدهار المنطقة.

بإعلان أوستن تحالفاً متواضعاً في البحر الأحمر، المؤلف من 20 دولة، ثمانٍ منها لم تُعلَن، من الواضح أن الهيبة الأميركية تتراجع في الشرق الأوسط والعالم، وحلفاء أميركا العرب والأوروبيون لا يثقون بها، بسبب دورها في تأجيج الصراعات الداخلية في العالم؛ وما زالت تفرض قراراتها على العالم، رغم عزلتها، مستندة إلى امتلاكها أكبر قوّة عسكرية في العالم، تفضّل عدم تشتيتها في حروب الشرق الأوسط، وتوفيرها لمواجهةٍ مستقبليةٍ محتملة مع الصين.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى