سرُ الحياة والخلود الحقيقي هو النضال كما كنتَ أخ (محمد عمر كرداس “أبو محمود”)

عبد الباسط حمودة

أيامٌ تأتي وأخرى تمضي، وبراعم تتفتح وأخرى تذبل، والدنيا تدور كأنها دولابٌ عجيب، لقد رحل عن دنيانا صباح أمس الأستاذ والأخ المناضل محمد عمر كرداس “أبو محمود” الرجلُ الصلب الذي استطاع أن يحافظ على طُهر وبراءة القصد والهدف طيلةَ عمره، فلم تُفسده السياسة رغم خوضه غمارها طيلة عقود منذ أن وجد نفسه بحركة القوميين العرب أوائل الستينات ومن ثم في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي منذ تأسيسه عام 1964، إنه قد انخرط بحزب الاتحاد مع الكثرة من حركة القوميين العرب في سورية، التي وضعت نفسها عام 1961 كجزء من الشعب السوري بمواجهة الزمرة الانفصالية بعد جريمة الانفصال، وقد ساهم الأخ “أبو محمود” بشكل فعال بالمؤتمر الرابع لحزب الاتحاد الاشتراكي- وهو في صفوف المعارضة- عام 1968 الذي انعقد في دمشق غداة هزيمة 1967، هذا المؤتمر الذي قررَ وأقرَ في نهاية أعماله تأسيس جبهة وطنية في سورية تقود النضال والعمل في سبيل إزالة آثار العدوان، فما كان من نظام 23 شباط/ فبراير 1966 إلا أن اعتقل قيادة حزب الاتحاد وبعض قيادات الأحزاب الأخرى في حين فرَ البعض الآخر خارج البلاد إثر إعلان ميثاق تلك الجبهة، فلقد ساهم الأخ المرحوم “أبو محمود” بقيادة العمل التنظيمي والسياسي للحزب من خلال ما سميت “مرتبة الجهاز السياسي” حينها ريثما تخرج قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي من المعتقل.

إنه وفور خروج القيادة من المعتقل نهاية الستينات التقاهم الأخ “أبو محمود” ووضعهم بمجريات وتفاصيل العمل السري طيلة غيابهم، وأعلمهم بأن المرتبة التي أطلق عليها مع آخرين اسم “مرتبة الجهاز السياسي” تُعتبر مُنحلة ومُنتهية الصلاحيات لانتفاء شرطَ تأسيسها وعملها بخروج قيادة الحزب من المعتقل، وفي حين أصر بعض من كانوا معه بـ“مرتبة الجهاز السياسي” على اللقاءات والتخطيط فيما بينهم رفض الأخ “أبو محمود” والأخ المرحوم “محمد جبر المسالمة” هذه الازدواجية والكولسة مع من يُفترض أنهم أخوة لهم في النضال والعمل الوطني المعارض، ليقوم هؤلاء بالدعوة لتشكيلٍ جديد تحت مسمى “تنظيم” حين فشلوا بالسيطرة على حزب الاتحاد الاشتراكي العربي بسبب وقوف الأخ “أبو محمود” وجميع الأخوة بفرع دمشق بوجههم وضد سلوكهم غير التنظيمي، لقد استمرأوا فعلتهم وأخذوا بتبريرها ليُناكفوا حزب الاتحاد الاشتراكي العربي لأهدافٍ أقل ما يقال عنها فُرصة للتسلق وللقيادة.

وهكذا استمر الرجل الصلب رابطاً بشكلٍ دائم بين الفكر والممارسة بعيداً عن سلوكيات تلكمُ الثلة من “مرتبة الجهاز السياسي”، بل قد كشفهم جميعاً للاتحاد واستمر في ذلك لحين انعقاد المؤتمر الخامس أواخر 1970، الذي قرر المؤتمر حينها الدخول لجبهة النظام وفق مقررات المؤتمر الرابع آنف الذكر، ومن ثم شارك الأخ المرحوم “أبو محمود” بالمؤتمر السادس أوائل 1973 الذي قرر الخروج من جبهة النظام والعودة لمعارضته دون رجعة، وهنا التقط  الأخ المرحوم “أبو محمود” اللحظة بأن البعض من المرتبة إياها لازال يصطاد بالماء العكر مشككاً بحزب الاتحاد الاشتراكي تحت ذرائع ثبُتَ زيفها، ذلك لإعاقة العمل لصالح أهداف خبيثة لا تتصل بسلامة العمل والأداء الوطني، حتى باتت تصله مع آخرين نشرات الراية الناطقة باسمهم، كاشفةً صدق حدسهِ الذي أعلمَ الحزب به سابقاً.

ليصل الواقع السوري المعارض إلى إعلان التجمع الوطني الديمقراطي في سورية عام 1979 بأحزابه الخمسة معارضاً للاستبداد والفساد ومناضلين جميعاً للتغيير الوطني الديمقراطي، وفي حين استمر المُشككون إياهم بمزاوداتهم وبسلوكهم ورفضهم الانخراط بصفوف التجمع الوطني الديمقراطي كان الأخ “أبو محمود” أحد أهم أعمدته الرئيسية في دمشق وريفها خاصة وفي سورية عامةً، يتصدى للكتابة وبتحليلات سياسية بنشرة التجمع الوطني الديمقراطي التي حملت اسم “الموقف الديمقراطي”، إضافة لمشاركته الفاعلة بالمكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي من خلال مكتب الإعلام واستصدار نشرة “الاشتراكي العربي” ومن ثم استصدار نشرة “العربي” ومتابعة أعمال الطباعة والتوزيع لفتراتٍ طويلة مع الآخرين، وكل ذلك بالخفاء وبشكلٍ سري يتناسب وظروف النضال التي عاشتها سورية طيلة عقود بمواجهة نظام الاستبداد والطغمة الحاكمة.

وبعد انعقاد المؤتمر الثامن لحزب الاتحاد عام 2000 بأيام فقط توفي الأمين العام الدكتور المرحوم جمال الأتاسي، فقد خسر الحزب والكفاح الوطني السوري الدكتور جمال الذي كان يشغل الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي إضافة لأمانة حزب الاتحاد، فكان دور الأخ المرحوم “أبو محمود” مميزاً بالتشييع من دمشق إلى حمص وفعالاً مع آخرين من الحزب في حمص أيضاً باستقبال ووداع الوفود الوطنية والعربية والدولية التي جاءت للمشاركة في تشييع الدكتور جمال، وشارك بشكل كبير ومؤثر في تأبين الدكتور جمال بدمشق بذكرى مرور 40 يوماً على وفاته والإعداد الجيد لمهرجان التأبين بفندق الشام بصالتيه، فشكلت تلكم المناسبة إعلاناً صريحاً لإطلاق العمل السياسي العلني في سورية فعلياً بعد أن كان سرياً، ذلك كله بحضور أعداد غفيرة من المناضلين على الصعيدين الوطني والعربي، وشارك الأخ “أبو محمود” كذلك بانطلاق وعمل وحُسن أداء منتدى الدكتور جمال الأتاسي الموؤد بعد انطلاقته في دمشق إبان ربيع دمشق، وإعلان دمشق كذلك، وشارك في بيان “الألف” وبيان “دمشق- بيروت”، التي شكلت جميعاً عتبة لانطلاق الثورة السورية في آذار 2011.

وبعد انطلاق الثورة انحاز بشكل تام لأهداف الثورة والجماهير السورية في الساحات، فكانت مدينة الأخ “أبو محمود” “دوما” أحد الساحات الثائرة والمؤثرة بشكلٍ لا يُنسى، وقد كانت كلفة الثورة عليه كما على أي فرد حر سوري كبيرة، فقد كلفته وأسرته وأقاربه الاعتقال ومداهمة بيوتهم ومن ثم تدمير بعضها في مدينته “دوما” قلعة الوحدة والعمل الناصري في سورية، وكان لزاماً عليه بعد الخروج من المعتقل وهو في أوائل السبعينات من العمر مغادرة سورية، حتى وافته المنية في اسطنبول صبيحة أمس 27 كانون الأول/ ديسمبر 2023.

يمكن أن يقال الكثير عن الأخ المرحوم “أبو محمود” إلا أنني أكتفي أخيراً بأن ولائه كان دوماً للفكرة والمبدأ والتقدم، لسورية المُتحررة من الاستبداد والطغيان وجميع استطالاته القاتلة، هذا الولاء للنضال الوطني السوري الجامع كخط ناظم للافتراق بين الوسيلة والغاية حين يكتشف المفارقة في ذلك، فقد رفض أي شكل من أشكال المشاركة بكتل وتجمعات ما بعد الثورة التي رأى فيها تجسيداً لحالة الفُرقة والافتراق عن طموحات شعبنا السوري، فكان له شرف المساهمة بإطلاق موقع «الحرية أولاً» ورئيساً لمجلس إدارته، كي يستمر بالكشف والمكاشفة في زمنٍ لا يُهتم فيه بالصدق وقول الحق بل الاهتمام بتغييب الحقيقة لصالح مقولات وترهات لاوطنية بل ما قبل وطنية خدمة لأجندات خارجية، لعل الزمن يسمح يوماً بأداءٍ وطنيٍ وقوميٍ أعم وأرقى وأشمل.

إن العطاء في الحياة سرٌ كبير من أسرار الخلود الحقيقي، فقد مارس الأخ “أبو محمود” نضاله السياسي جندياً مجهولاً مثل جميع كوادر حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي في سورية، فوداعاً أخ “أبو محمود” يا من وقفتَ نصيراً للوطنية السورية أولاً وللعروبة والناصرية ثانياً باعتبار الوطنية هي المدخل لتحقيق أهداف شعبنا كلها والتقدم على طريق الوحدة العربية، ففي رحاب الله وعفوه وجناته ورضوانه يا من كنت أخا عزيزاً صادقاً للكفاح والنضال السياسي المعارض منذ 50 عاماً خلت.

 

المصدر: موقع (الحرية أولًا)

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. سيرة نضالية تظهر قوة الالتزام والإيمان ، لقد كان الأخ المناضل العروبي الناصري أبو محمود/محمد عمر كرداس مثال النضال الوطني والعروبي لقد أخوته العروبيين السوريين الذين فقدناهم خلال الأعوام الأخيرة الله يرحمه برحمته الواسعة ويغفر له ويسكنه الفردوس الأعلى ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان
    وانا لله وانا اليه راجعون

زر الذهاب إلى الأعلى