غاب الشيخ أبو العلا محمد، يومين، على غير عادته عن أم كلثوم، وفى اليوم الثالث ذهبت إليه فى منزله فوجدته مريضا، فعادت والدموع تبلل خديها وأخبرت والدها، فرافقها هى وأخيها خالد ليمضوا عنده ليلة، حسبما تذكر فى مذكراتها بجريدة «الجمهورية، 2 يناير 1970»، مضيفة: «مكثنا عنده حتى نام، كنا نذهب إليه كل يوم إلى أن استرد صحته، وفى الأيام التالية، وحين ثقل لسانه، كان يحرص أيضا على الحضور إلينا ويغنى لى، وعندما تغيب الكلمات عنه أو يتعسر نطقها، يقول لى: انتى عارفة أنا عايز إيه».
تتذكر: «فى ليلة مظلمة لم يطلع لها قمر جاءنى نبأ وفاة أبوالعلا، كان فى ليلة الأربعاء 5 يناير، مثل هذا اليوم، 1927».. تؤكد: «خرجت من شقتنا فى الزمالك هائمة على وجهى لا أدرى ماذا أفعل؟.. كان يرافقنى أخى خالد وسامى الشوا، كنت أريد أن أبكى، ولكن الدموع لم تطاوعنى، تحجرت فى عينى، سرت على قدمى من الزمالك إلى شارع فؤاد، ضاعت منى الطرق وفقدت كل تفكير، كنت أسير من شارع إلى شارع، كان كل شىء أمامى مظلما، مات الرجل الذى وقف بجانبى وقدم لى أكبر عون وأكبر مساعدة فى بداية حياتى الفنية، مات الشيخ أبوالعلا».
تؤكد «كنت فى أول الجنازة، بكيته بدمع قلبى، وعندما وراه التراب عدت مع العائدين، ولكنى كنت أختلف عنهم جميعا لأننى أعرف قيمة الرجل الذى فارقنا وأياديه البيضاء على الموسيقى الشرقية، وعشت مع أحزان أبوالعلا فترة ليست قصيرة، حتى أشفق علىّ أهلى وكل معارفى».
عبّرت أم كلثوم بهذا الحزن الفاجع عن وفاء مطلق لأستاذها الأول، ووعى بقيمة ما قدمه للموسيقى العربية، فحسب ذكرياتها للكاتب الصحفى محمود عوض فى كتابه «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد»، لم تنس أنه حين استمع إليها فى قريتها «طماى الزهايرة» بمحافظة الدقهلية، نصح والدها: «مستقبل ابنتك أكبر من طماى، وحرام أن تحبس هذه الموهبة الصغيرة فى قرية صغيرة».. استجاب الوالد بإلحاح منها، ولم ينقطع «أبوالعلا» عنها فى القاهرة، مؤكدا لها: «لن أفترق عن هذا الصوت طول عمرى».. تؤكد: «فعلا لم نفترق منذ تلك اللحظة، كان يصحبنى مع أبى وأخى فى كل مكان أذهب إليه، وغيرنى، علمنى أن أفهم الكلام قبل أن أحفظه وأغنيه».
يرى الناقد والمؤرخ الموسيقى كمال النجمى، فى كتابه «تراث الغناء العربى»: «أم كلثوم هى ثلاثة أرباع الغناء المصرى الحديث، والشيخ أبوالعلا أكمل من خلال صوتها مهمته التاريخية، فى تخليص الغناء العربى نهائيا من العجمة العثمانية، والرطانة الفارسية والفهاهة الغجرية التى عبثت بحناجر المطربين والمطربات فى مصر والبلاد العربية مئات السنين».
تظل قصته مع أم كلثوم غالبة على سيرته الفنية، غير أن دوره التاريخى فى نهضة الموسيقى العربية يعدده الكاتب والباحث عمرو رضا، فى مجلة «دبى الثقافية، عدد 46»، مشيرا إلى أنه ولد فى الثامن من أغسطس 1878 فى «بنى عدى، مركز منفلوط، أسيوط»، ويبدو أنه درس زمنا فى الأزهر، وابتدأ منشدا وقارئا للقراآن، ومن ثم منح لقب الشيخ، بعدها مال إلى عالم الفن فصار يغنى فى السهرات الخاصة القصائد والأدوار، مستلهما الأصول الجمالية للمدرسة الفنية التى أسسها المطرب والملحن عبده الحامولى، وغنى عددا من أشهر أعماله مضيفا إليها من إبداعه وقدرته على الارتجال، وسجل أسطواناته الأولى فى يناير 1912 لشركة جراموفون ثم لشركات أخرى، مثل ميشيان، وبيضافون سنة 1920، وبوليفون سنة 1924.
يرى «رضا»، أن تلك التسجيلات كانت أول محاولة للخروج «بالموسيقى الفصحى» من المجالس الخديوية الخاصة لتنتشر بين الجمهور فى القاهرة والمحافظات، مؤسسة فيما بعد الملمح الأساسى للموسيقى المصرية فى القرن العشرين، وقد تخلى جزئيا عن الغناء الدينى كالإنشاد وتجويد القرآن، واتخذ لنفسه تختا من أكبر عازفى ذلك الوقت، وذكر عازف الكمان الشهير سامى الشوا أن أبوالعلا لم يكن يتدرب على الألحان التى يسجلها، فكان يطلب من أفراد التخت أن يعزفوا مقدمة من مقام معين، تاركا العنان لبديهته وقريحته، ويقال إنهم كانوا يسألونه: ماذا ستغنى اليوم يا شيخ؟ فيجيبهم: «اللى يجود بيه علينا ربنا»
يذكر «رضا»: «خلافا للأسلوب الكلاسيكى كما عرفناه عند عبدالحى حلمى أو سلامة حجازى، فإن أبوالعلا أول من قدم القصيدة المغناة الموقعة عبر مقام موسيقى محكم لا مجال فيه للارتجال، وفيما يخص الدور فإن ألحانه كانت بداية لعصر سيطرة الملحن ونهاية لعصر ارتجال المطرب، مبشرا بما ستصير عليه الموسيقى المصرية فيما بعد، كذلك مثلت ألحانه مرحلة فى تطور مفهوم القصيدة المغناة، حيث كانت ممهدة لألحان زكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب خاصة أعماله الأولى».
المصدر: يوم اليوم السابع