الرواية في الأدب فن راقٍ، تتعدد سراديبه، كما تتنوع أساليبه، لينتج حالات أدبية عميقة لا تلو على شيء إلا عشق الكتابة الروائية والقص الأدبي.. وعادة ما تندرج الرواية العربية في ملكوت التماهي مع الأنساق المجتمعية المتعانقة مع الحـدث المعاش.
في لقائنا اليوم مع الروائي الأديب السوري فواز حداد نتابع معه تجربته الأدبية في فن الرواية حيث أنتج للمكتبة العربية العديد من الروايات التي لاقت استحساناً من جمهور الرواية، حتى أن البعض وضعه في مصاف الكبار أمثال الراحل عبد الرحمن منيف، ومنهم من تجاوز به ومعه حنا مينة.. نعم فالروائي فواز حداد يلامس الهم المجتمعي للبشر، ويغوص في البنية والكينونة.. فمن “مرسال الغرام” إلى “مشهد عابر” الكثير من الأعمال التي يعتز المثقف العربي في سورية بها لأن كاتبها مازال عشقه لأمته وشعبه يدفعه إلى أن لا يكون مجرد مشهد عابر كعنوان روايته الأخيرة.. بل حاضراً في كل تلافيف النسق الاجتماعي والسياسي لأمته العربية.
فواز حداد في حواره اليوم ليس بالمتشائم لكنه ما زال يحمل سفوديه بيديه معلناً الحرب على الفساد والفاسدين.. وما زال أيضاً من الجيل الذي آمن بالوحدة، ورفع شعارات تلك المرحلة.. وما زال يعتقد أنه من الممكن عبرها وبها أن نواكب العصر.. ولا نكون خارجه.
1- قلت مرة ” أنا غير متشائم ولهذا أكتب عن الفساد ” وهل واقع الفساد في بلداننا يدعو للتفاؤل؟
ج – لا ريب في أن استشراء الفساد أمـر يدعـو للتفاؤل، وبمعنى أقـرب ومحـدد أكثـر، أن يصبح الفساد موضوعاً مطروحاً للنقاش في الصحافة، والمسلسلات التلفزيونية والمواقع الالكترونيـة، موضوعـاً عامـاً لا يقتصر الحـديث عنـه بالهمس وسراً، أو من باب اختصاص الإدارات واللجان فقط، تلك التي اعتادت طي صفحات الفساد، ثم يجري التكتم عليها، وتصبح شأن القلة ولا ندري شيئاً عن مآلاتها، اليوم مهما كانت درجة انتقاد الفساد حتى لو كان محدوداً، من غير الممكن تغطيته سياسياً، وهو أمر إيجابي لا ينبغي التقليل من شأنه، لكن ينبغي المتابعة، وإلا كنا نبالغ في الأمل.
2- هل نستطيع القول أو روايتك ” مرسال الغرام ” غوص أدبي في ماهية الفساد ودعوة لمحاربته؟
ج – الرواية في أحد جوانبها استعراض لآلية الفساد في ماكينة الدولة، والنموذج العربي أكثرها دلالة، لتنوعه وشموله أفقياً وعمودياً، لا يعني أن نتكلم عن الفساد أننا نفضحه وندعو إلى محاربته، هذا تحصيل حاصـل، المهم هو تعريضـه للضوء، والكشف عن مظاهره المخادعة وأساليبه الملتوية، ولا شك في أن العمل الروائي كجنس أدبي يعتبر صالحاً للقيام بهذه العملية بحكم المشهدية الواسعة للرواية، عدا ما تتمتع به الرواية من أدوات مواجهة تكمن في السبر والحفر متنوع الأغراض والسبل، هذا إذا لم نقل بأن الأدب أخلاقي بطبيعته وبانحيازاته، عدا أنها من مهماته الأزلية، وليست أمراً طرأ مؤخراً.
3- يبدو أنك حاولت بحرفية وحب أن تطل على الفكر القومي والوحدة العربية وجمال عبد الناصر بطريقة متميزة عبر رواية ” مرسال الغرام ” فهل تم هذا بدفع إيديولوجي مثلاً؟
ج- أنا من جيل عبد الناصر، أي من الجيل الذي آمن بالوحدة ورفع شعارات الاشتراكية والحرية والقومية العربية، اليوم هذه الشعارات مدانة ومرفوضة وتتعرض للهجوم بدعاوى ليبرالية وبراغماتية، في المحصلة أمريكية، تجير لصالح إسرائيل، المطلوب منا أن نواكب العصر، وكأنه عصر فتوحات، بينما هو عصر عمولات وتنازلات وتراجعات، لم يكن تعلقنا بعبد الناصر عاطفياً بحتاً، كان رجلاً ذا بصيرة وصاحب مشروع ضخم، أخذ بالحسبان مصالح الأمة وسار على هديها، أصاب كثيراً ولابد أنه أخطأ، أما هؤلاء اليوم فيرتكبون جرائم وخيانـات، لقد عشنا في زمن كان عبد الناصر خلاله ربان هذه الأمة، اليوم على الرغم من كثرة الربابنة والزعامات والوعود فبلداننا مهـددة ومصائرنا يتحكم فيهـا العرب، المصيبة الفعلية هي القبول بكل ما رفضناه مراراً، لا أحاول استعادة الماضي، أعتقد أن الحاضر ليس سيئاً تماماً إذا أدركنا بأننا مدعوون إلى التبصر فيما يجري، وألا نظن أن هذه النهاية، وإذا شئنا فلن يكون ما نشهده أكثر من فاصل مؤثر مفاعيله بعيدة المدى، ولكن هناك ما سوف يليه، أما ما هو موقعنا وما سوف نفعله، وما هي قدراتنا، فهذا يعتمد علينا وحدنا.
4- أما في روايتك ” مشهد عابر ” فأنت تكتب عن الواقع المتردي، فهل يمكن أن يكون ذلك التعاطي من منطلق رفضك لأن تجلس مع المتفرجين بلا فعل؟
ج- ليس من ثمة متفرج محصن من الواقع، ما يحدث على المسرح تصل تأثيراته الكارثية إلى مقاعد المتفرجين وقد تقلبها عليهم، الكتابة عن الواقع المتردي يبدو أشبه بهجوم مفتوح على كل شيء، لكنه دفاع عن النفس، نشير فيها إلى مكمن الداء أو الأذى الذي نتعرض إليه والضرر الحاصل، وإلى القادم الأسوأ، وقد تكون تخمينات، وهـي تخمينات تفـوق الحقيقة أحيانـاً، ليس هناك فعـل أقل، وبالضرورة لا تحل الكتابة محل الفعل ولا محل الحرية والعدالة، وإن كنا نستند إليها في دعوانا، نحن شهود ولا غنى عن دولة القانون والقضاء والأحزاب وصحافة تلعب دورها بنزاهة.
5- لكن ما الفكرة الأساس التي أردت أن توصـي بهـا البطـل فـي رواية مشهد عابر”؟
ج- ثمة أفكار كثيرة من الممكن استنباطها، وإحداها التي تنتهي بها الرواية، هي أن الزمن لا يمحو الجريمة، هذه الجرائم لا يشملها التقادم، وليس القضاء هو السلطة الوحيدة المخولة بإجراء الحساب، هناك التاريخ والبلد والبشر والضحايا، أطراف عديدة يهمها أن تعرف لماذا ذهبنا في هذا المنحى؟ التسامح شأن الأفراد، ربما الأجيال الجديدة التي لا تدري ما حدث، ولا تريد أن تحمل عبء حسابات مضت، وهـذا شأنها، عموماً نحن نستعيـد ماضٍ ما زال مستمراً، أي ما يجري الآن، تتمـة لمـا بدأ قبل عقـود، كي يعرفه القادمـون، كي يدركـونه، ويستدركونه لئلا يتكرر.
6- هل من شللية في الأدب وبين الأدباء؟ وماذا عن اتحاد الكتاب وما يصدره من أعمال أدبية؟
ج – تشكل الشلل الأدبية تجمعات طبيعية، الأدباء بحاجة إلى تناول همومهم ومشاكلهم الأدبية ومناقشة الكثير من أمور مهمة أصبحت مثل غيرها عرضة للكساد ولأحوال الموضـة، على أمل تحسين ظروفها وأساليب ترويـج منتجاتهـا، هـذا إذا شئنا التكلم عن الأدب كتجارة وسلعـة وسوق وتسويـق، وهو واقع للأسف لا يمكن التغاضي عنه، مثلما لا يمكن هضمه بسهولة، لكن يجب معرفته لإيجاد حلول أفضل وأنجع، على الأقل تحفظ كرامة الكاتب، هذا أمر كان من الممكن أن تضطلع به الشلل الأدبية، لكن أمراض هذه الشلل المستحكمة تطغى عليها، إذ تحكمهـا تبـادل المنافـع وتهمل الأدب، وتنعكس سلبياً عليه، عندما تسعى إلى ترويج أعمال لأسباب مصلحية.
كان لاتحاد الكتاب أن يلعب دوراً إيجابياً في هذا المضمار وهو بالمناسبة دور مطلوب منه، لكنه للأسف يمثل شلة على نحو أكبر وتحكمه الأمراض نفسها وعلى شكل أسوأ، وهو ما يلاحظ على إصدارات الاتحاد، وما تعانيه مـن كساد.
7- لك قول تشير فيه إلى أن ” الموهبة ليست شيئاً إيجابياً ولا نزيهاً على الدوام ” فكيف ذلك؟
ج – ثمة مبالغة في تعظيم الموهبة وتبرير تجاوزاتها، أنا لا أهاجمها أو أحط مـن شأنهـا، قدر ما أحاول وضعها في موضعها الصحيح، لا أريد مقارنة الموهبة بالشر، مع أن الشر يتعيش عليها، الموهبة تقود أصحابها إلى الشهرة والمجد وأيضاً إلى الجريمة والسفالة، عندما يسوغ المثقفون والفنانون لأنفسهم ممارسات مشينة متذرعين بمواهبهم، ويجيزون لأنفسهم ما يمنعوه عن غيرهم، وكأنهم استثناء متعالي، فهذا غرور منحط وادعاء كاذب، الموهبة آلية، محكها الحقيقي يكمن في التغلب على الأنانية الفردية والعنجهية الثقافية.
المصدر: ديوان العرب / تاريخ 6 كانون ثاني/ يناير 2008