أسبوع فوضوي في الأمم المتحدة||  أثبت وجود تحول في الدبلوماسية الأميركية

ماري ديجيفسكي

قد تكون إحدى أكثر السمات اللافتة للانتباه في الصراع الدائر في الشرق الأوسط هي الطريقة التي عادت بها أخيراً منظمة الأمم المتحدة إلى الساحة الدولية، وكأنها لم تكن غائبة على الإطلاق.

فمحطات التلفزيون الدولية تتابع عن كثب الأحداث الجارية في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، كما أن بعض المصطلحات والمفاهيم التي كانت قد تلاشت تقريباً من الخطابات العامة، تعود إلى الظهور مرةً أخرى في المناقشات المحيطة بالوضع الراهن، ما يذكر بفترة ما بعد الحرب بين العرب وإسرائيل في العام 1967، بحيث نجد أنفسنا مرةً أخرى أمام قرار مجلس الأمن الرقم 343، و “حل الدولتين” الذي ينطوي عليه، و”عملية السلام في الشرق الأوسط”. ويعكس هذا الانبعاث العودة إلى اللغة الدبلوماسية والجهود التي كانت سائدة في السابق.

إلا أن الظروف الراهنة وتوزيع القوى والمزايا، أو ما كان يُشار إليه ذات يوم كما أذكر بـ “ترابط القوى”، قد تغيرت. وقد تأكد هذا التحول الواضح من خلال المناقشات المكثفة التي دارت وراء كواليس المنظمة الدولية في نيويورك خلال الأسبوع الماضي، والتي كانت تهدف إلى وقف هذا السفك المستمر للدماء في غزة وما حولها، أو على الأقل تعليقه موقتاً.

وفي سلسلة من الأحداث التي كانت في بعض الأحيان أشبه بمناورات واضطرابات “بريكست” (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) داخل برلمان المملكة المتحدة، فقد خُطط للتصويت الرسمي الدولي وإلغاؤه وإعادة جدولته. وبعد ظهر يوم الخميس بتوقيت نيويورك – في وقتٍ متأخرٍ من المساء في أوروبا وخلال الليل في منطقة الشرق الأوسط التي لا يزال مصيرها على المحك – لم يُجر التصويت المتوقع مرةً أخرى.

إلا أن هذا الإرجاء الأخير ترافق مع أكثر المؤشرات وضوحاً حتى ذلك الوقت وهو أن التصويت سيمضي قدماً وأنه عندما يحدث، من المرجح أن يحظى القرار الذي تمت مراجعته على نطاق واسع، بالموافقة. وعلى رغم أن الصياغة الدقيقة قد تخضع لمزيدٍ من التعديلات، فإن مواصلة الدبلوماسيين والمراسلين الكلام علناً أو بشكلٍ خاص عن التفاصيل الدقيقة في مسودة وثيقة الأمم المتحدة، دل ذلك بقوة على تقدمها، وإلى أنها قطعت شوطاً كبيراً نحو الهدف.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن الهدف الأولي للقرار، كان ذا شقين: أولاً تسريع وتيرة وصول إمدادات المساعدات إلى غزة، في محاولةٍ للتخفيف من وطأة الكارثة الغذائية والطبية التي تكشفت. وثانياً، تمهيد الطريق لوقف إطلاق النار. ومع ذلك، يبدو أن الصياغة الصريحة المستخدمة للعبارتين قد جرى تخفيفها بحيث يتم التركيز على “تهيئة الظروف” لتحقيق هاتين النتيجتين، بدلاً من وصفهما بشكلٍ صريح.

وسيكون الإشراف على إمدادات المساعدات للقطاع الآن، في عهدة مسؤولٍ محدد، بدلاً من المشاركة المباشرة للأمم المتحدة. وفيما لا يمكن إنكار أن هذه التعديلات جاءت لتخفف من صيغة القرار، إلا أنها تشكل أدواتٍ دبلوماسية كلاسيكية، تهدف إلى تقريب المواقف وتعزيز الإجماع، عندما يكون الاتفاق صعباً وبعيد المنال.

مع ذلك، في هذه الحالة، يمكن القول إن الصياغة المحددة تحمل أهميةً أقل من حقيقة أن القرار قد اتخذ الآن شكلاً من المتوقع أن يساعد في تمريره. وفي حال حدوث ذلك، فإنه سيكون أول قرار للأمم المتحدة يحقق نجاحاً منذ أكثر من شهرين، بعدما أطلقت حركة “حماس” شرارة الصراع في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الفائت. ويُعزى السبب المحوري لنجاحه المحتمل – على افتراض عدم ظهور عقباتٍ غير متوقعة – إلى التحول في موقف دولةٍ واحدة فقط، وهي الطرف المؤثر بشكلٍ ملحوظ في القرارات الدولية، والمقصود هنا الولايات المتحدة.

فجميع القرارات السابقة التي دعت إلى وقف الأعمال العدائية – سواءٌ في مجلس الأمن أو في الجمعية العمومية للأمم المتحدة – عارضتها الولايات المتحدة باستمرار، ومارست بفاعلية حقها في النقض لمنع صدورها. في الجمعية العمومية، وجدت واشنطن نفسها ضمن أقليةٍ آخذة في التقلص، أما في مجلس الأمن، فوقفت وحيدة. جدير بالذكر أنه حتى المملكة المتحدة التي عادةً ما تكون حليفاً ثابتاً في دعم إسرائيل، امتنعت باستمرار عن التصويت، ما يدل على خروج دبلوماسي ملحوظٍ عن الموقف البريطاني المعتاد.

علاوةً على ذلك، ما كانت الولايات المتحدة لتعدّل موقفها من دون تأمين أكبر قدر ممكن من الحماية من خلال الصياغة الدبلوماسية، وهو الأمر الذي استلزم عمليةً واسعة النطاق من الصياغة وإعادة الصياغة وإرجاء التصويت في الأيام الأخيرة. وجاء التحول في اللغة الذي تجسّد في دعوة اللورد ديفيد كاميرون (وزير الخارجية البريطاني) في نهاية الأسبوع الماضي، إلى “وقف مستدامٍ لإطلاق النار” بدلاً من مجرد وقفٍ للنار، من بين التعديلات في المصطلحات التي من المحتمل أن تكون قد أسهمت في هذا التغيير.

لكن في نهاية المطاف، فإن ما يتكشّف هنا يشكل تحولاً مهماً للغاية، وربما يسطر عهداً جديداً بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وهو تحول مدفوع إلى حد كبير بالتأثير الكبير للرأي العام الدولي. ففي الماضي، كان من الممكن لواشنطن أن تتشدد في موقفها وتتغلب على الانتقادات العربية لدعمها القوي لإسرائيل. لكن هذه المرة، لم تجد الدولة العظمى نفسها معزولةً فحسب، بل تطور تضامنها – الذي كان يُنظر إليه في السابق على أنه ثابت وغير مشروط إلى جانب إسرائيل – إلى أن يصبح عبئاً دبلوماسياً هو من الضخامة بمكان بحيث إلى الحد الذي لم يعد بمقدورها تحمله.

ربما تكون الاحتجاجات الكبيرة والمسيرات التي قادها فلسطينيون ومناصروهم في العواصم الغربية قد خبت في الأسابيع الأخيرة، لكن الرسالة المدوية ظلت واضحةً بشكلٍ لا لبس فيه. فقد برز جيلٌ متزايد من المسلمين الشباب في عددٍ من الدول الأوروبية، وكذلك في الولايات المتحدة، يحصل على المعلومات بسهولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بمقدار ما يستمدها من مصادر أخرى، ويقوم بتركيزٍ متجددٍ على القضية الفلسطينية بعد أعوامٍ طغت عليها فعلياً “الحرب الأميركية على الإرهاب”، وقد أسهم كل ذلك في إحداث تحولٍ جدير بالملاحظة في مركز الثقل الدولي.

ولعل الجانب الأكثر أهميةً مع تصاعد معدلات الوفيات والدمار في غزة يوماً بعد آخر، أن الإدارة الأميركية لم تواجه معارضة من غالبية الرأي العام الدولي فحسب، بل واجهت أيضاً معارضة متزايدة في الداخل، وذلك قبل أقل من سنة على موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية التي يسعى فيها الرئيس جو بايدن في الوقت الراهن، للفوز بولايةٍ ثانية.

مرت حقبة من الزمن، كان فيها السعي إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط يشكل حجر الزاوية لتطلعات كل رئيس أميركي. وكانت الرؤية تحاول محاكاة مشاهد كتلك التي حققها الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في العام 1993، عندما وقف في حديقة البيت الأبيض ونظم مصافحةً تاريخيةً بين قادة إسرائيل والفلسطينيين. ومع ذلك، فإن كلينتون، شأنه شأن غيره، أثبت في نهاية المطاف أنه لم يكن قادراً على تحويل تلك الرؤية إلى واقع ملموس وتحقيق السلام.

ولم تسفر جهود اللحظات الأخيرة في الأسابيع التي سبقت انتهاء ولايته الرئاسية عن أي شيء. وسرعان ما أصبحت أهوال أحداث “11 سبتمبر” هي التي تملي أجندة واشنطن في الخارج، وتراجعت معها القضية الفلسطينية كثيراً في أولويات الغرب.

أما الرئيس السابق دونالد ترمب فاعتمد نهجاً آخر، عندما أطلق ما أصبح يُعرف باسم “اتفاقات أبراهام”  Abraham Accords، التي استهدفت توسيع الاعتراف الدبلوماسي بإسرائيل ليشمل دول الخليج والمملكة العربية السعودية. هذه الخطوة التي اعتبرتها الولايات المتحدة بمثابة تعزيزٍ لأمن إسرائيل وربما إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، نظر إليها الفلسطينيون من منظار مختلفٍ تماماً، ومن المؤكد أن الغضب والاستياء اللذين أثارتهما قد أسهما بالتأكيد في المذابح التي ارتكبتها “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) هذه السنة.

وكانت تلك الأحداث إلى جانب رد الفعل الإسرائيلي، بمثابةٍ مؤشرٍ على زوال ما تبقى من سياسة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. فقد شرع الرئيس جو بايدن في مسعى عقيم لتطبيق دبلوماسيةٍ مكوكية تقليدية، وهي مغامرة كادت أن تسبب الإحراج لحكومته لجهة عدم فعاليتها وافتقارها للتأثير. وفي وقتٍ لاحق، كان على الولايات المتحدة أن تتصالح مع كونها مجرد دولةٍ من بين دولٍ عدة لديها مصلحة في الشرق الأوسط. وهي تقر بأن نفوذها على أيٍ من دول المنطقة أو جميعها، بما فيها إسرائيل، بات محدوداً.

لعل هذا الواقع يشكل جزئياً السبب في عودة الأمم المتحدة إلى الظهور نتيجةً لدورها التاريخي، باعتبارها المنصة الأساسية في المساعي الرامية إلى معالجة قضية الدولة الفلسطينية وإحلال سلامٍ دائم في منطقة الشرق الأوسط. وحقيقة أنها لا تزال تتولى هذا الدور على مدى نصف قرن منذ حرب العام 1967، إنما يؤكد أوجه القصور التاريخية في تحقيق هذه الأهداف. ومع ذلك، كانت الولايات المتحدة تمارس حتى الآن نفوذاً كبيراً في قرارات الأمم المتحدة، بحيث كانت قادرةً على اقتراح النتائج والتأثير عليها، أو ممارسة حقها في النقض، أو الانسحاب عندما لا توافق.

وقد أظهر هذا الأسبوع بوضوح تراجع نفوذ الولايات المتحدة. فالمساعي التي بذلتها واشنطن للتغلب على عزلتها الدولية في ما يتعلق بغزة – سواءً داخل غرف المفاوضات التابعة للأمم المتحدة أو في بياناتها العامة – لا تشهد فقط على سوء تقديرٍ في الاستجابة الأميركية المبكرة للصراع في غزة، بل تؤكد أيضاً على الديناميكيات المتغيرة لموقفها داخل النظام الدولي.

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى