لا شك عندي ولا ريب أن الله سيرحم أحمد فؤاد نجم , فرحمته أوسع كثيرا من أن تضيق بشاعر متمرد مثله حتى ولو كان غير مؤمن ملتزم !. أقول هذا من منطلق حسن ظني بالله وثقتي بعدالته ورحمته بالبشر الذين خلقهم اصنافا وطبائع وأمزجة متباينة في كل شيء وفطرهم على الخطيئة ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) .
هذا الشاعر الفريد من نوعه بكل وأوسع ما تعنيه العبارة , هو صورة عصرية للشعراء الصعاليك في تاريخنا القديم أمثال طرفة بن العبد , صعلوك , متمرد , ثائر , خارج عن المألوف , والأعراف , والقوانين , أما الثابت الوحيد فيه فهو نزعته الفطرية للبساطة وحب الفقراء وانحيازه المطلق لهم , ودفاعه المستميت عنهم . والفقراء هم (أحباب الله) كما في الحديث , إنه مؤمن بطريقته الخاصة , لعله أقرب ما يكون إلى أبي محجن الثقفي الذي قبل عمر بن الخطاب اسلامه رغم شرطه أنه لن يمتنع عن الخمر !
يستحيل على أي ناقد تصنيف احمد فؤاد نجم سياسيا ولا اديولوجيا ولا حزبيا , وفي القصة التي سأرويها الآن ما يؤكد ذلك , وأنا ارويها لأنني اعتبرها بمثابة (وصية ) , يتعين علي نشرها الآن توضيحا لصورته الحقيقية كمتمرد وثوري عفوي .
التقيته ثلاث مرات في باريس عام 1985 ( أو 1986) . اتصلت بي الصديقة المناضلة اللبنانية العزيزة ليلى غانم وسألتني : ألا تريد مقابلة أحمد فؤاد نجم .. إنه هنا في باريس ..؟ فأجبتها بلى أريد .. قالت لي خذه سيكلمك , وبعد تبادل الترحيب قال لي تعال أريد أن اراك بسرعة , ولدي ما يغريك , فاتفقت معه , وذهبت . كان ينزل في فندق باريسي فاره جدا , استغربت أن يستطيع تحمل فاتورته شاعر فقير مثله , وتبين أن للأمر قصة مؤلمة في حينها ومضحكة الآن .
عندما دخلت الفندق وتقدمت من موظفة الاستقبال وسألتها عن( مسيو نجم) قفز موظف آخر وصرخ بصوت عال نسبيا : هل انت مندوب السفارة اللبيية ..؟ لماذا تأخرتم يا سيدي ..؟ نحن بانتظاركم بفارغ الصبر !. فقلت له : لا أنا لست مندوب السفارة الليبية ولا غيرها .. انا زائر للسيد نجم فقط . فخفت صوته وهمدت حركته وأصيب بنكسة , واعتذر لي على تسرعه لكن ملامح وجهه كانت تبث ضيقا بالغا . ونزل أحمد من غرفته وجلسنا في اللوبي نشرب القهوة , وعاجلته بالسؤال عن لغز السفارة الليبية ,فأخذ يحدثني عن أزمة أوقعه فيها الليبيون يومها . قال إنه كان في طرابلس والتقى العقيد القذافي , وطلب منه مساعدته بالعلاج من مرض أصابه فوافق فورا وأمر بإرساله الى باريس للعلاج على نفقته, وجرى ترتيب سفره فعلا واستقبله موظف من السفارة الليبية في المطار واصطحبه الى هذا الفندق , وأنزله فيه وطلب منه الانتظار عدة ايام حتى يتم تحويل المبلغ الخاص بعلاجه واقامته هنا , ومر اسبوع واسبوعان ولم يصل شيء , وصار موظفو السفارة يتهربون من الرد على اتصالات (ضيف القائد)واتصالات الفندق الذي بدأ يطلب دفع الحساب لا سيما وأن مصروفاته عالية جدا اضافة لفاتورة الغرفة , فهو يشرب الويسكي أكثر من الماء , ولا يأكل إلا أغلى الأطباق , وخاصة الأطباق البحرية , وفوق ذلك فالرجل يتصرف على طريقة الصعاليك والصعايدة , فكلما زاره أحد يدعوه الى الغداء أو العشاء على حسابه في مطعم الفندق وشرب الويسكي والنبيذ والبراندي , ويوقع الفواتير بلا تردد . وبدأ الحساب يتصاعد حتى وصل مبلغا كبيرا جدا , والسفارة الليبية تتهرب بحجة أنها تنتظر التحويل من طرابلس , ثم أكدت أنها لن تسدد ثمن الخمور على أي حال , وصار الفندق يلاحق نجم بالتسديد يوميا , وهو لا يملك دولارا ولا فرنكا ولا حتى جنيها !
كان الشاعر يروي لي القصة وهو كعادته يكيل الشتائم البذيئة للقذافي مع كل جملة من حديثه على الورطة التي أوقعه فيها . ثم سألني : ألا تستطيع أن تساعدني بتسديد حساب الفندق ..؟ قلت له ضاحكا يا ليتني استطيع , قال لي أرفض أن أصبح شحادا أبيع نفسي للقذافي .. لم اتوقع أن يكون نذلا الى هذه الدرجة معي .. لقد أخطأت وأريد حلا ! قلت له : ولكن القذافي فعلها مع كثيرين غيرك فلماذا صدقته .. ؟ قال لي نعم سمعت الكثير عنه لكنني لم أتوقع أن يكررها معي انا شخصيا لأني طلبت منه مساعدة انسانية للعلاج ولم اطلب منه مساعدة سياسية أو حزبية . ثم قال لي ارجوك ساعدني اتصل بأي مؤسسة صحافية تقبل أن تشتري مني مذكراتي التي تتضمن أسرارا مثيرة من تجاربي السياسية مع الأنظمة والأحزاب العربية والقادة الذين تعاملت معهم . لقد قررت أن أفضحهم جميعا ( أولاد ستين قحبة!) فقلت له حتى استطيع إقناع من سأتصل بهم لا بد أن تزودني ببعض الأمثلة عن هذه الاسرار والمعلومات المهمة ..؟ فأخذ يسرد لي قصصا من لقاءاته واتصالاته أو أتصالات الأنظمة والقادة والاحزاب به , بدءا من الحزب الشيوعي المصري الذي وصف قادته ومثقفيه بأبشع النعوت والاوصاف وقال إنهم استثمروه وتاجروا به وادعوا أنه شيوعي ملتزم بالحزب بينما أنكر أن يكون قد انتسب لهذا الحزب أو سواه بشكل فعلي في أي يوم من حياته , وذكر إنه لا يتفق مع كثير من مبادئهم وأنكر أن يكون ملحدا , واتهمهم بتخريب علاقته مع الشيخ إمام للقضاء عليهما معا . ثم تحدث عن علاقته بالنظام العراقي وصدام حسين , وعلاقته بالنظام السوري , وعلاقته بمنظمة التحرير الفلسطينية وياسرعرفات , وعلاقاته ببعض أطراف الحركة الوطنية اللبنانية اليسارية , وعلاقاته بالنظام الجزائري , ونظام اليمن الجنوبي , وهكذا … وكان لا يوفر احدا من مسباته وشتائمه الشنيعة . وأنهى حديثه كما بدأه بالتبرؤ من الجميع , وأكد أنه ظاهرة مفردة وحرة وذاتية , ولا يقبل أن يحسب على اي حزب أو منظمة أو نظام أو فئة . ( وللتذكيرفقد نشرت مقابلتي هذه مع أحمد فؤاد نجم في احد أعداد مجلة “الشراع” في حينها ويمكن الرجوع لها )
أعتقد أن مشكلة نجم مع الفندق الباريسي انتهت نهاية مقبولة بدفع الفاتورة بعد ( صراع مع الليبيين وتدخل بعض الشخصيات العربية وتحول القصة الى فضيحة ), وعاد الى القاهرة بدون علاج , وواصل حياته صعلوكا جاهليا في القرن العشرين , صوتا للمعذبين والغلابا والمتمردين في مصر , عاش على سطح بناية في غرفة صغيرة , فقيرا مدقعا , ولكن مواقفه وقناعاته السياسية وفلسفته الاجتماعية والانسانية الخاصة لم تتغير إلى آخر يوم في حياته , ولكنه فقد الكثير من تألقه ونجوميته بسبب تقدم السن !
المصدر: صفحة الكاتب الصحفي الراحل محمد خليفة على الفيسبوك
=====
ملاحظة: صادف يوم 03_ 12 الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم.
الشاعر ” أحمد فؤاد نجم” شاعر فريد من نوعه صورة عصرية للشعراء الصعاليك بتاريخنا القديم أمثال طرفة بن العبد صعلوك متمرد ثائر ذو نزعة فطرية للبساطة وحب الفقراء وانحيازه لهم لروحه الرحمة والمغفرة ، ذكريات وقراءة دقيقة لحياته وتوجهاته الفكرية والسياسية نقلها الكاتب والمناضل الراحل محمد خليفة الله يرحمه ويغفر له ويجعل مثواه الجنة .