” يصعب الشعور بطعم الحرية وسط هذا الدمار وأعداد الشهداء الكبيرة ” ..هكذا عبرت أسيرة فلسطينية محررة عند وصولها لمنزل ذويها..مختصرة بذلك معادلة استراتيجية بمعنى: ما لم يكن الثمن الباهظ جدًا الذي دفعه شعب فلسطين من دمار هائل وعدد هائل من الشهداء والجرحى؛ سبيلًا إلى الحرية التامة؛ حرية فلسطين وشعبها؛ فإن الإحساس بالإنتصار لا يكتمل ولا يأخذ أبعاده الحقيقية..فهل يمكن هذا أو كيف نجعل هذا ممكنًا؟
لا شك أن عملية طوفان الأقصى وما تلاها من عدوان وحشي إجرامي غير مسبوق من العدو الصهيوني على كل مظاهر الحياة في غزة وليس فقط البشر والعمران والبنيان؛ قد أحدثت تصدعات كثيرة وذات دلالات بعيدة فيما يخص قضية فلسطين والصراع العربي – الصهيوني..
أول وأهم تلك التصدعات ما أصاب الكيان الصهيوني من ارتجاج فتح أبواب تقهقره داخليًا وعالميًا..وانكشاف حقيقته العدوانية لكثير من القوى الشعبية العالمية التي لم تكن تدرك تمامًا تلك الحقيقة الإجرامية..فكانت صور المدنيين الضحايا والأعداد الضخمة من الأطفال الذين قضوا بالقصف المتعمد للمنازل السكنية وليس بطريق الخطأ؛ كذلك قصف المدارس والمستشفيات وقتل الصحفيين، تثير استنكار وتنديد أعداد متزايدة من النخب الثقافية والقوى الشعبية في الغرب ذاته..الغرب الإستعماري الذي أقام دولة الكيان الصهيوني ويمدها بأسباب القوة والسيطرة والبقاء لتكون ذراعه المتقدمة للسيطرة على الوطن العربي وإبقائه مفككًا مستضعفًا خانعًا…وكثير من تلك النخب العالمية والنخب الثقافية والأكاديمية لم تكن لتتجرأ بإدانتها للممارسات الصهيونية فكان العدوان الأخير سببًا في إشهار رفضها بل وعدائها لدولة الكيان.
أكثر من هذا فقد أصاب تصدع واضح عمق المشروع الصهيوني وإدعاءاته الدينية التي شكلت له غطاء لإنطلاقته واغتصابه أرض فلسطين العربية..تجلى ذلك بوضوح عند أعداد متزايدة من النخب اليهودية التي خرجت من عباءة الصهيونية وهيمنتها لتعلن رفضها للمشروع الصهيوني وانكشاف أكاذيب كل ادعاءاته الدينية التاريخية؛ لتصل إلى سحب اعترافها بالدولة ذاتها ومخالفتها لليهودية الصادقة الأصيلة…وليس هذا إلا بداية أكيدة لانحسار المشروع الصهيوني – الديني وتراجعه تمهيدًا لأفوله.
إن المظاهرات الشعبية الحاشدة التي خرجت في كل عواصم الغرب ودوله والرافضة للعدوان المستنكرة له ولوحشيته البشعة؛ كانت إنعطافًا مهمًا جدًا في الرأي العام الإنساني لصالح قضية فلسطين والمقاومة الشعبية للمشروع الصهيوني.
أما ما يتعلق بالخسائر الكبيرة في البشر والمعدات ومعها التماسك الأمني – التقني ورهبة غطرسة القوة التي كان العدو الصهيوني يتمتع بها أو يبرع في تسويقها لذاته مدعيًا قدرته الفائقة على توفير الأمن لمواطنيه؛ فقد تصدعت هي الأخرى فكانت خسائره البشرية فوق ما يستطيع احتماله الأمر الذي تسبب بتكثيف مغادرة الكثيرين لأرض فلسطين أو ما يسمى الهجرة المعاكسة..فضلًا عن تمرد بات جليًا في صفوف قواته العسكرية وهروب وجبن مقاتليه بما يدل على فقدان الثقة بالدولة نفسها وبالفكرة والمشروع وليس فقط بالحكومة..وهذا بدوره تصدع في أساس الدولة سيفتح المزيد من أبواب تراجعها وانحسارها وصولًا إلى الأفول التام الناجز.
أما في الجانب العربي فقد تحولت كل عمليات التطبيع والتعاون الشامل بين النظام الرسمي العربي إلى مجرد مصلحة آنية لأشخاص الحكام والمستفيدين منهم ومعهم ..وفقدت كل معاني التسوية أو الإعتراف الشعبي أو القبول الثقافي والأخلاقي والإجتماعي لدولة الصهاينة..فبان تهافتها وانفصالها التام عن الواقع الشعبي العربي الذي تفاعل بوجدانية تامة مع شعب فلسطين رغم القهر الذي يعيشه جراء ممارسات القمع والرعب الذي تحيطه بها أنظمته الإستبدادية..
هذه الحرب ليس فقط أعادت قضية فلسطين بكل أبعادها التحررية والإنسانية إلى صدارة الإهتمام العالمي والعربي؛ بل أعادت إحياء حقيقة المصير العربي الواحد بعد أن كادت مصالح الإقليمية وأدواتها تطمسها لصالح الإنعزال المحلي وإشغال كل بلد بمشكلاته الداخلية بوهم استطاعته حلها بمفرده وأهمها القدرة على تحقيق الأمن الوطني والتنمية الحقيقية محليًا..استعاد الوعي العربي حقيقة وحدة القضية وبالتالي وحدة المصير العربي..فأعداء فلسطين هم أنفسهم أعداء سورية والعراق وليبيا والجزائر وهكذا..أهدافهم واحدة وأساليبهم متنوعة وأدواتهم متعددة وأولها أنظمة التجزئة والاستبداد المحلية..
وفي الجانب الفلسطيني فقد سقطت فكرة المقاومة الإسلامية لصالح المقاومة الشعبية..وإن كانت حماس والجهاد هما من فجر المعركة ويقودها عسكريًا إلا أن كل الشعب الفلسطيني هو الذي صمد وناصر وقاوم في كل ميدان وهو الذي دفع الثمن الباهظ. كما أن إصراره على البقاء وتمسكه بأرضه هو الذي أفشل مشاريع التهجير القسري التي يهدف إليها العدوان ..فضلًا عن أعداد اليهود المتزايدة الرافضة للسياسة الصهيونية أو حتى لدولة الكيان ذاتها ؛ إلى جانب وقوف أعداد كبيرة من المسلمين ذوي السلطة والنفوذ والسلطان ، عربًا وغير عرب إلى جانب المشروع الصهيوني؛ كل هذا يستدعي إعادة النظر في مقولة الصراع الديني التي لم تعد تتناسب مع الحقائق والمعطيات والمتغيرات..
وإذا عرجنا على دور الدول الغربية الصهيوأمريكية وزيف كل إدعاءاتها في الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ فلم تكن مواقفها مع العدوان إلا تأكيدًا للمؤكد عن حقيقتها الإستعمارية المعادية للوجود العربي وتطلعاته التحررية..
أما ما يسمى (محور الممانعة) فلم يكن بحاجة للأحداث الأخيرة ليتم انكشاف كذبه ومتاجرته بالقضية الفلسطينية؛ بل أهالت عليه مزيدًا من التراب ومزيدًا من أكواب الروث الحيواني الذي يستحقه..وها هو يطل برأسه لاستثمار تضحيات شعب فلسطين مرة أخرى.
وما لم تستطع القيادات الفلسطينية المقاومة بلورة مشروع وطني فلسطيني موحد جامع لكل طاقات الشعب الفلسطيني الكبيرة والواسعة ويضع رؤية موحدة للمواجهة والصمود والتحرير وفق برنامج زمني مرحلي محدد وموضوعي؛ يقدر على استثمار تضحياته العظيمة ويضعها في إطارها التحرري السليم؛ منطلقًا لإبعاد كل المشبوهين والمنافقين عن اللعب بالقضية؛ ولاستقطاب المزيد من الطاقات الشعبية العربية والإنسانية لصالح النضال دفاعًا عن فلسطين وعروبتها؛ فإن أطرافًا محلية وإقليمية ودولية كثيرة سوف تتدخل لاستغلالها وتوظيفها في خدمة مشاريع مشبوهة لا تخدم قضية فلسطين ولا أية قضية عربية أخرى.
كل التحية والتعظيم لشعبنا العربي الفلسطيني الذي أبدى نمطًا فريدًا متميزًا من العطاء والبذل والفداء ومن الإيمان والبطولة والقدرة على احتمال ما لا يحتمل؛ ما يجعله في طليعة الشعوب التي تضحي وتستميت في الدفاع عن أرضها ووطنها وهويتها وقيمها. ولسوف يكون صموده الأسطوري وإيمانه العظيم مثالًا لكل الشعوب المتطلعة إلى الحرية والكرامة والتقدم.
عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حرب وحشية غير مسبوقة أحدثت تصدعات كثيرة ودلالات بعيدة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي – الصهيوني ، وأعادت القضية الفلسطينية بكل أبعادها التحررية والإنسانية إلى صدارة الاهتمام العالمي والعربي ، كل التحية والتعظيم لشعبنا العربي الفلسطيني لصموده الأسطوري وإيمانه العظيم ودفاعه عن أرضه ووطنه وهويته .