سحر خليفة أيقونة الرواية الفلسطينية بكل جدارة. قرأت لها اغلب انتاجها الروائي حيث بدأت قبل عام ١٩٧٠م تقريبا في روايتها الأولى لم نعد جواري لكم. وانتهاء بكتابها هذا الأقرب للرواية أيضا: روايتي لروايتي. الذي نشرته عام ٢٠١٧م ومن خلال تتبعي لإخبار سحر في النت وجدت أنها نشرت الجزء الثاني من روايتي لروايتي هذا العام. وهي تعد متابعينا بجزء ثالث…
هذا يعني اننا امام روائيّة مبدعة مثابرة على الكتابة والعطاء لمدة نصف قرن. وهذا بحد ذاته انجاز كبير …
في هذا الجزء من كتاب روايتي لروايتي لسحر خليفة تضعنا أمام استعادة لحياتها التي كانت ممتلئة بالتجارب وكانت رواياتها عصارة تجاربها عبر سنوات عمرها كله…
إن قارئ روايتي لروايتي سيكتشف مستويات ثلاث تحكم حياة سحر. الأول هو ذاتها المتوثبة الطموحة وايمانها بنفسها وأنها موهوبة كفنانة في صغرها حيث شجعها استاذها ودفعها لتطوير موهبتها في الرسم والكتابة. وهي التقطت موهبتها وحولتها الى شغف وحولت تجربتها الحياتية الخاصة والحياة التي تعيشها في أسرتها وفي المجتمع وكونها امرأة، وكيف وجدت نفسها ضحية موقف مجتمعي متخلف من المرأة ودورها وحضورها. وهكذا وجدت نفسها كاتبة نسوية مدافعة عن المرأة بدء من نفسها لتشمل كل نساء العالم. وهذا هو المستوى الثاني. أما المستوى الثالث في كتابة سحر خليفة فهو الاهتمام الوطني. انها ابنة فلسطين وهي من مدينة نابلس عاشت بالوعي العام نكبة فلسطين ثم تعايشت مع كل ما حصل من تطورات في القضية الفلسطينية في واقع حياتها اليومية وفي ذاتها وما تعيشه حولها.
وبذلك كانت رواياتها مصبوغة بهذا التداخل بين ذات سحر خليفة وخلفيتها الاجتماعية والنسوية وكونها ابنة القضية الفلسطينية واقعا وانتماء…
ضمن هذه المحددات في خلفية كتابات سحر خليفة الروائية ندخل لمحتوى كتابها روايتي لروايتي…
سحر ابنة عائلة ثرية من مدينة نابلس كان قدرها أن أمها أنجبت ثمانية بنات وكانت هي منهم. وهذا انعكس على العائلة بدءا من الأب الذي كان ينتظر الابن الذكر الوريث، في واقع اجتماعي يقدس الذكور و يضطهد النساء ضمن معادلة ظالمة ترعاها النساء وهن ضحاياها.
لم يخفف من مشكلة عائلة سحر إنجاب امها اخ وحيد بعد ثمانية بنات. الابن نشأ مدللا ومتروك لحياة دون ضوابط. وعندما دخل في سن المراهقة. تصرف برعونة وتهور، كان لديه سيارة وكان يسوقها بجنون. حصل معه حادث. أصيب بالشلل ، حزنت العائلة وحاولت معالجته في فلسطين وخارجها لكنه لم يتعافى. انتكس الاب و انكفأت الأم على رعاية ابنها. وتركت البنات ينتظرن تزويجهم مبكرا دون أي اهتمام حقيقي فيهنّ.. قرر الأب أن يتزوج ثانية لعله يرزق بصبي يرثه ، مما شرخ العائلة وأدخلها في حالة مزرية. تزوج الوالد لفترة من الزمن. ثم طلق زوجته الجديدة ظالما لها. عاد للعائلة دون أن يعود الود والثقة . وعاش بعد ذلك طويلا لكن لم يستطع رأب صدع العائلة خاصة بعد وفاة الاخ المصاب…
كبرت سحر وسط ظرف اجتماعي متوارث يؤمن أن مصير الفتاة هو زواجها. وانشاء اسرة. وإعادة سيرة امها: إنجاب الأولاد وتربيتهم والاهتمام بالبيت وطلبات الزوج وأن تكون مطيعة منصاعة نموذج للقبول بهذه الحياة بكل ما تقدمه من سلبيات وايجابيات.
كانت سحر قد امتلأت ثقة بنفسها من كونها موهوبة بعدما أخبرها مدرسها بذلك وقررت أن تكون فنانة أو روائية. وبدأت رحلة الاطلاع والقراءة. لكن الاهل والواقع الاجتماعي كان أقوى منها. فقد أُخرجت من المدرسة وزوجت من احد اقربائها يعمل في أحد البنوك. كان رجلا مصابا بداء لا علاج له. أنه مقامر، كانت العائلة تعرف ذلك. لكنه تعهد أن لن يعود للقمار مجددا. وحصل الزواج. وعاد للقمار وتورط بديون وكان يعكس خساراته بالسكر والمعاملة السيئة مع زوجته سحر. كانت تحتمل وتخبر أمها وأبوها. وهم يطلبون منها التحمل. ومرت السنين وهو على هذه الحال وكلما غرق بالديون اندفع والدها لسد ديونه. أما هي فقد أنجبت منه طفلتين. وكانت قمة معاناتها عندما سافرت معه الى ليبيا ليعمل هناك في احد البنوك. كان ذلك في عهد الملكية قبل عام ١٩٧٠م وهناك استمر الزوج في المقامرة والمعاملة القاسية مع سحر التي قررت في نفسها انها ستطلق نفسها منه. خاصة أنها حصلت على حق العصمة في يدها عندما طلبت ذلك من والدها الذي فرض على الزوج ذلك في احدى حالات ايفاء ديون الزوج.
كان لا بد ان تعود الى نابلس اولا. لكن الزوج منعها من العودة كما رفض إعطاءها تكاليف السفر. عند ذلك قررت سحر ان تجد عملا تعتاش منه وتوفر مبلغا لسفرها عندما تحين الفرصة. دخلت دورة تدريب على الآلة الكاتبة لغة عربية وانكليزية. وسرعان ما حصلت على شهادة. وعملت بموجبها بعد ذلك. وبدأت تحصل على المال التي جمعته للسفر. أقنعت زوجها بالسفر وبالطلاق. حيث اغرته بتخليها عن مؤخر مهرها. وأنها ستسمح له برؤية بناته متى يشاء.
في ذات الوقت كانت سحر متابعة القراءة والكتابة. كتبت رواية اسمها “بعد الهزيمة” حاولت إرسالها للنشر. لكن وصلت لفلسطين وكان الاحتلال قد توسع على الضفة الغربية أخذها المحتل وحقق معها من أجلها ولم يعطها إياها. والنسخة التي بقيت في ليبيا اكتشفها الزوج واتلفها…
كما كتبت سحر روايتها لم نعد جواري لكم وارسلت أجزاء منها لناشرين كثيرين. واخيرا قبل بها ناشر مصري مهم جدا. وطلب منها أن تكملها وتعهد بنشرها. وهي عندما خرجت من ليبيا للعودة إلى نابلس ذهبت الى القاهرة والتقت بالناشر واتفقت معه على نشر روايتها الاولى لم نعد جواري لكم…
كان للرواية صدى كبيرا البعض رحب بها بقوة والبعض رفضها أيضا بقوة. هي رواية نسوية بامتياز تنتصر لحقوق المرأة على كل المستويات…
عادت سحر الى نابلس طلقت زوجها وقررت أن تستقل عن العائلة لترفع عنها هيمنة والدتها وسيطرتها على حياتها، كان معها بعض المال الذي جمعته من ليبيا وكذلك مردود نشر روايتها، قررت أن تستمر في دراستها الجامعية. رغم كونها أصبحت فوق الثلاثين من العمر. كانت تكتب لبعض الصحف والدوريات. خاصة بعدما لم نجمها بعد إصدار روايتها لم نعد جواري لكم…
دخلت جامعة بيرزيت وأكملت دراستها في اللغة العربية. وهناك بدأت تدخل في عمق دراسة حال المقاومة الفلسطينية وكيف تشكلت وتطوراتها. وهكذا كتبت روايتها الصبار التي تأخر نشرها لسنوات لكنها عندما نشرت جعلت سحر خليفة تحت أضواء النقد مع وضد. وأصبحت اسما مهما جدا في عالم الرواية الفلسطينية. وبعد ذلك عكفت على انجاز روايتها عباد الشمس التي تعد الجزء الثاني التابع للصبار الذي يؤرخ للعمل الفدائي في فلسطين. ويظهر سلبياته وايجابياته. ويدخل في عمق المأزق الفلسطيني في معركة التحرير من المستعمر وضرورة ربط ذلك بمعركة تحرير المرأة وإعطائها حقوقها الإنسانية الكاملة. لقد تعمقت سحر خليفة في قراءة كل القوى السياسية خاصة اليسارية الذين تعاطوا مع تحرير المرأة من زاوية جنسية بحيث حولوها لغنيمة يستهلكونها ويرموها لواقعها الاجتماعي الذي مازالت به متخلفة ومهانة ومظلومة. نادت بالترابط بين التحرير المجتمعي وخاصة للمرأة : وعي وحقوق وتجاوز الدونية المجتمعية وعدم استغلالها جنسيا. وبين تحرير فلسطين والعمل لذلك…
نجحت سحر خليفة في رمي حجر في مستنقع المجتمع وجعلت قضية المرأة في سلم أولويات الناس والداعين للعمل من أجل التحرير وبناء الحياة الأفضل…
في ذات وقت الدراسة الجامعية ومن خلال تفوق سحر وحضورها. وانتشار رواياتها وترجمتها للعديد من لغات العالم. وصل شهرتها للجامعات الأمريكية حيث تم دعوتها الى دورة لفترة محددة. تركت بناتها عند امها وذهبت الى امريكا وهناك انفتحت أمامها الطرق والسبل. وتعرفت على أمريكا الظاهر اللامع حيث النظام والعمل والمسؤولية والانتاج. كذلك الباطن حيث المظلومية وسحق الناس لصالح رأس المال الذي لا يرحم. مظالم طالت ملاك أراض مزارعين ومنتجين. وكيف لم يحميهم عندما تغيرت ظروف الطبيعة من مصادرة أملاكهم وتحويلهم إلى مشردين. هناك مئات الالاف الناس الذين يعيشون في الشوارع دون مأوى. امريكا بلد الاغنياء والاقوياء واليهود لأنهم صنعوا عصبة تحصل على ماتريد دائما لأنها مسيطرة على رأس المال والسياسة والإعلام.
في أمريكا وجدت من يتبناها ويدعمها حتى تكمل دراستها وتحصل على الدكتوراه وهكذا حصل. كتبت سحر خليفة هناك روايتها باب الساحة لتكون رسالة التخرج. وعندما عادت إلى نابلس أعادت نشرها بعدما ناسبتها مع الواقع الفلسطيني…
تحدثت سحر خليفة ثانية عن نفسها وتوقها للحب للنصف الآخر الرجل الذي تحبه ويحبها وبه ومعه تكتمل انسانيتها. تعرفت عليه فنان موسيقي يعزف على الكمان مثقف له مواقف ايجابية من المرأة يعامل سحر بكل احترام، وجدت به فارس احلامها. التقت معه كثيرا وسمعت موسيقاه وشاركت واياه في الكثير من النشاطات. انتظرت ان يصارحها بحبه الذي أصبح واضحا بينهما. لكنه خذلها عندما وجدته يحب اخرى لا صفة لها سوى كونها صغيرة ولا تدرك من الدنيا شيئا لكنها بالنسبة له البنت التي “ما باس فمها الا امها” . لقد عاد الفنان المثقف لأصله يتزوج زواج تقليديا. من امرأة مطيعة تنجب له الأولاد وترعى بيته وحاجاته…
خيبة أخرى عاشتها سحر. جعلها تؤمن بضرورة ثورة نسوية تعيد للمرأة اعتبارها وحقوقها و احترام انسانيتها…
ما حصل مع سحر خليفة في كل مراحل حياتها وبعد الحب المجهض الذي عاشته. جعلها تدخل عميقا في القضية النسوية. فكتبت روايتها مذكرات امرأة غير واقعية. رفعت الغطاء و فضحت المستور الذاتي عند النساء والظلم المجتمعي لحال المرأة. نجحت الرواية وترجمت إلى لغات كثيرة وكان لسان حال كل امرأة من النساء اللواتي قرأنها في بلاد العرب وامريكا واروبا وامريكا اللاتينية يقولون: انها تتحدث عني شخصيا…
كما استطاعت سحر خليفة تفرض على اجندة كل من يهتم بالسياسة ان يرى أن قضية المرأة والمظلومية المجتمعية التي تعيشها وضرورة تحريرها وإعطائها حقوقها هو جزء من الهم السياسي سواء التحرير والتغيير الاجتماعي وأن العمل متكامل لأجل المرأة والواقع الاجتماعي والهموم السياسية…
كذلك تحدثت سحر عن واقع العرب والفلسطينيين في أمريكا. لقد وجدتهم يعيشون في مجتمعات صغيرة مغلقة والبعض منهم ولد هناك لكنهم كانوا يعيشون وفق عاداتهم وتقاليدهم وتخلفهم الاجتماعي وخاصة في العلاقة بالمرأة. وأكدت سحر ان واقع اغلب العرب والفلسطينيين هناك مزري ومؤسف و أن القليل منهم استطاع ان يتجاوز هذا الحال ويصبح ذا مؤهل علمي ومادي جيد. لكن حتى هؤلاء الذين اصبحو كذلك لم يستطيعوا أن يتجاوزوا مواقفهم تجاه المرأة. فهذا الدكتور المتزوج امريكية التي أنجبت له ابنتين حملت الاولى بسبب علاقات جنسية ميسرة وطبيعية في أمريكا طاردها بالسكين ليذبحها. وكذلك ابنته الأخرى. لم يستطع التكيف مع واقع الغرب في موضوع الجنس ولم يعرف كيف يبني بناته بحيث لا يحصل معهم ما حصل…
تقرر سحر خليفة بعدما وجدت في أمريكا ما تعيشه من تناقض ذاتي وتغوّل على كل مظلوم داخلها وخارجها. وتختم برأي نعوم تشومسكي عن أمريكا الدولة المتوحشة. قتلت الهنود الحمر وجلبت العبيد الافارقة وظلمتهم وألقت قنابلها الذرية على هيروشيما وقتلت مئات الألوف لتفرض سيطرتها على العالم… لذلك لم تحبها وغادرتها نهائيا رغم العروض الكثيرة التي جاءتها لتعمل في التدريس هناك في مردود مادي كبير…
تنهي سحر خليفة كتابها بالعودة الى الميراث وان قضيتنا نحن العرب والمسلمين والفلسطينيين خصوصا. هي وطنية سياسية في مواجهة المحتل ومجتمعية في محاربة جميع أنواع الظلم وضرورة بناء مجتمع العدالة والكرامة والحرية. وان قضية النساء والنسوية التي تطالب بتحرير المرأة كشرط لتحرير المجتمع هي على اولى اولويات النضال المجتمعي الواجب والملح…
في التعقيب على الكتاب الرواية اقول:
لم يكن غريبا أن تحمل سحر خليفة مسؤوليتها كصاحبة رسالة. وان تعيش حياتها بكل عمق وجدارة ووفاء لإنسانيتها أولا ، والمجتمع ثانيا ، وبلدها وناسها ثالثا، و قضية المرأة وحقوقها اخيرا…
حوّلت تجربتها وثقافتها وما عاشته الى رواية متسلسلة ارّخت لنفسها ولشعبها الفلسطيني وقضية المرأة اولا واخيرا…
رواية “روايتي لروايتي” للروائية الفلسطينية “سحر خليفة” قراءة جميلة وتعقيب واقعي للأخ “احمد العربي” رواية متسلسلة ارّخت لنفسها ولشعبها الفلسطيني وقضية المرأة أولا وأخيرا…