وقـــائــــع يــــــــــوم بــــغـــيــــض : 16 تــشــــــريــن الــثــانـــي 1970

محمد خليفة

أذكر ذلك اليوم المقيت , كأنه مر عليّ قبل أسابيع لا أكثر . يوم رمادي غائم بارد , لم أكن أتصور أن يصبح بداية لشتاء قارس على شعبنا يستمر أربعين سنة قاحلة , و نظل نتذكره بعد كل هذه الحقبة الثقيلة , المريرة .

 كنت طالبا في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية , في ثانوية الأرض المقدسة بحلب . كنت على رغم يفاعتي ناشطا في أحد احزاب المعارضة السرية وعضوا في حركة فتح الفلسطينية , وكنت شاعرا ذا اسم معروف على مستوى المدينة , وبمحض الصدفة كان معظم طلاب صفي منخرطين مثلي إلى أعناقهم في النشاط السياسي السري والعلني, المعارض والموالي , وكثير منهم صار له فيما بعد شأن , وذاع صيته . ولتكتمل المصادفة القدرية توافق أن كان عدد لا يستهان به من مدرسينا ناشطين سياسيين بارزين ايضا , كالأستاذ عبد الله الطنطاوي مدرس اللغة العربية أحد أبرز قادة الاخوان المسلمين , ومحمد عبدالوهاب احد أعضاء الحزب الشيوعي , والأستاذ ابراهيم السلقيني رحمه الله . لذلك كان الفصل أشبه بندوة سياسية مفتوحة على الدوام , تحتدم فيها النقاشات والصراعات , وكثيرا ما تتطور لعراك أو شجار بالأيدي , ذلك أن المرحلة التي أعقبت هزيمة حزيران 1967 المأساوية فجرت في ابناء جيلنا الحس الوطني والوعي السياسي بشكل مبكر , وجرفتنا في خضم تياراتها السياسية والاديولوجية الصاخبة , شأنها كشأن الانقلابات العسكرية المتوالية التي حدثت منذ انهيار الوحدة مع مصر عام 1961 ثم العهد الذي كان يدعى الانفصال ثم انقلاب البعث , وانقلاب 1966 بين جناحي البعث , لعن الله الفريقين , فكل منهما كان أسوأ من الآخر , ولعن ثالثهما الذي حمل حافظ الاسد للاستفراد بالسلطة .

في الليلة السابقة للحدث أوينا الى البيوت مبكرين , وقد تناهت الى أسماعنا شائعات ومعلومات غير مؤكدة ولا رسمية عن انقلاب جديد قاده وزير الدفاع على رفاقه في القيادة وارسالهم بالجملة الى بيت خالتهم ( المزة ) !! وعندما نهضنا صباحا من نومنا كنا بحثنا في اذاعة دمشق وبقية المحطات عن نبأ أو اشارة تؤكد أو تنفي , ولكن محاولاتنا ذهبت أدراج الرياح . وحين وصلنا قبيل الثامنة الى المدرسة بدأنا نتهامس ونتوشوش ونتبادل ما لدينا من شائعات وحكايات وأنباء عن انقلاب جديد . وتضاربت الروايات والمعلومات لكنها اتفقت على أن الطغمة الحزبية الحاكمة صارت بأكملها في المزة , وأن اللواء حافظ الاسد أمسك بالسلطة , ومعه تابعه مصطفى طلاس رئيس الأركان , ومن ورائهما العميد علي المدني قائد الشرطة العسكرية , والعميد ناجي جميل قائد القوى الجوية .

في الثامنة دخلنا الفصل بعد أن قرع الجرس , ولاحظنا ان مدير المدرسة وهو بعثي متطرف ومزايد يدعى محمد الاسدي غائب وغير موجود على غير عادته كل صباح , ولاحظنا أن معظم مسؤولي الحزب وشبيبة الثورة واتحاد الطلاب غائبون وعلى رأسهم صالح الملاح .

في الحصة الأولى كان لدينا مدرس للغة الإنجليزية يمتاز بحس السخرية السياسية , فوجدناه يضحك ويلقي النكات في ذلك الصباح بدون حذر وينتقل من نكتة الى أخرى ولم يطلب منا لا فتح الكتاب ولا تقديم الوظائف .. كان مطمئنا إلى أن النظام انتهى , واليوم عيد يستحق الحفاوة .

الحصة الثانية كانت للغة العربية ودخل علينا استاذنا عبد الله الطنطاوي وكان أشد حبورا من سابقه ولكن برصانة وأخذ يطلب منا أن نكتب موضعاً أدبياً عن حتمية انتهاء الطغيان وسقوط الحكام الظالمين , ويطلب منا أن نستظهر ما نحفظه من اقوال مأثورة وأشعار وحكم عن الموضوع , وصرنا نتبارى فعلا , وقد جاريناه في مكره الذكي الجميل .. وبينما نحن هكذا اقتحم باب الفصل علينا بلا استئذان زميلنا صالح الملاح ,أهم مسؤولي الحزب والشبيبة في المدرسة , كان هائجا يرتعد وشعره يتطاير اشعث أغبر , وعيناه محمرتان , وحركاته مضطربة , صارخا كمن مسه سعار : يا رفاق .. يا رفاق لقد سيطرت طغمة عسكرية رجعية على الحزب واعتقلت القيادة الشرعية .. يا رفاق اخرجوا الى الشارع ودافعوا عن الحزب والثورة .. يا رفاق هذه مؤامرة على سوريا وعلى البعث وعلى الامة العربية وعلى فلسطين , كان يخطب بصوت عال ويداه تتحركان كالمروحة وظهره مقوس .. وينتظر منا التجاوب معه … مدرسنا العتيد التزم جانب الفصل ولاذ بالصمت ووجهه بلا ملامح محددة , وعلى الاثر اخذ بعض الطلاب البعثيين بالنهوض من مقاعدهم تجاوبا مع الملاح متأثرين بهيجانه .. وخفت أن يحقق مبتغاه , فنهضت واقفا وقلت له ببرود شديد وهدوء مصطنع جدا متظاهرا بالغفلة والغباء … يا زميل صالح أرجوك اخرج ودعنا نكمل درسنا فنحن طلاب بكالوريا ولسنا فاضين لهذه الاشياء ولا نفهم عماذا تتكلم .. وتحركت من مقعدي وسحبته من يده ودفعته نحو الباب .. فجن جنونه أكثر وأخذ يكيل الشتائم لي , ويقول نحن نعرفك أنت اصلا ضد الحزب وضد الثورة , أنت رجعي… كاد الموقف يتحول عراكا لولا أن زملاء آخرين تدخلوا وفصلوا بيننا , وأخرجوه حيث ذهب لبقية الفصول واحدا بعد أخر يستحث الطلاب على الاضراب والخروج للاحتجاج على الانقلاب , وعدت انا الى مقعدي بعد أن اغلقت الباب وقلت للمدرس تفضل استاذ وأكمل لنا الدرس .. وكان هذا يضحك من أعماقه , ويقول لي احسنت احسنت !!

في المساء كانت الاذاعة الرسمية قد خرجت عن صمتها وأعلنت قيام الحركة التصحيحية واعتقال( الزمرة المراهقة التي اضاعت البلاد وأشاعت الارهاب بين المواطنين ..) ونمنا على وهم الخلاص من طغيان (الزمرة المراهقة) ولم نكن نتصور أن ما سيأتي سيجعلنا نتحسر على ما كان .

في اليوم التالي عندما ذهبنا الى المدرسة علمنا أن زملاءنا البعثيين الذين حاولوا الوقوف في وجه الانقلاب وكانوا موالين للزمرة السابقة اعتقلتهم الاستخبارات , وصرنا نتحدث عن سخريات القدر , ولكن هؤلاء افرج عنهم بعد 48 ساعة فقط , وقد انصاعوا للعهد الجديد , وعاد زميلنا صالح الملاح الى المدرسة ليوزع علينا بيانا يشيد فيه بالحركة التصحيحية التي قادها ابن الحزب البار الرفيق الفريق حافظ الاسد .. وصرت كلما التقيه في السنوات التالية أذكره بما قاله عن الطغمة العسكرية التي أطاحت بالقيادة الشرعية وتآمرت على الثورة والبعث … وكان يتوسل الي ألا اذكره بتلك الحادثة (العرضية ) !!

صالح الملاح هذا صار فيما بعد حوتا من حيتان الفساد الكبار في حلب بل على مستوى سوريا !! وصرنا نحن ملاحقين ومشردين في المنافي نتنقل من بلد إلى آخر طوال 33 سنة لا نملك حتى بطاقة هوية تثبت سوريتنا !

=====

المصدر: صفحة الكاتب الصحفي والباحث الراحل محمد خليفة على الفيسبوك.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ذكريات من الواقع عن يوم انقلاب حافظ الأسد على رفاقه بقيادة الحزب والدولة ، نعم كان الرفاق باليوم الأول معارضين للانقلاب وبعد يوم أو يومين باركوا الانقلاب إنها الانتهازية الحزبية ، رحم الله أخينا المناضل العروبي الراحل محمد خليفة وأسكنه فسيح جنانه .

زر الذهاب إلى الأعلى