ورقة سياسات
ثمة قاسم مشترك بين روسيا وتركيا يتمثل في كونهما وريثتي إمبراطوريتين أورو آسيويتين، لكنهما مستبعدتان عن ترتيبات البيت الأوروبي. ولكن هناك ميراثًا تاريخيًا من الخلافات بينهما، حول المرور في مضيق البوسفور، والتنافس في ليبيا، والموقف من النزاعات في القوقاز وآسيا الوسطى، والمسألة السورية.
ويبدو أنّ الجانب الاقتصادي يمثل حجر الزاوية في مسار التقارب التركي-الروسي، مما يشير إلى نموذج من البراغماتية السياسية، ولكن العلاقات بينهما ستبقى محكومة بحقائق الجغرافيا السياسية بين الدولتين، وبأجواء عدم الثقة القائمة منذ عقود.
وفي ما يتعلق بتجليات العلاقة بينهما في سورية، فإنّ أهم المصالح الروسية في سورية تتمثل في الحفاظ على نظام الأسد، لقناعة روسيا أنه الوحيد الذي يضمن مصالحها ويضمن فتح الطرق الدولية لضمان سلامة القاعدة الروسية في حميميم، والتمركز في المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط. وتُدرك روسيا أن تركيا لا يمكن أن تتساهل إزاء نفوذها في سورية، على الأقلّ في الشمال السوري، وعلى الخصوص محاولة إنشاء كيان كردي سوري، وكذلك وجودها على طاولة المفاوضات النهائية لرسم مستقبل سورية. ويبدو واضحًا أنّ كلًا منهما يحاول أن يستخدم الآخر لتحقيق مصالحه.
أولًا. مظاهر التعاون والتنافس في العلاقات الروسية-التركية
يبدو أنّ المحدد الرئيسي لهذه العلاقات هو الجغرافيا السياسية، إذ إنّ الرئيس بوتين يدرك أهمية توفير مناطق عازلة لروسيا في أوروبا الشرقية والقوقاز، في حين أنّ الرئيس أردوغان يطمح إلى أن تصبح تركيا لاعبًا مهمًا في الشرق الأوسط. وعليه، فإنهما يدركان مدى استفادتهما من التبادل البراغماتي بينهما؛ إذ تقدّم العلاقات بينهما نموذجًا لإدارة أهداف متناقضة في العديد من المناطق، وتحويلها إلى “تعاون تنافسي” ينطوي على المرابح للطرفين.
- – مظاهر التعاون
يبدأ تعاون روسيا مع تركيا من حيث إنها متنفس اقتصادي يساعد في تقليص آثار العقوبات الغربية منذ بداية الأزمة الأوكرانية في عام 2014، إضافة إلى أنها المدخل من البحر الأسود إلى البحر الأبيض المتوسط، وأنها خاصرة للفضاء الحيوي لروسيا الأورو-آسيوية. وفي سياق ذلك، يستغل بوتين الخلافات القائمة بين تركيا والغرب، بشقيه الأميركي والأوروبي. وفي المقابل، يمثل البعد الاقتصادي دافعًا أساسيًا لتركيا، فضلًا عن أنّ المعادلات الجديدة التي أفرزها الوجود العسكري الروسي في سورية فرضت على تركيا “التعاون التنافسي”.
وقد كان اللقاء الأخير بين الرئيسين في سوتشي مؤشرًا واضحًا على رغبتهما في مواصلة علاقة المصالح المتبادلة، بما لا يخفي التباينات بينهما في مجالات عديدة.
1 – المصالح الاقتصادية
يمثّل الاقتصاد أساس التعاون الروسي-التركي، إذ توفّر روسيا معادلة أمن الطاقة لتركيا، ومن ضمنها بناء محطات نووية لتوليد الكهرباء، إضافة إلى مشروع “السيل التركي”، الذي يمرّ تحت البحر الأسود بطول 910 كم. ومما يجدر ذكره أنّ الغاز الروسي “شكل نحو 45 % من مشتريات الغاز التركية المعتمدة على الاستيراد عام 2021”[1].
وتتبوأ التجارة بين البلدين مركزًا مهمًا، إذ لم تلتزم تركيا بتنفيذ العقوبات الأميركية على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا في 24 شباط/ فبراير 2022، وفي الوقت نفسه، عملت على تزويد أوكرانيا بطائرات (بيرقدار)، وشجعت الاستثمار الروسي في تركيا، بل إنّ شركات روسية فتحت مكاتب لها لاستيراد البضائع ونقلها من الموانئ التركية إلى الموانئ الروسية. كما أنّ “الصادرات التركية إلى روسيا نمت بنسبة 75% في تموز/ يوليو 2022 مقارنة بالعام السابق، حيث اتّجه الروس إلى تركيا لاستبدال الواردات الأوروبية المحظورة عليهم بفعل العقوبات”[2].
وقد اتفق الرئيسان، في اجتماعهما الأخير بسوتشي، على المضيّ قدمًا في مشاريع التعاون بينهما، في مجال الطاقة الحيوي لكليهما، خصوصًا “إنشاء مركز لبيع الغاز الروسي في تركيا، فضلًا عن بحث سبل التعاون لبناء محطة ثانية لتوليد الطاقة الكهربائية في تركيا بالطاقة النووية، بعد محطة أكويو التي تم تدشينها في وقت سابق من هذا العام”[3].
وكان الرئيس التركي قد قال للصحفيين على متن رحلته من سوتشي، في آب/ أغسطس 2022، إنه اتفق مع الرئيس بوتين على “دفع جزء من ثمن الغاز المستورد من روسيا بالروبل”[4].
2 – اتفاقية الحبوب
يعتبر الممر التركي للحبوب الأوكرانية من مظاهر التعاون الروسي-التركي، ولكن رفض روسيا تمديد اتفاقية تصدير الحبوب شكل انتكاسة، ربّما مؤقتة، للدبلوماسية التركية، التي تقلق من تزايد العسكرة في البحر الأسود. وفي محاولة منه للحفاظ على دور الوسيط الذي تقوم به أنقرة في اتفاقية الحبوب، جدد أردوغان في سوتشي التأكيد على أحقية المطالب الروسية بخصوص الإعفاءات من العقوبات الغربية، قائلًا: “إنّ الجميع يعلمون تطلعات روسيا جيدًا وأنه يجب التخلص من أوجه القصور في الاتفاق.. وأنّ تركيا والأمم المتحدة عملتا على حزمة جديدة من الاقتراحات لتهدئة المخاوف الروسية.. وأنّ أنقرة تأمل أن يساعدها هذا المشروع في تحفيز موسكو على تجنّب أي خطوات تفاقم التوترات في البحر الأسود، وتوفير أرضية مناسبة في نهاية المطاف لمفاوضات بنّاءة على نطاق أوسع من أجل إعادة إحياء ممرّ الحبوب”[5].
ويتوقع الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، كامران غسانوف، استمرار المشاورات الروسية التركية بعد قمة سوتشي، لا سيما في ملفي التسوية الأوكرانية وتصدير الحبوب، “مقابل موافقة موسكو على تصدير الحبوب الأوكرانية في مرحلة لاحقة، يمكن لأنقرة توفير مجمّع للمنتجات الزراعية والغذائية الروسية على أراضيها، وليس من باب الصدفة أنه جرى حديث عن توصّل موسكو إلى اتفاق مع تركيا وقطر، بشأن إبرام صفقة تشمل مليون طن من الحبوب الروسية”[6].
- – مظاهر التنافس
ثمة مظاهر عديدة للتنافس بين البلدين في مناطق عديدة؛ حيث تعتبر منطقتا شرق البحر الأسود وجنوب القوقاز، منطقتي تنافس “صامت” بين البلدين. وتراهن تركيا على عدم تمكّن روسيا من تحقيق نصر حاسم في غزوها لأوكرانيا، مما سيضعف قدراتها على تعزيز وجودها في البحر الأسود. كما تعتبر منطقة شرق آسيا الوسطى مجالًا حيويًا لتركيا، حيث ثمة روابط مع الشعوب الناطقة بالتركية، ويحاول الرئيس أردوغان الاستفادة من ضعف نفوذ روسيا الغارقة في أوكرانيا. إضافة إلى أن الدولتين تدعمان قوى متعارضة في ليبيا وسورية، من خلال حروب هجينة بالوكالة.
ثانيًا. تجليات العلاقات الروسية – التركية في سورية (2011 – 2023)
شكّل الصراع السوري عامل تأثير مهمًا في العلاقات بين روسيا وتركيا، إذ كان سببًا في توتر هذهِ العلاقات من جهة، ودافعًا للتقارب من جهة أخرى، وذلك تبعًا لطبيعة المصالح المتضاربة لكلتا الدولتين. وبعد التدخل العسكري الروسي في سورية عام 2015، طوّرت قيادتا البلدين عملية مساومة أتاحت لكليهما مجال المناورة لتحقيق المكاسب، والحدِّ من احتمالات المواجهة المباشرة في آن واحد، من خلال التفاهمات والمقايضات بينهما، منذ سقوط شرق حلب في كانون الأول/ ديسمبر 2016، بعد تجاوز أزمة إسقاط تركيا للطائرة العسكرية الروسية في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، وما رافقه من تحوّل في السياسات التركية تجاه المسألة السورية.
لقد مثّل الصراع السوري ساحة الاختبار الأهمّ لمستقبل العلاقة الروسية-التركية المعقدة، التي تتجلى فيها مقولة “التعاون التنافسي” بشكل واضح. ومن أجل متابعة مسار علاقات البلدين في هذه المسألة، يجدر بنا أن نتعرف إلى أهمية معطياتها لكلتا الدولتين، وقضايا التعاون والتنافس بينهما. إذ كانتا مشرفتين على عدة اتفاقات في سورية، خاصة اتفاقات الأعوام 2017 و2018 2020، وما لحق بها من توافقات في سوتشي.
بحثت روسيا عن نقاط تلاقٍ مع تركيا في سورية، منطلقة من إدراكها حجم قدرتها على الفعل، بحكم امتداد الحدود المشتركة إلى نحو 900 كلم، إضافة إلى فعاليتها في التأثير على المعارضة “الرسمية” السورية. وفي المقابل، أربك التدخل الروسي المباشر السياسات التركية، لما انطوى عليه من تغيّرات في الموازين الاستراتيجية في المنطقة. وهكذا، فإنّ قيادتي الدولتين نظرتا إلى سورية، باعتبارها مدخلًا لمشروعيهما في الشرق الأوسط، وقد أدركت كل منهما أنّ نجاح مشروعها في سورية مرهون بعدم تصدي الأخرى له. مع العلم أنّ ميدان الشمال السوري مهدد دائمًا، إذ إنّ تركيا تهدد دائمًا بالتحرك ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في حين أنّ روسيا والنظام يستهدفان مناطق النفوذ التركي في الشمال الغربي، مما يدلل على عدم توافق على مستقبل الوضع في سورية.
- – مضامين المقايضات في مناطق “خفض التصعيد”
شكل مسار أستانا منطلقًا لما سمي مناطق “خفض التصعيد”، في أيار/ مايو 2017، بعد أن بُني على أنقاض حلب الشرقية في كانون الأول/ ديسمبر 2016، وفق تفاهمات أطرافه الثلاثة: روسيا وتركيا وإيران. بعد أن أعلنت، في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2016، التوصل إلى “إعلان موسكو”، الذي ينطوي على التفاهم على خريطة طريق لحل الأزمة السورية، بدءًا من “خفض التصعيد”. حيث قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيريه التركي والإيراني[7]: إنّ البلدان الثلاثة متفقة على أنّ الأولوية في سورية هي “مكافحة الإرهاب”، وليس إسقاط النظام. وأكد أنّ البلدان الثلاثة مستعدة للمساعدة في التوصل إلى اتفاق بين الحكومة السورية والمعارضة. وفي اجتماع آستانة 4، في أوائل أيار/ مايو 2017، تم الاتفاق على مناطق “خفض التصعيد”.
وقد تحول المسار إلى موازٍ لمسار جنيف الأممي، واليوم بعد 20 جولة لم يفتح الأفق إلى حل سياسي في سورية، بل تحوّل إلى محاولة تطبيع العلاقات التركية-السورية، من خلال اندماج مسار آستانة مع رباعية موسكو. وفي اجتماع عقده وزراء خارجية الدول الضامنة الثلاث، على هامش اجتماعات الدورة الـ 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرًا، قال بيان لوزارة الخارجية الروسية إن الوزراء الثلاثة شددوا على “الحاجة إلى حشد المساعدات الخارجية”، مؤكدين “تصميمهم على مواصلة الجهود لتعزيز التسوية في سورية”. مشيرًا إلى أنه “في هذا السياق، يبرز الدور الرئيسي لصيغة آستانة في التسوية السورية”[8].
وفي الواقع، لم يكن من الممكن نجاح عملية “درع الفرات” التركية في شمال ريف حلب (مثلث جرابلس – الباب – إعزاز)، في 24 آب/ أغسطس 2016، لولا المقايضة بين الرئيسين الروسي والتركي. حيث اعتقد كل واحد منهما إمكانية تحقيق استراتيجيته في سورية من خلال المقايضات، ولكنّ الواقع كشف حدودها، إذ إنّ روسيا أرادت للعملية أن تقف عند حدود مدينة الباب، وسببت طائراتها مقتل أربعة جنود أتراك، بما انطوى على رسالة روسية حول الحدود المسموح بها للعملية التركية.
وبالرغم من ذلك، فقد أدركت تركيا أنّ تحقيق أهدافها في سورية منوط بالشراكة مع روسيا، وقد تجلى ذلك عندما نفذت عملية “غصن الزيتون” في عفرين، وطردت قوات “قسد” منها. وفي المقابل، أنجزت روسيا خطتها لنقل المقاتلين من غوطة دمشق، وشمال حمص، ودرعا إلى إدلب. وفي أوائل تشرين الأول/ أكتوبر 2019، بعد أن أعلن الرئيس الأميركي ترامب الانسحاب من شرق الفرات، قامت تركيا بعمليتها العسكرية “نبع السلام”، بين منطقتي رأس العين وتل أبيض، بتسهيل من روسيا التي هدفت إلى تعزيز وجودها في شرق سورية، بالاعتماد على توظيف تخوّفات “قسد” من الطيران التركي المسيّر، وتخوّفات العشائر العربية من تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة.
ومنذ التدخل العسكري المباشر، أقامت روسيا علاقة مباشرة مع قيادة “قسد”، وتطورت العلاقة تبعًا لتوتر العلاقات الروسية-التركية، إضافة إلى إيصال رسائل إلى أميركا تهدف إلى تقاسم النفوذ في المنطقة. وبعد غزوها لأوكرانيا تعقدت حساباتها، إذ أدركت أنّ نزع غطائها عن “قسد” سيدفعها للاعتماد الكامل على الإدارة الأميركية، مما يفقدها ورقة من أوراق الضغط على تركيا.
ومما يجدر ذكره أنّ “قسد” كانت قد افتتحت مكتبًا لها في موسكو منذ شباط/ فبراير 2016، كورقة ضغط روسية على تركيا. في حين أنّ الرئيس أردوغان طالب روسيا، أثناء وجوده في سوتشي خريف عام 2018، بالدعم لمحاربة “قسد”، إذ قال في مقال له نشر في صحيفة روسية: “تركيا تنتظر دعمًا روسيًا، لمحاربة التنظيمات الإرهابية التي يتركز وجودها حاليًا شرقي نهر الفرات”[9]. ومن اللافت للنظر أنّ وزير الخارجية الروسية لافروف كان قد صرح، في 21 أيلول/ سبتمبر، بأنّ “الخطر الرئيس على وحدة سورية ينطلق من المناطق الشرقية، حيث يتم تشكيل هياكل حكم ذاتي في المناطق الواقعة فعليًا تحت السيطرة المباشرة للولايات المتحدة”[10].
- – الاتفاقيات بين الرئيسين في سوتشي
مثّلت اتفاقية سوتشي، في 17 أيلول/ سبتمبر 2018، بين الرئيسين الروسي والتركي، بخصوص منطقة إدلب وما حولها، معلمًا بارزًا للتعاون الروسي-التركي في سورية، إذ اعتقدت تركيا بإمكانية إنقاذ إدلب، التي كانت تعنيها أكثر من كل مناطق “خفض التصعيد”. وقد تضمن الاتفاق “إنشاء منطقة منزوعة السلاح بعمق يصل إلى 15 – 20 كم، وفتح الطرق الدولية حماة – حلب M5 واللاذقية – حلب M4، وإقامة نقاط مراقبة لتطبيق الاتفاق”[11]. وتمَّ التأكيد على الاتفاق خلال لقاء الرئيسين في 5 آذار/ مارس 2019، إذ كان طموح روسيا يكمن في حماية قاعدتها الجوية في حميميم، من خلال تأمين السيطرة على الطريقين، وبذلك ضمنت تركيا استمرار سيطرتها على مناطق نفوذها في الشمال السوري. ومن أجل استكمال تقاسم النفوذ، التقى الرئيسان في 22 تشرين الأول/ أكتوبر، حيث عززت روسيا قواتها في شرق الفرات، في حين قامت تركيا بعملية “نبع السلام”.
ولكن روسيا، بعدما حققت طموحاتها في شرق الفرات، عادت للتركيز على إدلب، بعد فشل الجولة الثانية عشرة من اجتماعات آستانة، في أواخر نيسان/ أبريل 2020. فأطلقت عملية عسكرية، معللة ذلك بأنّ تركيا لم تلتزم اتفاق سوتشي. إذ سيطر النظام على عدة قرى في ريفي حماة وإدلب، بالاعتماد على كثافة نيران الطيران الروسي.
وقد جاءت مقالة أردوغان، في “وول ستريت جورنال” حاملة عنوان “على العالم أن يوقف الأسد”، لمناشدة أصدقائه في أميركا وأوروبا التدخل لوقف أي هجوم على إدلب، إذ كتب فيها “على المجتمع الدولي أن يعي مسؤوليته حيال هجوم إدلب، لأنّ كلفة المواقف السلبية ستكون باهظة، ولا يمكننا ترك الشعب السوري لرحمة الأسد”. ولفت النظر إلى أنّ “إدلب هي المخرج الأخير، وإذا فشلت أوروبا والولايات المتحدة في التحرك، فإنّ العالم أجمع سيدفع الثمن، لا الأبرياء السوريين فحسب”. وختم بالقول: “المسؤولية عن وقف هذه المجزرة لا تقع فقط على عاتق الغرب، بل معنيّ بها أيضًا شركاؤنا في عملية آستانة، روسيا وإيران، المسؤولتان بالمقدار ذاته عن وقف هذه الكارثة الإنسانية”[12].
وبدا آنذاك أنّ بوتين “يدرك أنّ مصالحه الاستراتيجية الطويلة الأمد ستتحقق بشكل أفضل، من خلال عرض اتفاق جديد على أردوغان في إدلب، حتى لو كان يعتزم خرق ذلك الاتفاق في وقت لاحق. وربما يسمح بوتين لتركيا بشن ضربات رمزية قوية على أهداف نظام الأسد”[13]. مما مهد السبيل للتأكيد على الاتفاق خلال لقاء الرئيسين، في 5 آذار/ مارس 2020، حيث تمَّ توقيع مذكرة سوتشي الخاصة بمنطقة إدلب، بهدف إيقاف المعارك العسكرية، وإنشاء ممر آمن بعمق 6 كيلومترات على الطريق الدولي M4 جنوب مدينة إدلب، وتسيير دوريات روسية-تركية مشتركة، وتنفيذ باقي بنود اتفاقية سوتشي (2018). وبالرغم من تجديد الاتفاق، يبدو من الصعوبة بمكان استدامة الوضع الحالي في إدلب، بل ثمة استعداد للمراحل القادمة؛ إذ بلغ العدد الإجمالي للمواقع التركية في شمال غربي سورية 76 موقعًا عسكريًا.
وبالتوازي مع التهديدات التركية بإطلاق عملية عسكرية ضد قوات “قسد”، اتخذ الجيش الروسي جملة من الإجراءات الميدانية في سورية؛ حيث إنّ القوات الروسية نشرت منظومات دفاع جوي متوسطة المدى في مطار القامشلي بريف الحسكة، في خطوة تهدف إلى إغلاق الأجواء أمام الطائرات المسيّرة التركية. وعززت من قدراتها الجوية في قاعدة القامشلي، باستقدام 6 طائرات مروحية حربية مطلع حزيران/ يونيو 2022، بعضها كانت رابضة في مطار الطبقة العسكري. ووفرت المروحيات الروسية في 31 أيار/ مايو الغطاء لانتشار قوات النظام السوري في 4 نقاط جديدة بمنطقة تل رفعت ومحيطها[14]. ولكن روسيا في الواقع كانت تعارض إنشاء “منطقة آمنة” تركية في شرق الفرات، خاصة إذا ما تمَّ التفاهم بين تركيا وأميركا حول هذه المنطقة، بعد تصريح ترامب عن سحب القوات الأميركية، وتستخدم إدلب كأداة ضغط على تركيا.
- (3) – المنطقة الآمنة ومحاولة إحياء اتفاقية أضنة التركية-السورية
طرحت تركيا حاجتها إلى منطقة آمنة في الشمال السوري منذ سنة 2017، لاحتضان العدد المتزايد من اللاجئين السوريين، واعتبارها شريطًا عازلًا لمواجهة خطر تبلور حكم ذاتي للأكراد السوريين. وجرى تحريك المسألة بعد إعلان ترامب سحب القوات الأميركية من شرق الفرات، واتفاقه مع الرئيس التركي بشأن المنطقة الآمنة؛ إذ اندرج الموضوع في ملف المقايضات الروسية-التركية، حيث دعت روسيا لإحياء اتفاقية أضنة لعام 1998، بما يضمن لتركيا غطاءً قانونيًا، شريطة أن يتم بالتوافق مع النظام السوري. وكان موقفًا لافتًا، عشية قمة سوتشي لثلاثي آستانة، إعلان المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، في 13 شباط/ فبراير 2019، إذ قالت ردًا على سؤال بشأن خطة المنطقة الآمنة التركية: “إنّ مسألة وجود قوة عسكرية تعمل بتعليمات من بلد آخر على أرض دولة ذات سيادة يجب أن تحسمها دمشق مباشرة. هذا هو موقفنا الأساسي”[15].
واستمرت المساعي الروسية لتوفير مكاسب سياسية للنظام السوري من البوابة الأمنية، وفي الوقت نفسه قطع الطريق على أي عملية عسكرية تركية في شمال شرقي سورية، إضافة إلى طمأنة تركيا على مصالحها. بحيث يتم تعديل اتفاقية أضنة لإتاحة المجال للجيش التركي للتوغل بعمق 32 كم بدلًا من 5 كم، في حال عدم قيام القوات السورية بالإجراءات اللازمة لمنع قوات “قسد”.
وفي السياق، يمكن اعتبار أنّ المساعي الروسية للتطبيع بين النظامين التركي والسوري، في الطاولة الرباعية (روسيا وتركيا وإيران وسورية)، جاءت لاستغلال الاستدارة التركية بهدف وضع حدٍّ للوجود العسكري التركي في الشمال السوري. ويبدو أنّ هذه المساعي أثارت شكوك القيادة التركية حول جدية القيادة الروسية في الضغط على النظام السوري، الذي يشترط انسحاب القوات التركية من سورية لإبرام اتفاق بين الطرفين. وقد حرصت القيادة التركية على التأكيد بأنّ وجودها العسكري سيبقى إلى أن تتحقق تسوية سياسية، تضمن عودة اللاجئين ومحاربة الإرهاب.
سيطر الجمود على مسار تطبيع العلاقات بين تركيا وسورية، منذ آخر اجتماعات لنائبي وزيري خارجيتيهما مع نائبي وزيري خارجية روسيا وإيران، على هامش الاجتماع العشرين لمسار آستانة في 20 و21 يونيو/ حزيران الماضي، لبحث خريطة طريق روسية للتطبيع. حيث أصرت دمشق على انسحاب القوات التركية من شمال سورية، كشرط للبدء في أي خطوات للتطبيع، وأعلنت أنقرة أنّ ذلك يعدّ خطًا أحمر، بدعوى أنّ الجيش السوري غير قادر حاليًا على ضمان أمن الحدود ومنع التهديدات الإرهابية ضد تركيا.[16]
وقال الرئيس أردوغان، في طريق عودته من مدينة سوتشي أخيرًا: “قلنا من البداية إنّ العملية الرباعية مع النظام السوري يجب أن تتم بالتدريج ومن دون أي شروط مسبقة، لكن من أجل أن يحدث ذلك، من المهم جدًا أن يتصرف النظام السوري وفقًا للحقائق على الأرض، وأن يتجنب الأساليب التي قد تضر بالعملية.. توقعاتنا الرئيسة من هذه العملية هي اتخاذ خطوات ملموسة في الحرب ضد الإرهاب، وتهيئة الظروف اللازمة للعودة الطوعية والآمنة للاجئين، وتنشيط العملية السياسية في سورية تحت رعاية الأمم المتحدة… إحراز تقدم في هذه المجالات سيساعد في دفع عملية التطبيع إلى الأمام”[17]. وعلى وقع قمة سوتشي، راح النظام يصعّد عسكريًا في محافظة إدلب، وخاصة جبهة جبل الزاوية وقراه الممتدة وصولًا إلى مدينة أريحا.
ثالثًا. حدود التفاهمات الروسية-التركية في سورية
تتّسم التفاهمات الروسية-التركية في سورية بالهشاشة، ولكنّ الواقعية السياسية اقتضت متابعة العلاقات بينهما، من زاوية أنّ سورية لا تمثل إلا جزءًا من مصالحهما المتشعبة. وذلك بالرغم من أنّ الدولتين تدركان أهمية توافقهما في سورية لمصالحهما في المنطقة، ولكنّ واقع طموحاتهما وضع حدودًا للتفاهمات بينهما، كما رأينا سابقًا؛ حيث اختلفتا -مثلًا- على تعريف التنظيمات الإرهابية وتحديدها، فبينما تعتبر تركيا أنّ تنظيم “قسد” هو الخطر الإرهابي على أمنها القومي، تعتبر روسيا التنظيم حليفًا محتملًا، إضافة إلى أنها تعتبر هيئة تحرير الشام “هتش” الخطر الأكبر على قاعدتها العسكرية في حميميم، فضلًا عن أن روسيا أحبطت إمكانية قيام منطقة آمنة تركية عازلة على الحدود السورية.
من جانب آخر، عمّق التصعيد الذي شهدته إدلب وجوارها منذ حزيران/ يونيو الماضي، والانعطافة التركية نحو الغرب بعد الانتخابات الرئاسية، التنافس بين الطرفين، وبات ذلك التحدي الأبرز في المرحلة القادمة. خاصة إذا ما انطوت العلاقات الأميركية-التركية المتجددة على طمأنة تركيا على أمنها القومي، من زاوية خطر مشروع قوات سوريا الديمقراطية في الحكم الذاتي.
وقد خرجت أصوات كثيرة تنادي بضرورة الرد العسكري على تركيا في سورية، ومنها القائد السابق للجيش الروسي في دونباس إيغور ستريلكوف، الذي قال في حسابه على تيلغرام: “عاجلًا أم آجلًا، سيحصل صدام عسكري بين الجيش الروسي والجيش التركي، سواء في البحر الأسود أم في القوقاز وأرمينيا، لذا دعونا نستبق هذه المواجهة ونضربهم في سورية حتى لا تصبح قواتنا في سورية محاصرة، في حال أغلق البوسفور في وجهنا”[18]. وهكذا، يبدو أنّ العلاقة الروسية-التركية في سورية ستبقى في الوسط، أي لا تفاهمات كاملة ولا صراع كاملًا، وفق توازنات القوى التي حكمت العلاقة منذ سنة 2020، حيث تقع إدلب وجوارها في بؤرة المواجهة بينهما. وفي المقابل، يبدو أنّ العلاقات بينهما لن تصل إلى حدّ الصدام أو القطيعة، وقد تتغاضى موسكو عن بعض القرارات التركية، نظرًا لأنّ علاقاتها مع أنقرة استراتيجية، وهناك حاجة متبادلة بين الجانبين. ثمَّ أنّ تورط روسيا في أوكرانيا سيمنعها من زيادة التوتر مع تركيا.
ويشير الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، كامران غسانوف، إلى أنّ موسكو تسعى للحفاظ على الشراكة مع أنقرة، رغم بعض التباينات، مستشهدًا بإشادة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خلال لقائه الأخير مع نظيره التركي، هاكان فيدان، بما اعتبره “سياسة أنقرة الخارجية المستقلة والموجهة نحو تحقيق مصالحها الوطنية”. ويضيف غسانوف أنّ “تحرّر تركيا من حلف الناتو مهمّ للغاية، بالنسبة إلى الكرملين، في وقتٍ يسعى الغرب فيه لجرّ العالم أجمع إلى صف مواجهة روسيا في ظروف احتياجها إلى الاستيراد الموازي”[19]. وهي آلية تلجأ إليها روسيا في ظروف العقوبات الغربية، للحصول على سلع الشركات الغربية المنسحبة من السوق الروسية عبر دولة ثالثة، من دون اللجوء إلى وكيل معتمد.
في كل الأحوال، يبدو أنّ لا اتفاق تامًا بين روسيا وتركيا حول سورية، ويبدو أيضًا أن المسألة السورية لن تُفسد إمكانية الانفراج بين البلدين. بحيث يمكن القول: إنّ ما تقوم به تركيا، من محاولة الموازنة بين توجهاتها الأوراسية وانتمائها إلى حلف الناتو، يمثّل القاعدة التي تساعدنا في تقدير حدود العلاقات الروسية-التركية؛ إذ تحاول اللعب مع الطرفين في آن واحد، من خلال إتقان توزيع الأدوار بين أركان أعضاء الحكومة التركية، فمثلًا تبني علاقات جيدة مع أوكرانيا، وفي الوقت نفسه لا تزجّ نفسها مع الحلف في أوكرانيا. وهذا يدل على دراية القيادة التركية بالبيئة الجيوسياسية المتغيّرة حول تركيا، وإدراك الحاجة إلى علاقاتها مع الغرب.
رابعًا. أهم الاستنتاجات
1 – لا يمكن الحديث عن تحالف استراتيجي بين روسيا وتركيا، إذ إنّ تركيا عضو في حلف الناتو، ويبدو أنها تستخدم ورقة علاقتها مع روسيا للضغط على الغرب، الذي يدرك الأهمية الجيواستراتيجية لها. أي أنها تطمح إلى الإبقاء على العلاقة مع الطرفين، بما يساعدها في توسيع نفوذها في الشرق الأوسط.
2 – من المستبعد تطابق المصالح بين روسيا وتركيا في سورية، ولكنّ المسألة السورية لن تكون عامل تفجير للصراع بينهما، ويبدو أنّ وجود المصالح المشتركة سيضع حدًا لتوتر العلاقات بين الطرفين، خلال المرحلة القادمة، وسيُبقي مقولة “التعاون التنافسي” قائمة، إلى حين انعقاد طاولة المفاوضات حول مستقبل سورية. إذ ستبقى روسيا داعمة للنظام، في حين أنّ تركيا تعتبره يقود دولة فاشلة. وقد يفتح الصراع، بين العشائر العربية وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، المجالَ لظهور رغبة تركية-سورية مشتركة، بدعم روسي، في إيجاد أرضية مشتركة على قاعدة رفض الدعم الأميركي لـ “قسد”.
3 – تشكل الانعطافة التركية نحو الغرب، والحراك الشعبي السلمي في السويداء وإرهاصاته في المحافظات السورية الأخرى وخاصة في الساحل، مع مؤشرات تحرّك دولي وإقليمي للتعاطي مع المسألة السورية، فرصةً لإمكانية إطلاق ديناميكية جديدة؛ ما يفرض على السوريين محاولة استرداد دورهم المفقود، والقيام بدور فاعل لتحديد مصيرهم.
[1] أبرز محطات العلاقات التركية الروسية – الرابط https://2u.pw/3OQqRuy، شوهد بتاريخ 5 آب/ أغسطس 2022.
[2] محمود علوش: أردوغان يوازن الفرص والمخاطر مع روسيا – الرابط https://2u.pw/x0xVyjZ، شوهد بتاريخ 5 أيلول/ سبتمبر 2022.
[3] محمود علوش: قمة سوتشي تُظهر قوة براغماتية اردوغان وبوتين – الرابط https://2u.pw/jEcacio، شوهد بتاريخ 22 أيلول/ سبتمبر 2023.
[4] مخلص الناظر: تركيا وروسيا والتموضع الخطر، الاقتصاد فوق كل اعتبار – الرابط https://2u.pw/XsIHxO6، شوهد بتاريخ 25 آب/ أغسطس 2022.
[5] محمود علوش: قمة سوتشي تُظهر قوة براغماتية اردوغان وبوتين، مرجع سابق.
[6] رامي القيلوبي: لقاء بوتين وأردوغان يفشل في إحياء اتفاق الحبوب الأوكرانية – الرابط https://2u.pw/4MurDas، شوهد بتاريخ 23 أيلول/ سبتمبر 2023.
[7] مركز حرمون للدراسات المعاصرة: إعلان موسكو بين الفرص والمعوقات – الرابط https://2u.pw/muZcUYQ، شوهد بتاريخ 5 أيلول/ سبتمبر 2023.
[8] الدول الضامنة تؤكد دورها الرئيسي في التسوية السورية – الرابط https://2u.pw/XIH0l1w، شوهد بتاريخ 23 أيلول/سبتمبر2023.
[9] مركز حرمون للدراسات المعاصرة: التجاذبات الدولية حول عقدة إدلب والخيارات التركية – الرابط https://2u.pw/jV1RV2Z، شوهد بتاريخ 2 أيلول/ سبتمبر 2023.
[10] المرجع السابق.
[11] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: اتفاق إدلب فرص نجاحه وتحديات تنفيذه – الرابط https://2u.pw/NhecGJS، شوهد بتاريخ 30 أيلول/ سبتمبر 2018.
[12] التجاذبات الدولية حول عقدة إدلب..، مرجع سابق.
[13] سونر جاغابتاي (مؤلف كتاب “إمبراطورية أردوغان: تركيا وسياسة الشرق الأوسط”): خيارات تركيا للضغط على روسيا في إدلب محدودة – الرابط https://2u.pw/o4oGrEG، شوهد بتاريخ 2 أيلول/ سبتمبر 2023.
[14] فراس فحام: الحسابات الروسية الحذرة تجاه العمليات التركية المحتملة شمالي سورية – الرابط https://2u.pw/UeYXCPW، شوهد بتاريخ 4 حزيران/ يونيو 2022.
[15] مركز حرمون للدراسات المعاصرة: سيناريوهات المنطقة الآمنة في شرق الفرات – الرابط Https://2u.pw/lxQSSWE ، شوهد بتاريخ 12 أيلول/ سبتمبر 2023.
[16] سعيد عبد الرزاق: لا تقدم في مسار تطبيع أنقرة ودمشق بعد سوتشي. الرابط https://2u.pw/zRUZRIS، شوهد بتاريخ 6 أيلول/ سبتمبر 2023.
[17] المرجع السابق.
[18] غسان ياسين: هل ننتظر صدامًا بين تركيا وروسيا في سورية؟ – الرابط https://2u.pw/HoHmgpR، شوهد بتاريخ 20 تموز/ يوليو 2023.
[19] رامي القيلوبي: لقاء بوتين وأردوغان يفشل في إحياء اتفاق الحبوب الأوكرانية – الرابط https://2u.pw/4MurDas، شوهد بتاريخ 5 أيلول/ سبتمبر 2023.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة