يدرك الكرملين جيداً بأنه ليس بمنأى عن مفاعيل قانون “قيصر”، ويلتزم أخيراً صمتاً شبه مطبق حيال تأثيرات القانون عليه، على الرغم من وضوح نص القانون بشأن الدول والمنظمات والأشخاص، الذين يساعدون النظام في ارتكاب جرائمه ضد السوريين. لكنه كان من اللافت مسارعته إلى الإعلان على لسان سفيره في دمشق ألكسندر يفيموف أن “موسكو لن تتخلى عن دمشق” في صراعها مع العقوبات. والسفير، الذي لم تذكر نوفوستي صفته كممثل خاص للرئيس الروسي في دمشق، لم يقتصد في استخدام الخطابية عينها، التي يستخدمها الإيرانيون والنظام السوري في “صراعه مع العقوبات”. فروسيا، التي مرت عبر تاريخها الألفي بتجارب أقسى من هذه بكثير، وسوريا التي صمدت في الحرب الطويلة القاسية ضد إرهاب حقيقي، لن يكسرهما “الإرهاب الإقتصادي”، وهذه العقوبات سوف تفشل، كما سبق وفشلت محاولات فرض إرادة غربية بالسلاح على الشعب السوري. ويؤكد السفير “للجميع”، أن روسيا لن تتخلى عن سوريا في هذه “المرحلة الصعبة”، حيث “تمكنا خلال خمس سنوات من النضال ضد العدو المشترك”، من بلوغ أقصى درجات الثقة والتعاون.
الثقة القصوى، التي يؤكدها السفير، لم يعرضها للتشكيك أكثر مما قام به الكرملين نفسه في أواسط نيسان/أبريل المنصرم، حين اكتشفت فجأة مواقع إعلام “طباخه” يفغيني بريغوجين فساد النظام السوري، وعجزه عن إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرته. صحيح أن الكرملين كان قد نأى بنفسه حينها عن انتقادات مواقع إعلام بريغوجين تلك، ولم يؤكدها أو ينفها، إلا أن ذلك لم يقنع أحداً بأن تلك الإنتقادات لم تكن بوحي من الكرملين نفسه، الذي تربطه علاقة وثيقة ب”سيد” المرتزقة الروس “الطباخ” بريغوجين. وبريغوجين ذاك كان نفسه قد عاد عن انتقاداته تلك، وظهر في دمشق واجتمع مع رئيس ديوان الرئاسة السورية منصور عزام وعدد من الوزراء السوريين، كما ذكر موقع “Rosbalt” الروسي في 4 من الشهر الجاري، ونشرت وكالة الأنباء الفدرالية العائدة له في 6 من الشهر عينه مقالة مطولة بعنوان “الأسد يجابه بنجاح عقوبات الولايات المتحدة خلال تطويره إقتصاد سوريا خلافاً ل”قانون قيصر””. فهل اقتنع الكرملين برأي بريغوجين “المستجد” هذا، أم أن “قانون قيصر” لم يترك له خياراً آخر غير الإصطفاف إلى جانب النظام السوري في “النضال ضد العدو المشترك”؟
موقع “news.ru” الإلكتروني الروسي تحدث بصراحة عن الموقع، الذي يُلزم “قانون قيصر” الكرملين التموضع به إلى جانب النظام السوري والدفاع المستميت عنه، بل ويشتبه بمده بالدولار الأميركي، مما ساهم في انتعاش الليرة السورية مؤقتا، قبل عودتها مجدداً إلى الإنخفاض. فقد كتب الموقع في 10 الشهر الجاري مقالة بعنوان “روسيا سوف يلزمونها بدفع ثمن خطايا النخبة السورية”، أرفقه بعنوان ثانوي قال فيه “ينتظرون من موسكو إجراءات لحماية دمشق من “قانون قيصر” الأميركي””. وقال الموقع بأنهم يشتبهون بروسيا باتخاذها إجراءات لدعم الليرة السورية، التي انخفضت إنخفاضا شديداً بسبب اقتراب فرض حزمة جديدة من العقوبات الأميركية تحت اسم “قانون قيصر”، الذي وصفته الحكومة السورية بالحرب الإقتصادية عليها. ومن المحتمل أن تضطر موسكو إلى إعادة صياغة تعاونها مع دمشق على نحو يجنبها جميع المخاطر. وقال بأن المحللين قد لاحظوا، أنه بعد الإنخفاض الشديد للعملة السورية، عادت وتحسنت قليلاً، إذ استعادت حوالي 20% من قيمتها تجاه الدولار خلال يوم واحد، مما جعل هؤلاء يفترضون بأن الجانب الروسي لجأ إلى آليات تثبيت قيمتها، كأن يعمد إلى مد المصرف المركزي السوري بالعملة الصعبة. وإذا ما صح ذلك، فهذا يعني أن موسكو تحاول إعادة تنسيق سياستها مع مفاعيل “قانون قيصر”، الذي أصبح أحد عوامل انهيار الليرة إلى جانب مضاربات الصرافين المحليين وشركات رامي مخلوف.
ويقول الموقع أن دمشق تستخدم الخطاب الإيراني في مواجهة “قانون قيصر”، إذ أعلنت الخارجية السورية أن الولايات المتحدة تدوس علناً حقوق الإنسان ومنظومة الحقوق الدولية، وتواصل انتهاج سياسة فرض العقوبات من جانب واحد. لكن مهما كان الخطاب، فمن الصعب التشكيك بفعالية العقوبات الأميركية الجديدة المترافقة مع الأزمة اللبنانية، التي خفضت قيمة ودائع السوريين، ومع الإنهيار الإقتصادي العام بسبب وباء الكورونا والخلافات داخل السلطة السورية.
وكما هو متوقع، فإن “قانون قيصر” سوف يطال روسيا، التي تدعم الأسد، سواء عبر الدولة أو عبر البزنس الخاص. وإذا ما ثبتت صحة التدابير الروسية لدعم الليرة السورية، فإن هذا يعني أن الجانب الروسي مستعد للمضي إلى الآخر في خوض الصراع من أجل الوضع الإقتصادي في سوريا. لكن السؤال هو عما تكلفه لروسيا هذه “الإستشهادية الإقتصادية” في سبيل الحكومة البعثية، التي تواصل إنفاق الأموال على العمليات الحربية، بدلاً من شراء القمح والشعير، ودعم الخبز، الذي تعاني من نقصه مناطق عديدة تقع تحت سلطة الأسد، لكنه من المستبعد توقع إجابة نزيهة على هذا السؤال ، وفق الموقع.
“قانون قيصر” الذي يثير رعباً حقيقياً في نفوس الأسديين في إيران ولبنان وسوريا، يبدأ حيز تطبيقه الأربعاء في 17 حزيران/يونيو، ولمدة خمس سنوات قابلة للإختصار إذا نفذ الأسديون والمعنيون الأجانب شروطه، لم يعد مادة للنقاش برأي الكرملين. فالقانون وقعه الرئيس الأميركي نهاية السنة الماضية، ولم يعد متاحاً سوى الردح حول “استهدافه الشعب السوري”، كما يردد النظام السوري والإيرانيون، ويكرر سفير الكرملين في دمشق، سيما أن مبعوث واشنطن إلى دمشق جيمس جيفري “يطمئن” موسكو بمواصلة مفاوضاته مع الكرملين حول التسوية السلمية للأزمة السورية، وكانت آخر جلساتها عبر الهاتف الخميس الماضي في 11 من الجاري، بين جيفري ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينن.
إن ما يقض مضاجع الكرملين حالياً هي الوثيقة، التي أعدها الجمهوريون في الكونغرس الأميركي بعنوان “تعزيز اميركا ومناهضة التهديدات الدولية”، التي تطالب بفرض “عقوبات من الجحيم” على كل من روسيا والصين وإيران والمنظمات الإرهابية. تتضمن الوثيقة حوالي 140 إقتراحاً بالعقوبات “ضد أكثر أعداء أميركا الدوليين عدوانية”، حسب صحيفة “NOVAYA” الروسية المعارضة، وتهدد روسيا بتسميتها “دولة ممولة للإرهاب”، وبفصلها عن النظام المصرفي العالمي SWIFT. يرفض ديمتري بيسكوف الناطق باسم الرئيس الروسي التصديق بأن العقوبات المقترحة بشأن روسيا سوف يتم تنفيذها، ويأمل بأن “تبقى هذه المخططات على مستوى التصريحات، ولن تتحقق بأي شكل من الأشكال”، ويستطرد بالقول “بالطبع، لا يسعنا إلا أن نأسف للإندفاعات الجديدة، التي يحاول بعض الأشخاص إعطاءها الطابع العام للسياسة الأميركية … وهذا لا يساعد، بالتأكيد، على تطبيع العلاقات الثنائية”، حسب “تاس”.
وينقل موقع “GAZETA.ru” الإلكتروني الروسي الموالي للكرملين عن “تاس” في عرضها للوثيقة، قولها بانها تتضمن قيوداً على مشاريع النفط والغاز، وعلى الدين السيادي الروسي، وعلى “الأشخاص الموالين لروسيا” في البلدان الأخرى. لكن أخطر ما تدعو إليه الوثيقة، برأي الموقع، هو دعوتها “لوضع استراتيجية للتعامل مع الشعب الروسي مباشرة ودعم تطلعاته إلى الديموقراطية وحقوق الإنسان”، أي إلى عدم الإعتراف بشرعية تمثيل الكرملين للشعب الروسي، وتخطي سلطته.
هذا ما يخشاه الكرملين، ويرفض تصديق تحققه في الواقع، وليس “قانون قيصر”، الذي أصبح وراءه، ولم تعد تفيده مناقشته، وإن كان يدرك أنه ليس بمنأى عن مفاعيله، وخصوصاً عسكرييه وسلاحهم الذي يشارك النظام السوري في جرائمه ضد السوريين.
المصدر: المدن