إصلاح الأمم المتحدة! فكر في “أليس في بلاد العجائب”‏

توماس جي. فايس*         ترجمة: علاء الدين أبو زينة

من الحماقة مناقشة إصلاح الأمم المتحدة مع تجاهل الحقائق الوحشية للسياسة المعاصرة. بدلاً من ذلك، يجب أن نعكف على تعزيز المزايا النسبية للأمم المتحدة. ومن الناحية العملية، ينطوي ذلك على القيام بعمل إنساني أفضل وتعزيز الأفكار المحيطة بالقواعد والمبادئ والمعايير العالمية. وعلى وجه التحديد، ماذا عن توحيد ومركزة “النظام” العالمي الممتد؟‏

*   *   *

‏ضج الجانب الشرقي من مانهاتن، الأسبوع الماضي، بتشابك الزحام المروري المزمجر المعتاد وبالنشاز غير الدبلوماسي بالضبط الذي ميز الأحاديث عن الأمم المتحدة. وشمل الضجيج مناشدات غير مدروسة لإحداث تغيير في بنية مجلس الأمن، ممزوجة غالبًا بدعوات إلى صياغة ميثاق جديد للهيئة الدولية. ولكن، مع السياسة السامة السائدة حاليًا، لن يشكل إصلاح الهيئة بداية.‏

يمكن قراءة المحادثات حول في “فيرست أفنيو”، مثل غيرها من أحاديث هذا الربيع وتلك المقرر إجراؤها في العامين 2024 و2025، باعتبارها جهودا طموحة لمتابعة تقارير الأمين العام للأمم المتحدة للعام 2021 ومجلسه الاستشاري رفيع المستوى لتعددية الأطراف الفعالة، إضافة إلى تقارير المجتمع المدني، كأداة تحليلية لـ”قمة أهداف التنمية المستدامة” التي عُقدت قبل أسبوع من كتابة هذه السطور، ‏‏و”قمة المستقبل” التي سيلتئم شملها في‏‏ العام المقبل، ‏‏و”القمة الاجتماعية العالمية” المقرر عقدها‏‏ في العام 2025. ومع ذلك، سُمع حتى المصفقون والمهللون للأمم المتحدة وهم يهتفون بعبارة “الموت عند القمة”.‏

يوفر عدم كفاية الحلول المناسبة للمشاكل العالمية الحالية ‏الخلفية الملائمة للدفاع الصاخب عن قضية إصلاح الأمم المتحدة. ما الذي يمكن أن يكون أكثر وضوحا من هذا العوز؟‏ والواضح بالقدر نفسه هو المناخ السياسي السيئ الذي يظلل التعاون الدولي، مع وجود انقسامات عميقة وانعدام كبير للثقة، وهو بالتأكيد أسوأ وضع رأيته في حياتي. وقد دخلَت أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ عقود الآن شهرها التاسع عشر المدمر.‏

في العام 1945، كان هناك إجماع حول نطاق المنظمة العالمية وأولوياتها. واليوم، لا يوجد اتفاق. وتَتْبع التغييرات التي أُدخلت على “ميثاق الأمم المتحدة” توافق الآراء ولا تسبقه. ويتجاهل المتفائلون الذين يتوقعون حدوث تغييرات كبرى الواقع السياسي المستقطب الذي يعرض نفسه في كل مكان: التنافس المتزايد بين القوى الكبرى؛ والخلافات المتصاعدة داخل الهيئات العبر-حكومية الدولية التابعة للأمم المتحدة؛ والتراجع بشأن الالتزامات المعيارية والقانونية الرئيسية.‏

دعونا نسرد بعض التجليات الأخيرة لردود الفعل المرتبكة والمربكة التي تنجم عن ذلك: الانقلابات في النيجر والجابون هذا الصيف؛ الانفجار العنيف للأحداث في السودان هذا الربيع؛ الانهيار الكامل لاستقرار منطقة الساحل الأفريقي في الوقت الحالي؛ وتوسيع عضوية (بريكس) و”مجموعة العشرين”، وعدم حضور أربعة من الأعضاء الخمسة الدائمين في الأمم المتحدة في الدورة السنوية للجمعية العامة (حضر الرئيس الأميركي جو بايدن من واشنطن العاصمة). ودعونا لا ننسى أيضا الاستجابات المتفرقة لانعدام المساواة الاقتصادية، وتغير المناخ، وأهداف المساواة بين الجنسين، والوباء.‏

لكي أضع قضيتي في حجمها المناسب، ينبغي إيضاح أن الوقت الحالي ليس مثاليًا لإعلان “ميثاق” ثان للأمم المتحدة. وسيكون تعديل يوافق عليه ثلثا الأعضاء وبرلماناتهم أضعف من التعديل الحالي فحسب. هل سنتمنى حقا أن يقود الحشد المتنامي من القادة الاستبداديين الطريق؟‏

‏‏أجد نفسي في حيرة من أمري بشأن موضوعين يبدو أنهما لا يذهبان إلى أي مكان بشكل روتيني، ولكنهما دائما حاضران: إصلاح مجلس الأمن، والمادة 109 من “الميثاق”. ويشكل هذان الموضوعان مسألة إيمان بالنسبة للكثيرين، ويبقيان كليّي الحضور في كل زمان ومكان، خاصة قبل الذكريات السنوية الخمس الكبرى. في العام 2003 قال الأمين العام كوفي عنان للجمعية العامة: “لقد وصلنا إلى مفترق طرق”. في الفترة التي سبقت الذكرى الـ60 لإنشاء المنظمة، كان يأمل في إبرام صفقة كبرى، “لحظة سان فرانسيسكو” (1) أخرى، والتي لا يبدو أنها أقرب اليوم مما كانت عليه قبل عقدين من الزمن.‏

‏في ذلك العام، نشرت ‏‏صحيفة “واشنطن كوارترلي”‏‏ مقالاً لي بعنوان “‏‏وهم إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة‏‏”، والذي طلب مني زملائي تحديثه بشكل دوري. وقد رفضت ذلك لأن التغيير الرئيسي سيكون في العنوان فقط -من “وهم” إلى “سراب إصلاح مجلس الأمن”. ثمة نحو 95 في المائة من الطاقة الدبلوماسية يجري هدره على هذه المتاعب المشوشة.‏

لعل الأمر الأقل إثارة للدهشة هو الإغاظة التي مارسها بايدن هذا ‏‏العام في الجمعية العامة للأمم‏‏ المتحدة؛ حيث كرر، كما كان قد فعل في العام 2022، قوله “إن الولايات المتحدة ستدعم توسيع مجلس الأمن”، بينما يعرف تمام المعرفة أن هذا لن يحدث أبدا.‏

‏يتفق الجميع على أن العالم قد تغير منذ العام 1945، على الرغم من عدم وجود الكثير من الأشياء الأخرى التي تحظى بمثل هذا الإجماع. لكن جميع المقترحات -بما في ذلك محاولة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ‏‏القضاء على العضوية الدائمة لروسيا وحقها في النقض‏‏- ليست مستحيلة فحسب، بل وتثير أيضا العديد من المشاكل بقدر ما تحلها.

بوسعنا أن نعول على المزيد من الأمل في ذلك النوع من التغييرات التي تزيد أحيانا من سلطة الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي ظلت راكدة لفترة أطول مما ينبغي، وتلك الجغرافيا السياسية البارعة. أي أن هناك مجالاً لاستكشاف تغييرات غير متعلقة بـ”الميثاق”.‏

‏‏كنا قد اختلفنا أنا وصديقي الراحل، ‏‏إد لاك،‏‏ في بعض الأحيان. أما عندما يتعلق الأمر بإصلاح الأمم المتحدة، فقد أعربنا كلانا عن الحسرة لأن المؤيدين للإصلاح مفتونون بـ”العملية”، لكنهم يتجاهلون “الناتج”. وإذا تم تحسين العملية فقط، كما يقول المنطق، فإن المنتج سيتحسن أيضا. لكنّ الأمر ليس كذلك بالضرورة. وعلاوة على ذلك، تقضي المشاحنات والشلل المستمران على مساحة استكشاف الحلول العملية. وسيكون من شأن إضافة أعضاء دائمين ومنتخبين جدد إلى مجلس الأمن والعبث بحق النقض أن يحسن الشرعية. ولكن هل ستكون جمعية عامة مصغرة أكثر فائدة؟ بل ألن ينتج عن ذلك عدد أقل من القرارات؟‏

لم يمكِّن البكاء والضغط على الأسنان الدبلوماسية على مدى عقود عدة -ولن يمكِّنا- من إجراء تعديلات جديدة على الـ”ميثاق”، لكن ذلك أسهم في تهيئة بيئة متساهلة أوجدت تعديلات براغماتية، مثل الاستخدام المنتظم لـ”صيغة آريا” (2) وإحراج مستخدمي حق النقض من خلال ‏‏مبادرة ليختنشتاين‏‏.‏

‏كما أدت مرونة الدول الأعضاء إلى إحداث تعديلات وتوسيع لنظام الأمم المتحدة. ولو جاء أي من المؤسسين من العام 1945 إلى مدينة نيويورك الآن، فإنه لن يتعرف على المنظمة التي أنشأها. ولذلك، أرحِب باستكشاف جميع الأفكار التي تستغل هذه البيئة المتساهلة، لكنها تتجنب أي أفكار بشأن تعديل “الميثاق”.‏

هل سيؤدي انعدام القدرة على المضي قدما في إجراء إصلاحات دراماتيكية في مجلس الأمن أو تفعيل المادة 109 من “الميثاق” (3) إلى تقويض مصداقية الأمم المتحدة؟ لا، أو على الأقل ليس أكثر مما كان عليه الحال في الماضي.‏

‏صيانة‏

‏بالعودة إلى فكرتي الافتتاحية، من الحماقة مناقشة إصلاح الأمم المتحدة مع تجاهل الحقائق الوحشية للسياسية المعاصرة. بدلاً من ذلك، يجب أن نعكف على تعزيز المزايا النسبية للأمم المتحدة. ومن الناحية العملية، ينطوي ذلك على القيام بعمل إنساني أفضل وتعزيز الأفكار المحيطة بالقواعد والمبادئ والمعايير العالمية. وعلى وجه التحديد، ماذا عن توحيد ومركزة “النظام” الممتد؟‏

لقد أضافت الدول الأعضاء الكثير إلى البيروقراطية، ولكنها نادرا ما تطرح أو تغلق الكيانات، (على الرغم من أنه يتم الآن إغلاق بعثتين كبيرتين لحفظ السلام بشكل أسرع مما يمكن للمسؤولين إدارته).‏

‏يجب أن تكون الأولوية القصوى للأمم المتحدة هي تعزيز الأسس المتداعية لنظام الأمم المتحدة، وليس التكهن بشأن الأساس الذي نتمنى أنه كان لدينا. لن تحل قمم الأعوام 2023 و2024 و2025 المشاكل الجيوسياسية الأكبر. وعلى الرغم من أن ذلك قد يكون غير مثير، ألن يكون من الأكثر منطقية تبادل الأفكار حول أسوأ السيناريوهات بدلاً من مناقشة أفضل السيناريوهات؟ ماذا عن وضع خطط طوارئ صارمة لما يجب أن يبقى في النظام، أو حتى يتم توسيعه، وكذلك ما يجب إلغاؤه أو توحيده في حال أصبحت لدى المنظمة موارد أقل بنسبة 10 إلى 25 في المائة؟ سيكون من شأن هذا أن يشحذ الأقلام.‏

لست مستعدا بعد للاستسلام بشأن الأمم المتحدة. ومع ذلك، بدلاً من وضع قوائم للأمنيات، ينبغي أن نحدد المزايا النسبية للأمم المتحدة، وأن نبني على ما نجح فيها. وإلا، إلى متى ستبقى الأمم المتحدة واقفة في خليج السلاحف؟‏

‏بالنسبة لأولئك الذين يحكمون عليّ بشكل مفرط في الدرامية والرؤيوية، أود أن أذكر أن عصبة الأمم استمرت في شكل رديف من العام 1939 إلى نيسان (أبريل) 1946. هل تبدو هذه في الواقع صورة وثيقة الصلة بالأمم المتحدة اليوم؟ من الصعب ألا ترن في أذنيّ كلمات اللورد روبرت سيسيل في الجلسة الأخيرة: “ماتت العصبة، عاشت الأمم المتحدة”.‏

‏*توماس جي. فايس‏‏ أستاذ رئاسي للعلوم السياسية في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك؛ وزميل متميز في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية؛ وباحث بارز عالميا في جامعة كيونغ هي الكورية. تشمل كتبه الأخيرة “‏‏الأمم المتحدة الثالثة”،‏‏ مع تاتيانا كارايانيس.‏

*نشر هذا المقال تحت عنوان: UN Reform? Think ‘Alice in Wonderland’ على موقع Pass Blue

هوامش المترجم:

(1) اجتمع مندوبو خمسين دولة في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأميركية، بين 25 نيسان (أبريل) و26 حزيران (يونيو) 1945 في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالمنظمات الدولية. وبالعمل على مقترحات دمبارتون أوكس، واتفاقية يالطا، والتعديلات التي اقترحتها مختلف الحكومات، وافق المؤتمر على إقرار “ميثاق الأمم المتحدة” و”النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية” الجديدة.

(2) ‏اجتماع “‏‏صيغة آريا” The Arria formula، هو اجتماع‏‏ غير رسمي لأعضاء مجلس الأمن ‏‏التابع للأمم المتحدة‏‏. و‏على الرغم من أن صيغة آريا مستمدة من الاجتماعات الرسمية لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إلا أنها تميز نفسها عن اجتماعات مجلس الأمن النموذجية للأمم المتحدة بطبيعتها غير الرسمية، مما يسمح لاجتماعات “صيغة آريا” بعدم تحمل أي التزامات لتلبية المتطلبات الرسمية لاجتماعات مجلس ‏‏الأمن‏‏ النموذجية. وهذا يعني أنه في حين أن الاجتماعات المنتظمة لمجلس الأمن تتطلب حضور جميع أعضاء المجلس الـ15، واتباع هيكل رسمي، وعدم الاستماع إلى شهادات من غير الأعضاء أو الأفراد أو المنظمات غير الحكومية، فإن اجتماعات “صيغة آريا” تسمح للأفراد والمنظمات والجهات الفاعلة غير الحكومية والوفود العليا (من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة غير الممثلة في مجلس الأمن) بالدخول في حوار مباشر مع أعضاء مجلس الأمن في إطار شرعي وسري. ‏ويرأس اجتماعات “صيغة آريا” عضو من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يعمل كميسر للمناقشة، بدلاً من رئيس مجلس الأمن.

(3) تنص المادة 109 من ميثاق الأمم المتحدة على أنه “يجوز عقد مؤتمر عام من أعضاء الأمم المتحدة لإعادة النظر في هذا الميثاق في الزمان والمكان اللذين تحددهما الجمعية العامة بأغلبية ثلثي أعضائها وبموافقة تسعة من أعضاء مجلس الأمن، ويكون لكل عضو في الأمم المتحدة صوت واحد في المؤتمر”.

المصدر: الغد الأردنية/-(كونسورتيوم نيوز)

زر الذهاب إلى الأعلى