وللثورة أدبها الجديد وكتابها الرائعون.!  

تناولت الاسبوع الماضي مواقف المبدعين والمفكرين السوريين الذين خانوا شعبهم وقت الثورة وتخلوا عن رسالتهم الأخلاقية والفكرية بانحيازهم الجبان للسفاح في جرائمه التي فاقت كل الحدود , أو باختيارهم الصمت طريقة للتهرب من المسؤولية , والموقفان لا يختلفان من حيث النتيجة, وجها عملة واحدة , أحدهما يحمل صورة الاسد والثاني رموز النظام !. كلاهما يتذرعان بأن الأمر خلاف في وجهات نظر سياسية,ومن حق أي فرد تبنى الموقف الذي يشاء. وهذه حجة داحضة لأن ما يجري لم يعد انقساما سياسيا , بل مجزرة رهيبة , ذهب ضحيتها نصف مليون انسان , وتدميرا انتقاميا للدولة والمجتمع , واحتلالا ايرانيا عسكريا لسوريا يهدد عروبتها وهويتها .

 على أي حال ينبغي لفت الانتباه إلى أن المنافقين والخونة والجبناء هم (فئة عضوية هامشية) موجودة في كل المجتمعات. وهم في سوريا ليسوا إلا فئة من الكتاب انطفأت جذوتهم الابداعية وفقدوا ارتباطهم ببيئتهم الأصلية, وأمسوا طحالب تطفو على الماء , تدين بوجودها للسكون الآسن وللنظام الذي بادلها المصلحة, ونصبها في مواقعها الاجتماعية والسياسية والاعلامية وهي تعرف أن بقاءها مرتبط ببقائه وديمومة الأوضاع ساكنة . ولكن بمقابل هذه الفئة هناك في سوريا زخم ابداعي وانساني وجمالي أصيل بعضه عريق ومتجذر كأشجارالسنديان والزيتون وبعضه جديد يتفتح بشجاعة تحت وطأة الدبابة ويحتل مكانه بثبات وبين الاثنين تدور معركة حقيقية حاليا هي امتداد للصراع الازلي بين الاصيل والزائف , أو القديم والجديد , أو صراع الأجيال , هذه صراعات محتدمة الآن كاحتدام معارك الثوار مع شبيحة النظام , وصراع أهل البلد مع المحتلين والغزاة .

الأكاديميون والمبدعون الذين تمسكوا بالوطن وآثروا الانغراس في ترابه على الرغم من قدرتهم على الهجرة واستثمار أرصدتهم الأدبية في الخارج للفوز بحياة مريحة ونجومية اعلامية مغرية هؤلاء لا يقلون شجاعة عن ثوارالغوطة وحمص البواسل , لأنهم يقومون بوظيفة من أعظم الوظائف الثورية في الظروف التي نمر بها ,إنهم الشهود الصادقون على الجرائم اليومية, وقرون استشعار التاريخ والاقمار الاصطناعية التي تدور في مداراتها الصحيحة تلتقط كل ذبذبة وتسجلها في تقاريرذهنية فائقة الأهمية , لتعيد انتجها لاحقا في روايات وقصص وأبحاث وأشعار وأغان وألحان ولوحات قيمة ستثري حياتنا في المستقبل , وتغني حضارتنا. ولذا فهؤلاء يستحقون أعلى درجات التبجيل والاكبار.

أتابع ما يكتبه يوميا روائيون كبار من مستوى فاضل السباعي , وخالد خليفة ما زالوا في الداخل لأشعر أن نبض الحياة ودورة الدم ما يزالان سليمين في دمشق رغم أهوال المحنة , أتابع ما أصدره الروائي الشاب عبد الله مكسور لأعرف أن أدبا جديدا بدأ يشع من قلب الثورة , وأتذكر عشرات أسماء المبدعين بقوا في سوريا حتى اليوم ويواظبون على الكتابة والتأليف والنشر والرسم والعزف أمثال طيب تيزيني ويوسف عبدلكي ومنير الشعراني ونوري اسكندر وحسام الدين كردي وعبود كنجو , وأتذكر ما قدموه سابقا من مواقف نضالية لا تقل بطولة عن مواقف الاحزاب والمعارضين السياسيين في عصر الطغيان والاستبداد الشمولي لأقول إحقاقا للحق أن المبدعين السوريين أدوا دورهم في الكفاح الوطني في سبيل الحرية كبقية فئات الانتلجنسيا أو أكثر. وأذكرفي أول مؤتمر للمعارضة بعد الثورة ( مؤتمر أنطاليا) أن رموز المعارضة تباروا في المزايدات , فقال (الاخوان) إنهم أكثر من اضطهدوا في عهد الاسد , ورد الشيوعيون بأنهم أكثر من اعتقلوا وتعذبوا, وقال الكورد بل نحن أكثر من اغتصبت حقوقهم, فاستفزتني المزايدة فقلت لهم في الحقيقة إن المثقفين والمبدعين والمفكرين هم أكثر من ناصبهم الاسد العداء لأن دورهم النقدي يتعارض مع أسس نظامه وهو الكذب والغوغائية والابتذال , ولذلك سعى للتخلص منهم بتهجيرهم أو تهميشهم وقتلهم .

 أعرف شعراء اعتقلوا بجريرة قصيدة كتبوها , وأعرف كتابا اعتقلوا بسبب مقال أو قصة أو رواية . بل أعرف أشخاصا قتلوا لمجرد حيازتهم لكتب ممنوعة . أتذكر في عام 1980 حين كنت في امسية قصصية بجامعة حلب للأديب الصديق فاضل السباعي قرأ فيها قصتين وبعد خروجنا وقفنا نتكلم فجاء عسس الاستخبارات واقتادوه , وبقي قيد الاعتقال حوالي شهرين في زنزانة منفردة , وحين اطلق سراحه زرته فأخبرني إن سبب الاعتقال استشهاده في مطلع احدى القصتين بعبارة للروائي الروسي غوغول تحكي عن الرعب والخوف !!

ولكي لا ننسى زملاءنا في لبنان وهم شركاءنا في قمع الأسد , فكم صحافي قتل هناك بأيدي الاستخبارات السورية بسبب كتاباتهم ..؟ وكم من مفكر من وزن صبحي الصالح اغتيل .؟

أدب السجون سيحتل مكانا بارزا في تاريخنا الأدبي , وما تزال رواية الصديق مصطفى خليفة ( القوقعة) شهادة صارخة عن وحشية المعتقلات السورية في عصر الاسد ولم يخطىء الأب باولو دالوليو بوصفه لها في كتابه الصادر حديثا بالفرنسية ( النور والغضب) بأنها مرجع لفهم السجون السورية.

أما رواية الكاتب المبدع خالد خليفة الأخيرة (لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة) , فتمتاز بجرأة سياسية غير مسبوقة في تسمية الأشياء بأسمائها الصريحة وأدانة نظام البعث بكل مفرداته بدون أي تورية . إنها تأريخ وسيرة أدبية لحقبة البعث , أو بالأحرى تصوير شعاعي دقيق لما أحدثه الطغيان من تشوهات سرطانية عميقة في مجتمعنا . رواية آسرة لا حدث فيها بارزا ولا بطل محوريا وتكتفي برصد معاناة أكبر مدينة سورية خلال اربعين سنة من الفساد والارهاب والخوف المتفشي في الهواء الأمر الذي جعل للسوري حياتين وشخصيتين خارجية وداخلية خاصة وعامة حياة واقعية وحياة موازية , وهي حقيقة لا يدركها غير السوري الذي عاش هذه التجربة اللانسانية .

وأختم بالاشارة لرواية المبدع الشاب عبد الله مكسور الذي تعد رواياته مرايا ضوئية لتحولات الثورة , فبعد روايته الأولى ( أيام في بابا عمرو) التي رصدت الحياة في العام الاول للثورة في الحي الحمصي الشهير, صدرت مؤخرا روايته الثانية (عائد الى حلب) ليرصد سيرورة الأوضاع في شمال سوريا بعد عامين ونيف من الثورة بسلبياتها وايجابياتها , ولكنها كالأولى رواية تحمل هوية الثورة , وعلامة قطع تام مع نظام الاستبداد , مؤكدة أن أدب الثورة أخذ ينتشر ويزدهر .

*******************

هذا المقال منشور في العدد 198 من مجلة الشراع اللبنانية الصادرة في بيروت بتاريخ 29 / 11 / 2013