مقدمة
لم تكن العلاقات السورية العراقية في حالة جيدة في السنوات التي سبقت انطلاقة الثورة السورية، على الرغم من التعاظم التدريجي للنفوذ الإيراني في العراق بعد الغزو الأميركي له عام 2003، والتعاون السوري الإيراني، الذي تجسّد في دعم دخول القوى الجهادية وتسهيله، لمقاومة الوجود الأميركي وإزعاجه، نظرًا لأن النظام السوري كان يتوجّس أن تكون سورية المحطة الثالثة في حروب إدارة بوش الابن، ردًّا على أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001.
وقد وصلت الأمور عند رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى أن يتهم النظام السوري بالمسؤولية عن التفجيرات التي اجتاحت العراق عام 2009، حتى إنه طالب الأمم المتحدة بتشكيل لجنة تقصي حقائق أو تحقيق، للكشف عن المتورطين فيها ومحاسبتهم، ويقصد النظام السوري، لكن إيران برّدت الأجواء بين الطرفين.
عند انطلاقة الثورة السورية، حرص العراق على أن يأخذ موقف الحذر والترقب، حتى يتبيّن له إلى أين تسير الأمور، مكتفيًا بالدعم المادي والسياسي في أروقة الجامعة العربية، لكن هذا الموقف انقلب جذريًا بالترافق، ولو متأخرًا، مع الموقف الإيراني، بعد إعلان تشكيل المجلس الوطني السوري، في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، والتأييد والاعتراف الدولي الذي لقيه لاحقًا في مؤتمر أصدقاء سورية في تونس، بتاريخ 2 شباط/ فبراير 2012.
لعب العراق واحدًا من أكثر الأدوار سلبية في الصراع السوري، ليس بحكم الجوار الجغرافي، وقلق الحكم العراقي من تداعيات الصراع في سورية على بنيته الديموغرافية المعقدة وحسب، بل يعود ذلك في معظم دوافعه لأسباب أيديولوجية، تخصّ خيارات القيادات المتحكمة في العراق بعد عام 2003 وتحالفاتها الإقليمية التي تتحكم فيها طهران، وتتركز الآثار السلبية التي ترتبت على خيارات النظام العراقي، حيال الصراع الدائر منذ اثني عشر عامًا، بشكل أساسي، في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد.
على الصعيد السياسي، فمنذ اتفاقات “خفض التصعيد” في العام 2018، وما ترتّب على ذلك من ثبات خطوط التماس واطمئنان إيران المتوهم لانتصارها في سورية، وأنها وحليفتها روسيا استطاعتا تثبيت النظام؛ تركّز جهد إيران المحموم على تثبيت تموضعها العسكري على الأراضي السورية، عبر ميليشياتها المستجلبة من العراق وغيره، أو المحلية في الجنوب ووسط وشرق سورية، بما يضمن نجاح مشروعها في مد وتثبيت الممر الذي يربط طهران بالبحر المتوسط عبر العراق وسورية ولبنان، وراحت الحكومة العراقية، كوَكيل عن الحليف الإيراني، بخاصة في عهد الكاظمي، تحاول تهدئة التوتر بين إيران والدول العربية، وفي مقدمتها السعودية.
كان البعد الأمني هو الأكثر خطورة، فقد سخّر العراق حدوده ومطاراته وإمكاناته المالية لتسهيل تدفق الميليشيات العراقية إلى الأراضي السورية والقتال إلى جانب النظام، واستُخدمت أراضيه ممرًا لتدفق السلاح الإيراني والحرس الثوري الإيراني والميليشيات الشيعية التي تتبعه، الذين عملوا تقتيلًا بالشعب السوري، ويضاف إلى ذلك نشاط شبكات تهريب المخدرات والسلاح عبر الحدود، بما بات يهدد بخطورته أمن دول الجوار في الأردن والخليج.
ويُعدّ البعد الاقتصادي أقلّ الأبعاد تأثيرًا، حيث انخفض التبادل التجاري بين البلدين عمّا كان عليه قبل العام 2011 بشكل كبير، بحكم الصراع وتقطع الطرق وإغلاق المعابر، لكن السبب الأهمّ يكمن في التراجع الكبير في أداء الاقتصاد السوري، بفعل التدمير الذي أصاب البنية الصناعية في سورية، أو سرقة فصائل المعارضة السورية المسلّحة، والميليشيات التي تتبع إيران أو النظام، للمعامل والمستودعات الحكومية والخاصة وبيعها في دول الجوار.
لكن هزيمة (داعش)، واتفاقات خفض التصعيد، سمحا بعودة الحكومتين العراقية والسورية للسيطرة النظرية والنسبية على المعابر الحدودية بينهما، حيث باتت الحدود تشكّل ممرًا لتدفق السلع والمستلزمات التي يحتاج إليها النظام من العراق، وممرًا في الاتجاه الآخر للسلع السورية التي يحتاجها العراق في مجال المنتجات الزراعية.
تسعى هذه الورقة لتتبع وتحليل الدوافع التي حدّدت المواقف العراقية تجاه ما يجري في سورية، والآثار الكارثية التي ما تزال الميليشيات العراقية التي تتبع إيران في سورية تساهم فيها، على الأصعدة الثلاثة المذكورة.
أولًا: البعد السياسي
عشية انطلاق الثورة السورية، حاولت حكومة المالكي التي كانت تمسك بالسلطة في العراق أن تأخذ موقف الحذر والترقب، بدعوى الخشية من تداعيات الصراع في سورية على الوضع العراقي المعقد، ومن ثم التأثير في بنية النظام السياسي الذي أفرزه الغزو الأميركي للعراق عام 2003، في حال سقوط النظام السوري، لكن الأغرب في موقف المالكي خشيته من انقلاب التوازنات الإقليمية القائمة بين العرب وإيران، وأن ذلك سيصبّ تاليًا في مصلحة تركيا المنافس الإقليمي الأبرز لإيران؛ إذ صرّح في أثناء زيارته لموسكو بتاريخ 9 كانون الثاني/ يناير 2012، بأن “تركيا تتبنى سياسة وقحة”، مؤكدًا “عدم أحقية حلف الناتو في التدخل في الأزمة السورية، تحت مبرر حماية تركيا”[1]، على الرغم من أن تركيا لم تتدخل إلا بعد أربع سنوات من تاريخ تصريحه ذاك، وأن الأمين العام لحلف الناتو حينها كرر عدم نية الحلف التدخل في الصراع الناشئ في سورية، وكان أوباما قد حسم الموقف الأميركي والغربي بقراره، بأنه لا حلّ عسكريًا للصراع في سورية، فما هي دوافع المالكي آنذاك؟ صحيح أن المالكي لم يُخفِ خياراته الطائفية في تصريحاته، سواء حين كان في السلطة، أو بعد تركها بعقد من الزمن، لكن تصريحه ذاك كان يُفصح دون مواربة عن خياراته الإيرانية.
لذلك، بعد أن كان يسدي النصائح للأسد بضرورة إجراء إصلاحات سياسية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإشراك المعارضة في السلطة، والتحضير لانتخابات حقيقية، والتخلي عن حزب البعث وحكم الحزب الواحد، سمح بعد أن تشكل المجلس الوطني السوري، مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2011، بتدفق الميليشيات العراقية وعبور الميليشيات الإيرانية، للمشاركة في القتال إلى جانب النظام السوري، وتحفّظ على قرار جامعة الدول العربية، الذي علق عضوية سورية في الجامعة، بتاريخ 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، ولم يقطع علاقاته مع دمشق، ولم يلتزم بالعقوبات العربية أو الدولية التي فُرضت على النظام، على خلفية إفراطه في استخدام العنف.
بعد اكتمال تنفيذ اتفاقات خفض التصعيد عام 2018، وثبات خطوط التماس وانخفاض وتيرة العنف، تساوق العراق مع التوجهات الإيرانية في محاولة تهدئة صراعها مع الدول العربية، بغية التفرغ لتمكين بنية عسكرية مؤهلة قوامها من الميليشيات التي تتبعها، عراقية كانت أو غير عراقية أو محلية، في عدة مواقع إستراتيجية، بما يخدم مشروعها في التوسع والهيمنة، وقد استضافت بغداد في الأعوام 2020 -2022 أربع جولات تفاوض بين السعودية وإيران، واستعادت العلاقات العراقية السعودية شيئًا من التعاون السابق في مجالات عديدة، وإن كانت ما زالت محدودة وحذرة، وساهم العراق في الاندفاع التطبيعي العربي مع النظام السوري، الذي قادته السعودية والأردن، انطلاقًا من اجتماع جدّة السداسي بتاريخ 15 نيسان/ أبريل 2023، ثم اجتماع عمان الخماسي الذي تُوج بعودة النظام إلى جامعة الدول العربية وحضوره مؤتمر القمة في دورته العادية 22 في جدة، بتاريخ 19 أيار/ مايو 2023.
ثانيًا: البعد الأمني في التدخل العراقي
يُكثر المسؤولون العراقيون، أو الناطقون باسم الحكومة العراقية ووسائل إعلامها، من تكرار تأكيد أن العراق لا يتدخل في الشون الداخلية لسورية، وأنه ليس طرفًا في الصراع الدائر فيها وعليها منذ العام 2011، حتى ليُتاح لبعض أولئك المحللين جرأة القول إن العراق قد اتخذ منذ البداية موقف النأي بالنفس، على نمط النأي اللبناني بالنفس، في حين أن وقائع الصراع على الأرض تؤكد أن النظام العراقي لا يقل تدخلًا عن بقية الدول الأربعة الأخرى التي تفرض واقعًا يُخرجُ مناطق واسعة من الجغرافيا السورية عن سيطرة النظام، أو يثير كثيرًا من التساؤل حول مدى السيادة التي يستطيع ممارستها على مناطقه، بفعل النفوذ الذي بات عليه حلفاء النظام من روس وإيرانيين. ويتحدد هذا البعد الأمني بالتحديدات التالية.
1-الميليشيات العراقية
منذ مطلع العام 2012، راحت عشرات الميليشيات العراقية تتدفق عبر الحدود بين الدولتين، أو عبر المطارات، حيث سخّرت الحكومة العراقية مطاري بغداد والنجف لنقل عناصر الميليشيات إلى مطاري دمشق وبيروت، وعلى حسابها، مستخدمة طرقًا شتى للتمويه في التغطية، تحت مسميات الزيارات إلى المقامات الدينية التي يقدّسها الشيعة، كمقام السيدة زينب جنوب دمشق أو غيره، وعبر بطاقات منح دراسية في الجامعات السورية، أو عقود خبراء فنيين للعمل لدى فعاليات اقتصادية من القطاع الخاص السوري، إضافة إلى الدخول الفردي عبر الأردن.
بعد ميليشيا “حزب الله” التي أشهرت دخولها إبان (معركتي بابا عمر والقصير)، شباط/ فبراير 2012، كانت ميليشيا “أبو الفضل العباس” أكبر وأول الميليشيات العراقية التي دخلت الأراضي السورية، وقاتلت في ريف دمشق بشكل رئيسي، وفي جبهات ومناطق أخرى، وارتكبت أبشع ثلاث مجازر في مدينة النبك، حيث أبادت عائلات بكاملها.
ويضاف إلى “أبو الفضل العباس” ميليشيات رئيسية، مثل النجباء وميليشيا سيد الشهداء، وميليشيا عمار بن ياسر، وحزب الله العراقي، وغيرها عشرات الميليشيات الأقل عددًا وتابعية، وكانت كل هذه الميليشيات تقاتل وتتنقل من جبهة إلى أخرى، وفق خطة ترسمها وتوجهها غرفة عمليات مركزية، يديرها ضباط من الحرس الثوري الإيراني، ويعاونهم -بحكم الضرورة والخبرة في الجغرافيا السورية- ضباطٌ من المخابرات السورية أو من إدارة الاستطلاع التابعة للجيش السوري.
من غير المعروف بدقة عديد أفراد الميليشيات العراقية التي قاتلت في سورية، وبعضها ما زال موجودًا على الأراضي السورية، واستنادًا إلى ما صرّح به القائد العام للحرس الثوري الإيراني الجنرال محمد علي جعفري، بقوله: “إن الحرس الثوري قام بتجنيد 200 ألف عنصر في العراق وسورية، منهم مئة ألف في العراق، والعدد نفسه في سورية” مؤكدًا أن “هذا الإجراء هو من ضمن سياسات إيران في دول المنطقة”[2]، فإنه يمكن تقدير عديد عناصرها بما يزيد على 50 ألفًا، وبعد توقف المعارك، انسحبت بعض تلك الميليشيات، لكن الجزء الفاعل فيها بقي في سورية لغايةٍ تعرفها وتريدها إيران، وهي ميليشيات ساعدت في تحشيدها وتنظيمها الفاعليات العراقية المنخرطة في المشروع الإيراني، مستخدمة كل الوسائل المتاحة لديها، وهنا يحضر السؤال عن خسائر الميليشيات العراقية البشرية التي خاضت أشرس المعارك على مدى سنوات، في مواجهة فصائل المعارضة السورية المسلحة، حتى في مواجهة داعش (2014-2018) بمساعدة التحالف الدولي لمحاربة (داعش).
وفي هذا الخصوص، يصعب الحصول على أرقام دقيقة، ذلك أن الميليشيات لا تنشر خسائرها، غير أنّ مصادر تابعة لحركة (مجاهدي خلق) الإيرانية المعارضة “ادعت أنها حصلت على معلومات، من داخل الحرس الثوري الإيراني، أفادت بأن خسائر الميليشيات، التي تتبعه، ومنها العراقية، قد تجاوزت 10000 قتيل”[3]، وعلى القياس أعلاه، فإن حصة الميليشيات العراقية منه تتجاوز نصف هذا العدد.
2- مصادر تمويل الميليشيات العراقية
لا شك في أن تكاليف الميليشيات العراقية التي دخلت سورية كبيرةٌ، ومن غير الممكن أن تتحملها ميليشيا بذاتها أو أشخاص، أو تبرعات أو غيرها. وإذا أمكن التخمين أن تقديمات السلطة السورية لعناصر هذه الميليشيات اقتصرت على توفير المستلزمات اليومية، فإن المؤشر يذهب إلى أن الحكومة العراقية تحمّلت دفع رواتب عناصر الميليشيات العراقية المنضوية في “الحشد الشعبي” بشقّيه: الولائي أي الذي يتبع إيران، والكفائي الذي انتظم في ميليشيات استجابة لفتوى المرجع الشيعي العراقي علي السيستاني لمحاربة (داعش) التي احتلت ثلث مساحة العراق بتاريخ 10حزيران/ يونيو 2014.
وللتغطية على عملية التمويل التي تقدّمها الحكومة العراقية لأغلب الميليشيات العراقية التي دخلت سورية، فقد سوغت اعتمادًا بأن الميليشيات العراقية هي جزء من ميليشيات أمّ منتظمة ضمن “الحشد الشعبي”، الذي بات يتبع قانونيًا لرئاسة الوزراء، ويُفرد له بندٌ في الميزانية العامة.
وعليه، فالميليشيا الأم تتكفل برواتب عناصرها في سورية، “أغلب الفصائل الموجودة في سورية هي بالأساس عبارة عن أجنحة لفصائل في الحشد الشعبي، وتتلقى مرتباتها من الدولة العراقية، مثل (كتائب حزب الله العراقي، عصائب أهل الحق، جند الإمام علي، منظمة بدر، سرايا الجهاد)”[4].
من جانب آخر، افتتحت بعض الفصائل التي تتبع إيران مكاتب تمثيل في دمشق، بدعوى الإرشاد الديني والدعوي وتنظيم الزيارات الدينية. لكنها، إضافة إلى ذلك، كانت تمارس نشاطات تسهم في التمويل في مجالات التجارة والاقتصاد والسياحة الدينية.
ويُضاف إلى التمويل الذي تقدّمه الحكومة العراقية، وفقًا لما ذُكر أعلاه، أن الميليشيات وجهت عناصرها لتوفير موارد إضافية لهم، “تفوق مخصصاتهم الشهرية، عبر عمليات السلب بالعنف والسطو المسلّح والسلب العلني، في أثناء المداهمات لبيوت المواطنين أو إيقافهم على الحواجز، وابتزازهم بتهمة التعامل مع الإرهابيين، ومقايضة المعتقلين لديهم، بالأموال أو المصوغات الذهبية، فضلًا عن سرقة وتعفيش أثاث المنازل في مناطق الاقتحامات وبيعه”[5].
تشكل عمليات التهريب عبر الحدود واحدًا من أهم موارد الميليشيات العراقية، ومنها تلك التي تتبع الحرس الثوري الإيراني، وتسيطر على مسافة طويلة من الحدود السورية العراقية، ما بين البوكمال وقاعدة التنف على مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية، ويأتي في مقدّمة السلع والمواد المهربة المخدرات وأغنام العواس (المرغوبة في دول الخليج)، والدخان والمعدات المسروقة والأشخاص.
ولعمليات التهريب خطوط معروفة، بحيث يتم التهريب من مناطق (قسد)، باتجاه مناطق سيطرة النظام، عبر الشريط النهري. وبعدها، يتم تهريبها من البوكمال من قرية الهري تحديدًا من المعبر الإيراني (مخصص لإيران) وبالعكس”، كما تشكل المعابر غير الرسمية العديدة طرقًا أخرى لتهريب السلع الزراعية باتجاه العراق، والمحروقات والأسلحة باتجاه سورية، وتسيطر ميليشيا “حزب الله العراقي” بشكل رئيسي على معبر البوكمال من جانبي الحدود، ربما لأن لها دورًا يهمّ إيران أبعد من التهريب.
ويتعاون في عمليات التهريب مع الميليشيات أبناءُ المنطقة، ممن يتعاونون مع الحرس الثوري، وممن تطوع بعض أبنائهم لديه، كما يتعاونون مع الفرقة الرابعة الموجودة في المنطقة.
إن وجود الميليشيات العراقية، بهذه الكثافة والفاعلية، يطرح على السوريين السؤال حول دوافع النظام العراقي للانخراط عسكريًا في قتل وتهجير السوريين، والإصرار على وأد الثورة السورية ومن قام بها، بغية الحفاظ على نظامٍ قام عليه شعبه مطالبًا بالحرية والكرامة، وما دواعي التكفل المادي الهائل في الإنفاق على هذه الفصائل، على حساب الشعب العراقي ومتطلباته الحياتية؟ هل هي بدافع الانحياز الأيديولوجي والطائفي لصاحب القرار في النظام العراقي؟ هذا يفسر جزءًا من الحالة، أم هي ما كان يدعيه المالكي من أن انهيار النظام بدمشق ستكون له تداعيات خطيرة على العراق، بحكم تركيبته الديموغرافية المعقدة؟ وهذا أيضًا قد يصيب شيئًا من حقيقة الموقف العراقي، أما أن يكون قلق المالكي وأركانه من أن سقوط نظام الأسد سيقلب التوازنات الإقليمية في المنطقة لغير صالح إيران، وهنا يكمن الجزء الأهم في تفسير الموقف في انسياق النخبة الحاكمة، وعلى رأسها نوري المالكي (2006-2014) في مشروع الهيمنة الإيرانية، وأن العراق بات جزءًا من المشروع التوسعي في المنطقة، وجزءًا من حروب الوكالات التي تخوضها إيران في منطقة شرق المتوسط. والسؤال الذي يتبع: كيف لدولةٍ تدعي عدم تدخلها في الشأن السوري، أن تكون عاجزة بذات الوقت عن منع ميليشياتها من عبور الحدود والقتال في أراضي الآخرين وخدمة لأجندات غير عراقية؟ مع التنبيه على أن دخول الميليشيات العراقية كان سبق ظهور (داعش) بنحو سنتين.
وفي هذا الصدد، يقول عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي مهدي تقي مبررًا: “قانون الحشد الشعبي يمنع أن تقاتل قواته خارج حدود العراق، لكن الفصائل المسلحة تمثل رأيًا دينيًا وشعبيًا، وهذا ما يدفعها للدفاع عن المقدسات خارج العراق”[6]، لكن التكذيب الأوضح حول ادعاءات الحياد العراقي قدّمه الرئيس السوري، في مؤتمره الصحفي مع رئيس الوزراء العراقي الذي زار دمشق بتاريخ 15يوليو/ تموز 2023 ، عندما “وجّه التحية إلى الجيش العراقي والحشد الشعبي، الذين سطّروا أروع الانتصارات إلى جانب القوات السورية والقوات السورية الرديفة”[7]، فقد كشف اللثام عن مشاركة الجيش العراقي، بطريقة ما، في الصراع الدائر في سورية، وليس فقط ميليشيات الحشد الشعبي.
3-التعاون الأمني بين البلدين
على هذا الصعيد، تتداخل أكثر من قضية بين الدولتين، وتتعلق أولاها بالتنسيق الأمني وتبادل المعلومات بخاصة لجهة المنظمات التي يتفق الطرفان على تصنيفها بالإرهابية، وملاحقتها والحدّ من حركتها عبر الحدود، ويأتي في مقدمتها التنظيمات الجهادية العابرة للحدود كداعش وأخواتها.
وفي هذا الصدد، يقول المحلل السياسي إياد العناز: “على الصعيد الأمني والعسكري، توجد العديد من الاتفاقات وتبادل المعلومات الاستخبارية، حول الفعاليات التي تقوم بها الفصائل المسلحة ومقاتلو داعش، وتعزيز الإجراءات وبناء السواتر وتحليق الطيران المقاتل، لرصد أي تحركات تهم الأمن القومي للبلدين”[8].
4 -قضية اللاجئين والمخيمات
هناك أيضًا قضية مخيمات النازحين الموجودين في مخيمات عراقية (لاجئين)، أو مخيمات سوريّة قريبة من الحدود (نازحين)، حيث تشكل شاغلًا أمنيًا للعراق. وتقدّر الأمم المتحدة عدد اللاجئين السوريين في العراق بـ 260 ألف لاجئ، أغلبهم في إقليم كردستان العراق، لكن أكثر ما يشغل الأمن العراقي هو العوائل العراقية الموجودة والمحتجزة في مخيم الهول، وتقدّر أعدادها بالآلاف، من أصل 57 ألف شخص محتجزين فيه، وما زالت الحكومة العراقية تتهرب من موضوع استرداد العراقيين الموجودين في المخيم، بدعوى أن القانون العراقي لا يحتوي المواد القانونية التي تسمح بمحاكمة عناصر (داعش) المعتقلين في الهول. أما واقعيًا، فهي لا تريدهم، لسببين: الأول “أن معظم المعتقلين العراقيين هم مرتبطون بداعش”، والثاني “أن النظام العراقي يَعتبر الأطفال الذين تقارب أعمارهم 15 عامًا خطرين، كونهم تشربوا بالأفكار الإرهابية”[9].
5-المعابر بين الدولتين
عشية انطلاق الثورة السورية، كان هناك أربعة معابر رئيسية بين الدولتين السورية والعراقية (معبر الوليد في منطقة التنف، ويدعى الطريق السريع الذي يربط بغداد بدمشق، ومعبر البوكمال في محافظة دير الزور، ومعبري اليعربية وسيملكا في منطقة القامشلي)، وعشرات المعابر غير الرسمية، وقد أغلقت هذه المعابر بعد سيطرة قوات المعارضة السورية على تلك المعابر (2012- 2014)، ثم سيطرت عليها داعش حتى هزيمتها عام (2014- 2018).
وبعد أن هدأت الجبهات، آلت حال المعابر للخضوع إلى سيطرة قوى وأطراف مختلفة ومتنازعة، حيث تسيطر القوات الأميركية الموجودة في قاعدة التنف على معبر الوليد، وقد أغلقته كونه يقع في دائرة الـ 55 كم، التي حرّمت فيها القوات الأميركية الحركة، برًا وجوًا، وهناك معبرا اليعربية البري وسيملكا النهري، اللذان تسيطر عليهما قوات (قسد) من الجانب السوري، وسلطات إقليم كردستان العراق من الجانب العراقي، ومعبر الباغوز غير الشرعي شرق الفرات. وبات لمدينة البوكمال ومعبرها، ويقابلها من الجانب العراقي مدينة القائم، بعدٌ استراتيجي مهم، فعلى الرغم من عودة السلطة السورية لإدارة المعبر، فإنها في الحقيقة لا تستطيع ممارسة سلطتها على المعبر كما ينبغي، بخاصة في الجانب الاقتصادي من واجباتها، لجهة المنع أو السماح أو التفتيش أو تحصيل الرسوم والضرائب الجمركية، ذلك أن السيطرة الفعلية على جانبي الحدود هي للميليشيات الإيرانية وتابعها من الميليشيات العراقية التي تتموضع في منطقة البوكمال، ويقابلها على الجانب العراقي ميليشيا “الحشد الشعبي”، التي شاركت التحالف الدولي والجيش العراقي في محاربة (داعش) وهزيمته، لكنها لم تعد إلى قواعدها داخل العراق، بل بقيت في منطقة الأنبار السنية.
وهناك تصريح لعضوٍ في حزب الله العراقي لصحيفة (العربي الجديد)، يقول فيه: “إن الشريط الحدودي العراقي السوري، بالمجمل، فيه تمثيل للفصائل العراقية من الجانبين السوري والعراقي، باستثناء مناطق (قسد)”، ويضيف: “تنتشر مراكز تواجدنا في التنف والبوكمال ودير الزور، وتمسك خطوط التماس مع (قسد) في منطقة الباغوز”[10].
وبهذا المعنى، فإن المعبر وكلا المدينتين، البوكمال السورية والقائم العراقية، يوفران بنية لوجستية كاملة، تغطي عمليات التهريب على تنوعها، وبالأخص المخدرات والسلاح، موضوع اهتمام التموضع الإيراني وحراسة الطريق البري الذي تحلم به طهران بأن يربطها بالبحر الأبيض المتوسط عبر العراق وسورية.
ويُلاحظ في السنوات الأخيرة أن الحدود السورية العراقية، بحكم تموضع الميليشيات الإيرانية فيها، باتت مسرحًا لضربات الطيران الإسرائيلي وطيران التحالف من ضمن الجهد الإسرائيلي، لمنع إيران من تثبيت تموضعها العسكري في الأراضي السورية ، ما يضيف للحالة الأمنية غير المستقرة أعباءً جديدة، لا يمكن التكهن بالفترة الزمنية التي يُرجح فيها أن تتحول هذه المنطقة إلى ساحة مواجهة ساخنة، وربما حاسمة، لجهة مستقبل الوجود الإيراني في سورية، بين القوات الأميركية وحلفائها في المنطقة من جهة، والميليشيات الإيرانية وحلفائها من جهة أخرى، حيث لا يبدو أن من مصلحة إسرائيل ، وضامنة أمنها الولايات المتحدة الأميركية، أن تجاور إيران إسرائيل من شمالها الشرقي، كما تجاورها بوكالة حزب الله اللبناني في شمالها.
ولعل الحديث عن الحدود يستدعي بالضرورة الحديث عن المناطق الحدودية، وهي الأراضي القريبة من الحدود، فهذه المناطق تصبح مناطق رخوة أمنيًا في أوقات النزاعات والحروب، نظرًا لضعف سيطرة الدولة، وإيلائها الأهمية لضبط المناطق الساخنة في الداخل، وضمان حماية واشتغال خطوط الإمداد العسكرية، وهذا ما كانت عليه الحال من الجانبين السوري والعراقي، في الفترة (2011-2018).
وأشارت دراسة لمركز كارنيغي كير- الشرق الأوسط إلى أنه “بحكم أحداث 2011 في سورية، ظهر أفرقاء أساسيون في الأراضي الحدودية، مما أفضى إلى تحوّل في علاقات القوة، حيث برز نوع من الاستقلالية الذاتية، على وجه الخصوص في الأراضي الحدودية والتبادلات عبر الحدود، وتمكنت الشبكات والروابط العابرة للحدود من إعادة تصور المنظومة الناظمة للحدود، وإعادة توجيه الغايات المتوخاة منها تحقيقًا لمآربها”[11].
إن الحديث عن الأقلمة والسيادة للدولة، في واقعها المادي وتحديدها القانوني في المناطق الحدودية -وهما أمران تفقدهما الدولة، كليًا أو جزئيًا، في زمن الحروب بحسب درجة ضعفها- يضطرها إلى الدخول في مساومات مع قوى الأمر الواقع التي تنشأ في الأراضي الحدودية، حيث تضطر الدولة إلى تجاهل كثير من الممارسات على حساب سيادتها المفترضة، لأن ما يهمها، في هذه الحال، هو الحفاظ على الشكل القانوني لسيادتها؛ ذلك أن المناطق الحدودية -بحكم الضرورة ومعطيات الواقع- تصبح في أوقات الحروب مراكز نزوح أو لجوء سكاني طلبًا للأمان، حيث تنشأ مصالح واستثمارات متنوعة تندرج في فعاليات اقتصاد الحرب، ومقارّ لمنظمات إنسانية وإغاثية، ومراكز استخبارات دولية مهتمة، وشبكات تهريب مختلفة، وغير ذلك.
الأهداف الإيرانية البعيدة من إبقاء الميليشيات العراقية في سورية
منطقيًا، ينتج عن ادعاءات النظام السوري، بأنه انتصر على المؤامرة الكونية وعلى “مجاميع الإرهاب”، سؤالٌ حول الهدف من بقاء الميليشيات التي استجلبتها إيران لمساعدته في سورية؟ ولعلّ التحية التي وجهها الأسد إلى الجيش العراقي وميليشيا الحشد الشعبي، في مؤتمره الصحفي مع ضيفه محمد شياع السوداني أخيرًا، كانت تدلل على أنه يرحب ببقاء هذه الميليشيات، ومنها خمس ميليشيات عراقية قرارها إيراني بحت، وهذا يعني أن لإيران أهدافًا مستقبلية في سورية، تندرج في الجزء الأكبر منها في مشروعها التوسعي في المنطقة، ومنه تثبيت وحماية الممر البري طهران – البحر المتوسط، وحماية نفوذها الذي تحصلت عليه في سورية، وهو ليس بالقليل، بعد كل ما قدمت في سبيل هذا الهدف، لكن واقع الحال يذهب إلى أبعد من ذلك في أكثر من منحى.
عندما ينفي مسؤولٌ في ميليشيا (النجباء) أن يكون وجود الفصائل العراقية محصورًا في مناطق الحدود، ويقصد الحدود العراقية السورية، ويؤكد “أن هناك تمثيلًا عراقيًا مقاومًا، في مناطق من الجولان وحمص وريف دمشق”[12]، وقد أعلنت ميليشيا (النجباء) “تشكيل ميليشيا تابعًة لها، باسم فيلق تحرير الجولان، بتاريخ 8 آذار/ مارس2017، وتدريبها وتسليحها بأسلحة نوعية”[13]، فإن هذا يعني أن هذا الوجود يُستخدم كورقة ضغط وابتزاز للغرب، كي تدفعه إلى تقديم تنازلات في مفاوضات الملف النووي، أو الاعتراف لها بالدور والنفوذ الذي تحقق من مشروعها التوسعي، عبر التلويح بتهديد مستقبلي لإسرائيل من جانب، وهو يخدم من جانب آخر معزوفة إيران عن مقاومة المشروع الصهيوني الأميركي في المنطقة، التي تروج لبضاعة إيرانية بائرة عند العرب، في ظلّ إدراكهم أهداف إيران وخطرها في المنطقة.
المنحى الآخر، وهو الأخطر، أن هذه الميليشيات سوف تُستخدم كأداةٍ في حروب الوكالات التي تجيدها إيران في تهديد أمن واستقرار الأردن، كخطوة على طريق هدف أبعد، ألا وهو استكمال الطوق حول السعودية منافسها الأبرز، وربما تاليًا في مواجهة تركيا، إذا ما سارت الأمور في المستقبل البعيد في اتجاه تصادم المصالح والنفوذ بينها وبين تركيا في سورية. فهل سيمضي المشروع الإيراني بالسلاسة النسبية التي سار عليها في العقدين الماضيين؟ الترجيح يشير إلى أن الجواب هو لا، فكثيرة هي المؤشرات التي تدلل على أن المشروع الإيراني بلغ نهايته، ودخل مرحلة التراجع والانكسار، وإن كان التراجع بطيئًا، بحكم الأعباء الثقيلة التي حَمّلها للدولة الإيرانية اقتصاديًا وسياسيًا، وقد تَنبّه أبناء المنطقة، ومنهم القاعدة الشيعية العربية التي راهنت عليها إيران بحمل مشروعها، لمخاطر وتداعيات هذا المشروع، والأهم من هذا وذاك يكمن في أن الاستراتيجيات الدولية الحاكمة التي ترسم حدود وتوازع النفوذ الإقليمي في هذه المنطقة الإستراتيجية، ليست في وارد إعطاء إيران حصصًا زائدة عن بقية الأطراف الإقليمية الفاعلة (إسرائيل، تركيا، العرب). ويضاف إلى ذلك أن محاولات الحليف الروسي، بالمزاحمة على الهيمنة والنفوذ في المنطقة، باتت تحت السؤال والشك.
ثالثًا: البعد الاقتصادي
كان الاقتصاد أضعف العلاقات التي ربطت بين سورية والعراق البلدين الجارين اللذين ربطت بينهما على الدوام الجغرافيا والتاريخ والتداخل الاجتماعي، حيث ترك هذا التداخل تأثيره على البلدين تجاه بعضهما، فسورية ممرّ حيوي يصل العراق في البحر المتوسط، بحكم ضيق شواطئه على الخليج، وهي ممرّ لنفطه منذ ظهوره، ما خلا عقود الخلاف بين شقّي البعث اللذين حكما الدولتين، وبالمقابل شكل العراق عمقًا إستراتيجيًا لسورية.
بتاريخ 15تموز/ يوليو 2023، قام محمد شياع السوداني (رئيس الوزراء العراقي) بزيارة إلى دمشق، وهي الزيارة الأولى لرئيس وزراء منذ العام 2011، وعلى الرغم من أن الزيارة لم تستغرق سوى ساعتين ومؤتمر صحفي، كان جوهر الزيارة اقتصاديًا بالدرجة الأولى، إذ يوضح القيادي في تحالف الفتح علي الفتلاوي أن السوداني شدد في زيارته على خمسة محاور مهمة “يتعلق أولها بإعادة إحياء وتشغيل خط طرطوس النفطي، وملف المياه الذي يمثل أولوية للبلدين، إضافة إلى ملفات حساسة لا تقف عند الطاقة والاقتصاد والأمن وتهريب الكبتاغون، بل يركز على طبيعة التحديات في المنطقة ككل”[14].
يطمح العراق بحكم أزماته إلى زيادة إنتاجه النفطي ليصل إلى 6 مليون برميل يوميًا، ولذلك يسعى إلى إعادة تشغيل خط APC الذي يعبر الأراضي السورية، وإذا افترضنا توفر الإمكانات الفنية لإعادة تشغيله حاليًا، وتوفرت الاستثمارات اللازمة لتطوير صناعة النفط العراقية المتعثرة؛ فهل تسمح الحالة الأمنية القائمة في البادية السورية، حيث تنتشر خلايا (داعش) والميليشيات الإيرانية، بضمان تدفق النفط عبر الخط؟ وإذا كان من البداهة توقّع أفعال تخريب من قبل (داعش)، فهل لإيران مصلحة في فتح مسارب تصدير إضافية أمام الفائض النفطي العراقي؟
تشكّل المياه التي يحملها نهرا الفرات ودجلة إلى سورية والعراق مطلبًا حيويًا وحياتيًا لكلا البلدين، وتعاني الدولتان ضعف الإمدادات والحصص المائية التي تحددها القوانين الدولية، لكل من دولة المنبع ودول العبور، حيث تستعمل تركيا إمدادات المياه أداة ضغط سياسي واقتصادي على كلتا الدولتين، يضاف إلى ذلك أن سورية تتجاوز على حصة العراق التي يفترض بها تمريرها إليه، وما دامت قضية المياه ذات حساسية، واتخذت بعدًا سياسيًا، فيُرجح في ظل ضعف التنسيق السوري العراقي في مواجهة السياسة المائية التركية أن تبقى المشكلة قائمة، على الرغم من عديد اللجان المشتركة التي شُكلت لهذه الغاية، من دون أن تحقق نتائج تذكر حتى الآن.
يصعب الرهان على إمكانية استعادة التدفقات التجارية بين سورية والعراق إلى ما كانت عليه قبل العام 2011، لأسباب موضوعية وتحديات أمنية قائمة بفعل الصراع وتداعياته، وبفعل خيارات سياسية لدى الطرفين تتحكم فيها إيران. أما موضوعيًا، فقد تدمرت البنية الصناعية السورية الأساسية في حلب الشرقية وريف دمشق، وضعفت معظم المنتجات الصناعية الحكومية، والوضع ذاته ينسحب على المنتجات الزراعية.
تناول البعد الاقتصادي في العلاقة السورية العراقية يستدعي بالضرورة التطرق إلى التبادلات التجارية الشرعية منها وغير الشرعية، ما بين منطقة (قسد) الخارجة عن سيطرة النظام، وبين إقليم كردستان العراق، وهذه المبادلات تتم عبر أربعة معابر، هي معبرا اليعربية وسيملكا الشرعيان، ومعابر السويدية والوليد والمحمودي غير الشرعية.
ولعله من المهم التنبيه إلى أن حرية الحركة على المعابر الرسمية، وجزئيًا غير الرسمية، تخضع لتقلبات العلاقة الموسومة غالبًا بالتوتر، ما بين الإدارة الذاتية التي تدير شمال شرق سورية، وبين حكومة الإقليم التي تتهم الإدارة الذاتية بالاستئثار بمصير المنطقة والتضييق على باقي مكونات المجتمع الكردي السياسية القريبة من حكومة الإقليم، وأبرزها المجلس الوطني الكردي. وهذا الإغلاق المتكرر، جزئيًا أو كليًا، والذي يدوم فترات ليست بالطويلة، يؤثر في حركة الأفراد والبضائع، ويرفع من أسعار السلع والمستلزمات في مناطق الإدارة.
يتحمل معبر سيملكا الجزء الأكبر من الحركة بالاتجاهين، فهو ممرّ حركة الأفراد النظامية، وينفرد بأنه الممر الوحيد للأشخاص الذين يدخلون الإقليم بطريقة غير شرعية[15]، وكذلك يشهد نشاطًا جزئيًا للمنظمات الإنسانية والإغاثية، بعد أن أُغلق معبر اليعربية أمامها بسبب الفيتو الروسي الصيني المزدوج، الذي منع تمديد آلية إدخال المساعدات الأممية، منذ كانون الأول/ ديسمبر 2020، كذلك تعبره شحنات القمح القاسي باتجاه الإقليم عبر شاحنات تشحنه من الدرباسية وبقية مناطق الحسكة، ذلك أن سلطة (قسد) تستحوذ على موسم القمح، وتحظر بيعه لغير مؤسساتها”[16].
كما تدخل وتخرج عبره البضائع والمواد الغذائية، وينقل النفط الخام والبنزين الحر الداخل إلى مناطق (قسد)، ما يؤدي إلى ارتفاع سعره كلما أُغلق المعبر. أما الشاحنات التي تحمل الحديد والإسمنت، فهي تعبر معبر السويدية بشكل أساسي، في حين أن معبر المحمودي مخصص لتهريب النفط، ومعبر الوليد لتهريب البضائع. ويصعب تقدير حجم التبادلات التجارية بين (قسد) وإقليم كردستان، لعدم توفر معلومات، فـ (قسد) سلطة أمر واقع ولا تنشر بيانات، لكن السبب الأهم هو اختلاط عمليات التهريب بالعمليات النظامية في حركة التجارة هناك.
استنتاجات
– بغضّ النظر عن التصريحات والمواقف التي يطلقها الممسكون بالسلطة الفعلية في العراق، وتُراعى فيها اللغة الدبلوماسية، فإن النظام العراقي لن يحيد عن دعمه بقاء نظام الأسد، والدفاع عنه بكل الوسائل، وتشير المعطيات إلى أن العلاقات السياسية بين البلدين ستبقى محكومة بسقفها الأمني، وبطبيعة التحالفات والاستقطابات التي يشهدها الإقليم. ومن هذا المنظور، فإن الدولتين محكومتان بما يقرره الحليف الإيراني المتحكم واقعيًا في قرارهما السيادي.
– ستبقى الأبعاد الأمنية التي تشغل الطرفين تحظى بالاهتمام الأول، وفي مقدمتها مواجهة التنظيمات التي يصنفانها إرهابية، وهي لا تقتصر على (داعش) و(النصرة)، بل تمتد لتشمل كل من واجه نظام الأسد. كذلك سيستمر التنسيق الأمني وتبادل المعلومات ومحاولات ضبط حركة التهريب عبر الحدود، ولا سيما مادة الكبتاغون، بغية التخفيف من هواجس الدول العربية، مقصد عمليات تهريب المخدرات.
– على الصعيد الاقتصادي، نجد أن الحقائق الموضوعية لا توحي بإمكانية أن تعود التبادلات التجارية إلى سابق عهدها، على الرغم من زيارة السوداني لدمشق، ومحاولته تنشيط الأبعاد الاقتصادية بين البلدين؛ فالعراق غارق بأزماته على كل الصعد، والفساد قد أنهكه، وكذلك سورية على حافة الانهيار الاقتصادي، ويضاف إلى ذلك فشل المبادرة العربية التي حاولت مدّ طوق نجاةٍ للنظام، في اجتماع عمان الخماسي الذي عقد بتاريخ 1 أيار/ مايو 2023، وحالت دونها عدم رغبة النظام وعجزه أمام القرار الإيراني عن التجاوب مع أي من الشروط والاستحقاقات، التي طلبها العرب، ووافق عليها في اجتماع عمان الخماسي.
– في ما يخص التوتر الناشئ في شمال شرق سورية، واحتمال تطور الأوضاع إلى حرب وكالات بين الولايات المتحدة وإيران، وما يروج عن سيناريو أميركي عن وصل منطقة التنف بالبوكمال، بغية قطع الطريق في وجه الميليشيات الإيرانية، اعتمادًا على قوات (قسد) وقوات مغاوير الثورة وبعض العشائر التي تؤطرها الولايات المتحدة على نمط الصحوات العراقية، لطرد الميليشيات الإيرانية من المنطقة؛ فهذا التوتر حقيقي، ويدلل عليه التعزيزات التسليحية الضخمة التي تجلبها القوات الأميركية من قاعدة عين الأسد العراقية، باتجاه مناطق (قسد)، وكذلك الإرباك الروسي، بمحاولاته التحرش بطيران الاستطلاع الأميركي فوق البادية السورية، ولجوء الميليشيات الإيرانية إلى إعادة تموضع داخل قطعات الجيش السوري في المنطقة، ونزوح سكاني باتجاه دمشق، غير أن المرجح ألا يحدث هذا السيناريو في الأمد القريب، على الرغم من زيادة الحشود البحرية الأميركية في البحرين المتوسط والأحمر والخليج العربي، وزيادة عديد قواتها وقدراتها الجوية، كمًا ونوعًا، لكن يُرجح أن تكون غاية التحركات الأميركية ردعية، تستهدف إثبات الحضور الأميركي في المنطقة التي تشهد اضطرابات خطيرة.
[1] محمد عباس ناجي، العراق وتحديات الأزمة السورية، موقع الجزيرة، 16 نشرين الثاني/ نوفمبر 2012، الرابط: https://2u.pw/LF2rs
[2] حاتم الفلاحي، الميليشيات العراقية في سورية- الدور والمستقبل، مركز الجزيرة للدراسات، 1 نيسان/ أبريل 2019، الرابط: https://2u.pw/hnI3o69
[3] المصدر السابق
[4] زيد سالم-عادل النواب، لا نية للميليشيات العراقية الانسحاب من سورية، العربي الجديد،12 حزيران/ يونيو 2023، الرابط: https://www.alaraby.co.uk/politics4
[5] الميليشيات الشيعية في سوريا.. القصة بالدماء والأرقام، العربية، 15 أيلول/ سبتمبر 2023، الرابط: https://www.alarabiya.net
[6] زيد سالم-عادل النواب، لا نية للميليشيات العراقية الانسحاب من سورية، العربي الجديد،12 حزيران/ يونيو 2023، الرابط: https://www.alaraby.co.uk/politics4
[7] العربي الجديد، السوداني يشدد في مؤتمر صحافي مع الأسد على قضيتي المخدرات والمياه، 16 تموز/ يوليو 2023، الرابط: https://www.alaraby.co.uk/politics
[8] ما أهمية التعاون والتقارب بين العراق وسوريا على المستويات كافة في هذه المرحلة؟ سبوتنيك عربي، 4 تموز/ يوليو 2023: https://sputnikarabic.ae/20230704
[9] مصطفى السراي، تقلبات العلاقة واستحقاقات الاستقرار، موقع مركز البيان للدراسات والتخطيط، 17 نيسان/ أبريل 2023، الرابط: https://www.bayancenter.org/2023/04/9629/
[10] زيد سالم-عادل النواب، لا نية للميليشيات العراقية الانسحاب من سورية، العربي الجديد،12 حزيران/ يونيو 2023، الرابط: https://www.alaraby.co.uk/politics4
[11] هاروت أكديديان, حارث حسن. ضمور الدولة وإعادة تصوّر الأراضي الحدودية في سورية والعراق: ديناميكيات ما بعد 2011، مركز مالكوم كير-كارنيغي، 11 حزيران/ يونيو 2020، الرابط: https://carnegie-mec.org/2020/06/11/ar-pub-82022
[12] زيد سالم-عادل النواب، لا نية للميليشيات العراقية الانسحاب من سورية، العربي الجديد،12 حزيران/ يونيو 2023، الرابط: https://www.alaraby.co.uk/politics4
[13] حاتم الفلاحي، الميليشيات العراقية في سورية- الدور والمستقبل، مركز الجزيرة للدراسات، 1 نيسان/ أبريل 2019، الرابط: https://2u.pw/hnI3o69
[14] صورة أوضح عن زيارة السوداني إلى سوريا.. 5 محاور “مهمة”.. ماذا عن خط طرطوس النفطي؟، بغداد اليوم، 17 تموز/ يوليو 2023
[15] خارطة التهريب عند الحدود السورية العراقية-بوابة مفتوحة للفساد، العربي الجديد، 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، الرابط: https://www.alaraby.co.uk/economy
[16] قسد تهرب القمح السوري إلى كردستان العراق، قناة تلفزيون سوريا، الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=9oybap8gQWc
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة