العهد الفيصلي – مشروع دولة لم يكتمل

معقل زهور عدي

غبت عن الفيسبوك بسبب عملي المتواصل عدة أشهر في هذا الكتاب الذي أرفق مقدمته وغلافه بهذا المنشور , والكتاب هو تتمة للبحث الذي نشرته سابقا حول ” ثورة الشريف حسين والحركات القومية في بلاد الشام ” حيث تناولت فيه العهد الفيصلي بين 1918 – 1920 من عدة محاور . وفي المقدمة فكرة عن موضوع البحث ومحاوره وهدفه .

العهد الفصلي – مشروع دولة لم يكتمل

الديمقراطية والحداثة في العهد الفيصلي

دراسة في الديمقراطية والحداثة في العهد الفيصلي – جدل السياسة الدولية والأوضاع الداخلية – المآلات

العهد الفيصلي – مشروع دولة لم يكتمل

مقدمة :

تأتي هذه الدراسة كتتمة لكتابي ” ثورة الشريف حسين والحركات القومية في بلاد الشام ” وبالرغم من تناول موضوع العهد الفيصلي في الكثير من الدراسات المعاصرة فمازالت الأهمية قائمة لإلقاء الضوء على ذلك العهد الذي يعتبر بحق مهد أول مشروع دولة عربية في العصر الحديث , مايتميز به هذا الكتاب هو وضع محاور محددة للبحث , فهو ليس تناولا عاما للعهد الفيصلي , لكنه سعى أيضا للتعرض للجوانب الأخرى خارج تلك المحاور كي لاتكون الصورة مبتسرة خاصة للجوانب المرتبطة بطريقة أو أخرى بالمحاور الرئيسية .

وقد حددت للبحث ثلاثة محاور رئيسية :

المحور الأول : المراحل السياسية للعهد الفيصلي .

المحور الثاني : الديمقراطية والحداثة في العهد الفيصلي.

المحور الثالث : السياسة الدولية والعهد الفيصلي – جدل الداخل والخارج .

وفي الحقيقة فإن اختيار تلك المحاور يرتبط بمحاولة إلقاء الضوء على الجوانب الأكثر أهمية لذلك العهد في استخلاص الدروس والعبرالتي يمكن أن تساهم في حل المشكلات التي يطرحها الواقع الراهن أمامنا. وبصورة خاصة موضوع الديمقراطية والحداثة والعلاقة بين الوطنية السورية والقومية العربية وكذلك العلاقة بين التيارات الإسلامية الليبرالية والعلمانية .

في معظم الكتب والأبحاث التي تناولت العهد الفيصلي كان هناك ميل لتجنب تقييم تلك المرحلة بما في ذلك أداء الشخصيات والتيارات السياسية والفكرية , وذلك مفهوم من وجهة نظر البحث التاريخي الموضوعي , لكن ذلك لم يكن يعني بالنسبة لي على الأقل الإبتعاد عن استخلاص النتائج ومحاولة معرفة الأخطاء , والذي قد يصل لتقييم أداء الأفراد والمجموعات مما يخرج عن نطاق مجرد البحث التاريخي لكنه يدخل في نطاق نقاش مسؤولية المثقف الوطنية والقومية في كشف الصورة الحقيقية وتحديد المسؤوليات ضمن تلك المرحلة التي مازلنا نعاني من تبعاتها حتى اليوم .

يعتقد البعض أن تقييم أي مرحلة تاريخية بمختلف جوانبها الإيجابية والسلبية لايمكن أن ينجز ممن عاصر تلك المرحلة في خضم أحداثها , وأنه لابد أن ينقضي بعض الوقت ليصبح بالإمكان رؤية نتائج تلك المرحلة كي يمكن العودة لتقييمها بطريقة أكثر عمقا وشمولا , ولاشك أن لذلك الرأي نصيب من الحقيقة مهما وجدت الأسباب لوضع ذلك محل النقاش والجدل .

وقد حاولت جهدي النظرللعهد الفيصلي كما لرجاله من مختلف الجوانب السلبية والإيجابية وضمن سياقاته التاريخية , فبالنسبة للأمير فيصل فقد توقفت مليا عند نهجه الديمقراطي في الحكم , وابتعاده عن فرض إرادته ورأيه على المؤتمر السوري العام والحكومة والحركة الوطنية , والتزامه بالأخذ برأي الأغلبية حتى في أشد الأوقات حرجا وخطورة وحين يكون متيقنا من صواب رأيه المخالف لرأي الأغلبية , وكيف أنه كان يفضل ذلك على تعريض البلاد للإنقسام والثورة وسفك الدماء , كما يحسب له أنه كان ركيزة رئيسية للحريات والديمقراطية التي امتاز بها ذلك العهد , كما كان الرمز الذي اتحدت حوله معظم التكوينات الإجتماعية السورية في خضم عملية صعود الوطنية السورية , وفي المقابل لايمكن للمرء إلا أن يتوقف أيضا عند تبعيته للسياسة البريطانية إلى درجة عدم القدرة على رؤية البدائل والتحضير لها حال تخلي تلك السياسة عنه وعن الدولة السورية الوليدة.

أما السياسة الدولية فقد أثرت بصورة وثيقة للغاية بنشوء العهد الفيصلي مثلما ارتبطت بانتهائه أو إنهائه بالقوة ومن الضروري التوقف عند تحولاتها وتأثرها بالأوضاع الداخلية في سورية التي كانت تتجه باستمرار نحو ازدياد قوة الحركة الشعبية ونفوذها السياسي , تلك السياسة الدولية التي لم تتمكن النخب العربية والسورية منها حتى الآن من إدراك طريقة عملها والتعامل معها بطريقة تجمع بين الإستقلال والندية والمرونة مقابل الخلل في موازين القوى الذي مازال يسم تلك العلاقة الصعبة . أما المحور الأول فقد كان ضروريا لامتلاك صورة تلخص التحولات السياسية التي مر بها ذلك العهد , ومقدمة للبحث في المحورين الثاني والثالث .

تعود أسس العهد الفيصلي مباشرة لثورة الشريف حسين والإتحاد الذي حدث خلال الفترة التاريخية ذاتها بين الحركات القومية في بلاد الشام وتلك الثورة , وكأن مصير العهد الفيصلي قد ارتسم في الأفق منذ أن انخرط العرب في تحالف غير متكافىء مع أقوى إمبراطورية استعمارية في ذلك العصر وأعني بها بالطبع الإمبراطورية البريطانية , ذلك التحالف الذي لم يكن سوى مطية مؤقتة للغرب لدخول المشرق العربي بأقل تكلفة ممكنة واحتلاله وتقسيمه وزرع إسرائيل في قلب ذلك المشرق .

مع ذلك وضمن الوقت المستقطع مابين انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية وبين تفرغ الدولتين الإستعماريتين الكبيرتين بريطانيا وفرنسا للمباشرة بتطبيق اتفاق سايكس بيكو بعد حل خلافهم حول تلك المعاهدة السابقة على نهاية الحرب , وكذلك الإنتهاء من معاهدات الإستسلام لدول المحور المهزومة خاصة ألمانيا ( معاهدة فرساي ) والإمبراطورية النمساوية – المجرية ( معاهدة سان جرمان ) ثم الدولة العثمانية ( معاهدة سيفر ) , والتغلب على التدخل الأمريكي الخجول في السياسة الإستعمارية لبريطانيا وفرنسا , أقول ضمن ذلك الوقت المستقطع, تمكنت سورية من تقديم نموذج حي لدولة حديثة ديمقراطية رائدة , ستبقى في وجدان العرب والسوريين مصدر إلهام لوقت طويل .

لم يكن العهد الفيصلي طويلاً في عمره , فهو لم يعمر أكثر من اثنين وعشرين شهرا , لكن التجارب التاريخية لاتقاس بطول المدة التاريخية أو قصرها , فبينما بقيت أوربة غارقة في ظلام العصور الوسطى من القرن السادس الميلادي وحتى القرن السادس عشر كانت الحياة فيها تسير وفق نمط ثابت وأفكار لاتتغير , فإننا نجد بعد ذلك نهوضا متصاعدا في التجارة والإقتصاد والفكر خلال حوالي مئتي عام ثم جاءت الثورة الفرنسية لتقلب المفاهيم الاجتماعية والسياسية السائدة رأسا على عقب خلال عشر سنوات بدأ بالعام 1789 , وبالمثل كان العهد الفيصلي شديد الأهمية من حيث طبيعة الإنجازات التي شهدها ودلالات تلك الإنجازات , ويمكن اعتباره مهدا للوطنية السورية مثلما كان تجسيدا وتجليا ماديا للفكرة القومية العربية لأول مرة , ومختبرا لأول ديمقراطية حداثية عربية حقيقية .

مايعنيني أيضا هوالتركيز على ذلك التفاعل الخلاق بين العروبة والإسلام المستنير والحداثة , والذي يكفي للدلالة على أن اجتماع تلك العناصر الثلاثة ليس من قبيل اجتماع الأضداد , والشرط هنا هو توفر نخب كتلك التي شهدها العهد الفيصلي , أما حين لايتوفر تيار إسلامي مستنير , أو علماني مرن متلائم مع البيئة الإجتماعية والثقافية , أو قومي عربي ديمقراطي فمن الطبيعي أن لانتوقع وجود إمكانية لاستعادة تلك التجربة التاريخية.

في بدء العهد الفيصلي كانت الريادة السياسية للتيار القومي العربي الذي سبق أن تكون مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بصيغة الجمعيات العربية خاصة جمعية العربية الفتاة التي استطاعت تأسيس قاعدة لها في دمشق بعد أن نقلت مقرها من باريس عقب مؤتمر باريس عام 1913 والذي كان مرحلة فاصلة في صياغة المطالب القومية العربية وفق برنامج سياسي واضح المعالم أصبح فيما بعد البرنامج المشترك لكل القوى والتجمعات القومية العربية حتى العام 1916 حين خرجت للوجود فكرة الإستقلال التام عن الدولة العثمانية بفعل الحرب العالمية الأولى والأخطاء الجسيمة التي ارتكبها جمال باشا خلال مدة حكمه لبلاد الشام بين 1915 – 1917 ببطشه بالمثقفين والناشطين السياسيين العرب وعوائلهم , ونقل وبعثرة الضباط العرب نحو الجبهات البعيدة , وفرض التتريك بالقوة , وكان يتم كل ذلك والدولة العثمانية بأضعف حالاتها , والحديث حول انهيارها وتركتها ملء المسامع والآذان , وخلال المقدمات لثورة الشريف حسين في الحجاز , وما قام بالتحضير له من الاتفاق مع الدولة البريطانية.

دفعت العوامل السابقة مجتمعة الجمعيات القومية العربية إلى طلب الإستقلال التام ووضع يدها في يد الشريف حسين , وبعد أن دخل جيش الشمال العربي دمشق عام 1918 برفقة جيش الحلفاء , تحولت جمعية العربية الفتاة فعليا لحزب حاكم , بالرغم من أن لجنتها الإدارية فضلت الإستمرار السري بالعمل وإنشاء واجهة حزبية تحت اسم حزب الإستقلال العربي.

لكن ذلك الحزب لم يحكم كحزب قائد للدولة والمجتمع كما فعل حزب البعث بعد العام 1964 مقصيا بذلك كل الأحزاب والقوى السياسية الأخرى , وعلى النقيض من ذلك فقد أطلق حياة سياسية نشطة وفعالة في البلاد , ولم يكن لديه أي مانع في رؤية رجل كمحمد فوزي باشا العظم عرف بمعارضته الشديدة لثورة الشريف حسين والدعاية ضدها رئيسا منتخبا لأول مؤتمر سوري عام اعتبر كجمعية وطنية تأسيسية مثلت السوريين تمثيلا حقيقيا ديمقراطيا .

في أيلول/ سبتمبر من العام 1919 ومع اتفاق بريطانيا وفرنسا على سحب الجيش البريطاني من سورية وإحلال الجيش الفرنسي مكانه في إشارة واضحة للعزم على تطبيق اتفاق سايكس بيكو , جاء لدمشق رشيد رضا الشيخ المعمم الطرابلسي تلميذ المصلح الإسلامي الكبير محمد عبده وأحد أقطاب حزب الإتحاد السوري ومقره مصر لينخرط في العمل السياسي بدمشق باسم حزبه وبتنسيق وتفاهم مع جمعية العربية الفتاة القومية , وسرعان ما دخل المؤتمر السوري ثم انتخب رئيسا للمؤتمرالسوري وشارك بفعالية في صياغة الدستور السوري . وقد لعب دورا رئيسيا في ايجاد توافق وطني بين التيار القومي العربي العلماني والتيار الإسلامي العربي , وفي حل الخلافات التي ظهرت أثناء مناقشة الدستور بطريقة توافقية بحيث يكون كل طرف مستعدا لشيء من التنازل للطرف الآخر بهدف الوصول لصيغة توافقية مشتركة .

ومن تلك المسائل التي شهدت تجاذبا مسألة طرحها النائب ابراهيم الخطيب النائب عن جبل لبنان بخصوص تضمين الدستور حق المرأة السورية بالتصويت , وفي ذلك النقاش برز بعض رجال الدين مؤيدين لذلك الحق من وجهة نظر إسلامية , بينما اعترض نواب آخرون باعتبار المجتمع السوري ليس مؤهلا لتقبل ذلك وأن وضع مثل تلك العبارة في الدستور يمكن أن يحدث فتنة نحن بغنى عنها في الوقت الراهن , وحسم رشيد رضا النقاش بترك تلك المسألة دون إنكارها , ربما على أمل العودة إليها في المستقبل بظروف مناسبة .

أما أكثر مايستدعي التوقف عنده فهو قبول التيار الإسلامي لعدم ذكر أن دين الدولة الإسلام رغم المطالبة بذلك أول الأمر , وجرى إرضاء التيار الاسلامي بعبارة تنص على أن دين الملك هو الإسلام , وواضح أن تلك العبارة لاتغير في شيء من علمانية الدولة .

في المقابل لم يرض الإسلاميون بالنص على العلمانية صراحة مما قد يفسر على أن الدولة دولة إلحاد من قبل جمهرة واسعة من الشعب فتراجع العلمانيون واكتفوا بوصف الدولة باعتبارها دولة مدنية بمعنى أنها ليست دولة دينية .

إذن فقد استطاع العهد الفيصلي تقديم نموذج حي لاحتواء المؤتمر السوري العام لتيار إسلامي معتدل وإصلاحي بل وانتخاب أبرز ممثليه رئيسا للمؤتمر , كما استطاع إنجاز دستور سوري مدني علماني ديمقراطي متقدم بتوافق وطني ضم أجنحة سياسية واجتماعية متعددة أبرزها التياران القومي العلماني والإسلامي الاصلاحي.

وعلى أية حال تكفي التجربة التاريخية للعهد الفيصلي لتوضح بما لايدع مجالا للشك أن توافقا بين ليبرالية إسلامية متنورة وعلمانية وطنية مرنة ليس أمرا مستحيلا , بل هو ممكن ومطلوب أيضا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى