الحزبية والعقائدية

د- عبد الناصر سكرية

تكاد لا تخلو أي أرض عربية من جيوش أجنبية. غالبها عسكري وكثير منها لوجستي فني، تمارس أدوارًا وظيفية تخريبية لصالح مراجعها الأجنبية. ومنذ العدوان الأميركي على العراق واحتلاله العسكري المباشر عام ٢٠٠٣، تكون الأمة العربية قد انتقلت من مرحلة التحرر الوطني والقومي إلى مرحلة الدفاع عن الوجود. وكلاهما مختلف عن الآخر من حيث الطبيعة والمواجهة المطلوبة والاستهدافات والوسائل والأدوات.

عاشت الأمة ابتداء من أول خمسينات القرن العشرين والعقود التي تلته مرحلة نشطة من التحرر الوطني المترافقة ببناء الذات الوطنية والقومية. كانت قيادة جمال عبد الناصر تعطي زخمًا تحرريًا ثوريًا وتخلق مناخًا نضاليًا ووعيًا سياسيًا وثقافيًا عامًا واسعًا أدى إلى انخراط الشعب العربي في أنشطة سياسية أو ثقافية أو اجتماعية تتمحور حول أهداف تلك المرحلة وطبيعتها والمتمثلة بالتحرر الوطني من النفوذ الأجنبي والقواعد العسكرية ثم بناء قاعدة للعمل الوطني والقومي تقوم على رؤية سياسية استقلالية وإيجابية تواجه السياسات الاستعمارية وتتحدى أهدافها المحلية وتتملك قوتها الذاتية اقتصاديًا ومجتمعيًا تحمي بها نفسها من الاختراقات والتسلل والتخريب المعادي.

كانت المرحلة تتسم بوجود قيادة للعمل الوطني ومشروع وطني ورؤية سياسية ثقافية متكاملة. أدى هذا إلى انخراط الغالبية الشعبية في معارك التحرر والبناء في إطار القضية الوطنية التحررية.

وكان من الطبيعي والموضوعي أن تنشأ طروحات مختلفة ذات رؤى متعددة لقضية التحرر وما تستدعيه من مواقف. وللبناء الذاتي وما يتضمنه من اجتهادات وما له من خلفيات وانتماءات.

فكانت العقائد المتعددة تبعًا لاختلاف المنطلقات والغايات. ونشطت حركة حزبية تتنافس فيما بينها وتتهم بعضها بعضًا في أحيان كثيرة تبعًا للاختلاف في التقدير والتقييم والمصالح السياسية والاجتماعية والحزبية.

في وجود جمال عبد الناصر لم تكن الحركات السياسية لتستقطب الحركة الجماهيرية الواسعة نظرًا لالتفاف الجماهير الشعبية حول قيادته العربية التحررية. وبعد وفاته احتدمت الصراعات السياسية والحزبية سيما بعد سقوط مصر في كامب ديفيد وتشكل حركات وأحزاب ناصرية كانت مهمتها الأساسية الدفاع عن تجربة عبد الناصر التي أطلق السادات ومن وراءه حربًا شعواء ضدها لتشويهها وطمس معالمها.

وكان تنشيط الأحزاب الدينية أحد أساليب قوى الردة الإقليمية – الأجنبية في محاربة مرحلة التحرر الوطني والقومي وفي القلب منها جمال عبد الناصر والقوى العربية القومية الشريفة.

كما نشطت القوى والحركات اليسارية التي وجدت فرصتها بغياب جمال عبد الناصر، لتصدر الساحة السياسية العربية مستفيدة من إرث الإتحاد السوفياتي والجو الإيجابي العربي حياله عامة..أما الأحزاب والقوى القومية الأخرى والتي حاولت وراثة القيادة الناصرية فلم تستطع ملء الفراغ فراحت تتسبب بصدامات بين أبناء التيار القومي، وممارسة القيادة بتشكيل مراكز قوى شللية داخل الجماعات الناصرية كانت سببًا من أسباب ضعفها وشرذمتها فيما بعد.

كل هذا تسبب في نشوء عصبيات حزبية وتشدد في التمسك بالمواقف – السياسية والعقائدية حد الإستماتة.. مما تسبب في صناعة تزمت حزبي وانغلاق فكري وقصور سياسي – عقائدي، عجز عن استيعاب المتغيرات ومواكبتها؛ ما جعله يتراجع شيئًا فشيئًا ويفقد صلاته بالجماهير الشعبية ليتحول إلى مجرد مصالح حزبية ذات عقلية فئوية.

في بدايات تلك المرحلة كان التعصب للرأي الحزبي أحد ضرورات إثبات الذات وفرض الوجود على الساحة السياسية. ولعله كان سمة موضوعية في مرحلة غابت عنها القيادة التحررية الجامعة. فكان تعدد الرؤوس وتعدد المشارب والمشاريع العقائدية أهم أسباب تجذر ذلك التعصب الحزبي وصولاً إلى الانغلاق وتخشب القيادات أحيانًا وتمعدن الطروحات العقائدية الشعائرية بعيدًا عن فهم الواقع وإدراك متغيراته وأبعاده. تمامًا كما حصل في موقف الكثير من الحركات ” الناصرية ” من ثورة الشعب السوري ومن مفهوم المقاومة وكيفية ترجمتها رؤية عملانية ميدانية.

كان الجمود العقائدي والتزمت الحزبي والعقل الفئوي سمة بارزة مشتركة لدى الأحزاب والقوى السياسية جميعًا الدينية واليسارية والقومية عمومًا. لا سيما وأنها واجهت جميعًا تحديات العولمة وما رافقها من ضغط فكري وثقافي لتعميم قيم العولمة الرأسمالية المادية فنشأ ذلك الخلط المشوه بين قيم الحداثة الديمقراطية ومفاهيم العولمة الرأسمالية مما زاد الأمور حرجًا وتعقيدُا فزاد بروز العقلية الحزبية الفئوية وزاد التقوقع خلفها فوقعت أغلب تلك الحركات في فخ العولمة وفي شراك قواها الأجنبية وزاد ابتعادها جميعًا عن الواقع الشعبي وزاد افتراقها عن الإحساس الشعبي الوطني الحر فصارت القوى اليسارية والدينية والقومية وكأنها تبخر للعولمة أو تستفيد منها ومن نفوذها ومصالحها وتترجم ذلك مواقف في مصلحتها بعيدًا عن آلام الناس وآمالها وتطلعاتها التحررية. فالتحق يساريون ودينيون وقوميون كثيرون بالديمقراطية الأميركية وبالعَلمانية الغربية وما يتفرع عنها من مواقف محلية مجتزأة منقوصة مشوهة مخزية.

في حين بقيت قوى وشخصيات أخرى على رؤيتها الوطنية الحرة وبعضها أجرى عمليات نقد وتقييم أدت إلى تغييرات فكرية رافقتها مواقف سياسية حرة.. ولعل الثورة السورية والثورة المضادة عليها قد أبانت طبيعة تلك القوى جميعًا وخلفياتها الحزبية والمصلحية وكشفت مقدرتها في التعبير العقائدي ومستويات فهمها ومدى ارتباطها بالقضايا الشعبية ومرونتها في التعامل مع المتغيرات.

بالاستناد إلى تلك الوقائع والظواهر وإلى العقلية الفئوية والروحية الحزبية المتزمتة؛ دخلت القوى السياسية العربية ميدان الانتفاضات الشعبية المسماة ربيعًا عربيًا؛ فعجزت عن قيادتها كما عجزت عن حمايتها في ذات الوقت؛ مما ساهم في تمكين قوى الثورة المضادة من الانتفاضات والالتفاف عليها والتسلل إلى صفوفها وتخريبها وحرفها عن مسارها ومنعها من تحقيق أهدافها وغاياتها.

منعت عقلية التحزب الفئوي الضيقة المتزمتة تلك القوى السياسية المتعددة والموالية للانتفاضات الشعبية من توحيد قواها في جبهات وطنية تحميها وتنصرها ما أدى إلى فشل الجميع وتقدم قوى الثورة المضادة.

أكثر من هذا فقد أدت العقلية الحزبية ومصالحها الفئوية وتغليبها على الولاء الوطني والقضية الوطنية الشعبية إلى وقوع بعض القوى المحسوبة على الانتفاضة؛ في براثن المشاريع الأجنبية المخربة كما هو واقع حال أحزاب دينية ” إسلامية” أصبحت أدواتًا تركية لاحتواء الثورة السورية؛ كما واقع أحزاب وحركات ” ناصرية ” أصبحت أدواتًا روسية إيرانية في ضرب الثورة واحتلال أرض عربية.

للقوى الموالية للغرب الاستعماري الأميركي حديث آخر

– أمام الواقع الراهن: ما العمل ؟؟

كان على الحركات السياسية العربية جميعًا أن تدرك معاني ودلالات احتلالي أميركا للعراق. ثم الدلالات الخطيرة لتسليم العراق لاحتلال إيراني فارسي راح يمزق هوية العراق العربية ويمعن تقطيعًا بأوصاله ووحدته المجتمعية الوطنية، ويعلن عن مشروعه التقسيمي التوسعي على حساب الأرض العربية. إن عودة أميركا إلى الاحتلال العسكري المباشر كانت واضحة الدلالة على انتقال بلادنا إلى مرحلة جديدة مختلفة نوعيًا عن مرحلة التحرر الوطني، وأكثر خطورة منها.. فقد أطلق النظام العالمي بزعامة أميركا حرب وجود شاملة على الأمة وعلى الهوية العربية معا.

تجاوزت تحديات مرحلة التحرر الوطني هبوطًا إلى مرحلة إزالة الوجود القومي من أساسياته.

فبعد أن غابت أية قيادة عربية عن الواجهة؛ واتصف النظام العربي بالاستسلام والارتهان العلني الكامل للنفوذ الأجنبي، وبعد استكمال استعدادات المشاريع الإقليمية المحيطة بالبلاد العربية شرقًا وشمالًا وجنوبًا وغربًا؛ وبعد تكريس انقسام فلسطيني مروع؛ انطلق الجميع بحرب وجودية لإبادة الوجود العربي. وما حروب الضم والاقتلاع الصهيونية وتدمير مئات المدن والحواضر العربية التاريخية وتهجير الملايين من السكان العرب إلا دليلاً كافيًا واضحًا على تلك الحرب على الوجود. تجاوزت هذه الحرب ما كان قائمًا في مرحلة التحرر الوطني حيث المعارك تدور حول المقدرات والموارد والدور وحرية القرار والتقرير؛ لتصبح حربًا على الوجود بالاقتلاع والتهجير والتقتيل والتدمير.

غابت القيادة العربية المحورية الفاعلة ولم تعد القوى المعادية جميعًا تخفي شيئًا من أهدافها وأطماعها.. حتى باتت صفقة القرن الأميركية الصهيونية وكأنها قدرًا محتومًا أو تحصيل حاصل.

في هذه المرحلة الخطيرة المتغيرة جدًا، احتفظت القوى والأحزاب السياسية العربية، بمنطلقاتها ومشاربها المتنوعة، بذات العقلية الحزبية الفئوية في تعاملها مع الوقائع والأخطار ومستجدات المرحلة الجديدة، مما جعلها في تراجع مستمر أمام تقدم قوى الثورة المضادة والزحف ألأجنبي.

وعلى الرغم من التضحيات الشعبية العظيمة التي دفعها الشعب العربي ثمنًا لانتفاضاته طلبًا للحرية والعدالة والكرامة والحياة في كل بلد عربي؛ إلا أن قوى الثورة المضادة هي التي استثمرت تلك الانتفاضات والتضحيات بسبب عجز القوى المنتفضة عن تنظيم ذواتها وتوحيد جهودها في جبهة وطنية تحميها وتحتمي بها وتستطيع من خلالها حماية الانتفاضات واستثمار نتائجها إيجابيًا لمصلحة الشعب والوطن…ولا تزال تتحكم بها تلك العقلية الحزبية الفئوية الضيقة العاجزة الخالية من أية مرونة فكرية وسياسية وطنية. ولا يزال البحث عن مكاسب حزبية أو مصالح شخصانية، متحكمًا بالكثيرين رغم ضخامة الأخطار وجسامة التردي والتراجع. ولربما كان التعصب الحزبي مبررًا في مراحل إثبات الرأي وبيان التميز؛ إلا أنه بات اليوم مرضًا متمكنًا يخرب طاقات كبيرة ويعطل انطلاق العمل الوطني إلى آفاق أرحب وأفعل؛ لا بل يترك كثيرًا من الأحزاب والقوى والشخصيات والنخب فريسة النفوذ الأجنبي واحتوائه لها وتوظيفها في خدمته بدراية منها أو بغير دراية.

الإيجابيات الكثيرة التي أفرزتها تلك الانتفاضات الربيعية وأبرزها خروج الجموع الشعبية طلبًا للحرية والحياة الكريمة دونما هوادة وتجاوز عنجهيات الخوف المعقدة؛ تحتاج إلى مشروع وطني جامع يستجيب لطبيعة المرحلة ويرد على تحديات حرب الوجود، برؤية وطنية توحيدية جامعة وبرنامج زمني محدد الأهداف واضح المعالم؛ متوافق مع ما يقدمه الواقع الموضوعي من إمكانيات عملية.. ولن يتحقق شيء من هذا إذا لم يتخل الجميع عن العقلية الحزبية الضيقة والمنطلقات المصلحية الفئوية وصولاً إلى تشكيل تحالف وطني عام فوق كل انتماء ديني أو عقائدي أو حزبي أو عرقي أو مذهبي، يجمع القوة الوطنية التي ما تزال مشتتة، تمكينًا لها من الصمود وحماية الإيجابيات والانتقال إلى تطويرها وتدعيمها لاستعادة الزمام من القوى المضادة المرتهنة للنفوذ الأجنبي والمرتبطة به مصلحيًا ووجوديًا.

فشلت العقلية الحزبية في تحصيل أية مكتسبات أو في حماية تضحيات الناس وبالتالي سقطت أمام التحديات فآن أوان إسقاطها من العقول والنفوس تأسيسًا لمرحلة نوعية جديدة في العمل الوطني للدفاع عن النفس أولًا وثانيًا وخامسًا…إن سقوط العقلية الحزبية لا تعني سقوط العقائد المختلفة. فليحتفظ من يريد بعقيدته؛ أما مقتضيات العمل الوطني الراهن، فتستوجب المرونة الفكرية والانفتاح السياسي والالتحام الميداني بين الجميع. فوق أي انتماء حزبي أو عقائدي أو ديني أو مذهبي أو عرقي أو مناطقي. وإلا فلن تستثني حرب الوجود أحدًا: الاقتلاع والتدمير وإما الالتحاق بقوى المشاريع الأجنبية قائدة حرب الوجود. فليكن الولاء للأرض والشعب والوطن معيارًا للعمل المشترك الجامع قبل انهيار البنيان جميعًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى