“Colonial Patriotism” هو مصطلح اشتقاقي يمكن ترجمته ب”الاستعمار الوطني” وأقصد به التعبير عن نظام الحكم الذي أعقب المرحلة الكولونيالية، مرحلة الاستعمار الخارجي، ويمكن تعميمه اليوم على جميع أنظمة الحكم غير الديمقراطية والقائمة جوهرياً على حكم العسكر، أو التي تعد امتداداً طبيعياً؛ وراثياً أو انقلابياً، لحكم العسكر.
لا تخلو الكولونيالية الوطنية من حب الوطن، بل والولاء للوطن، أو حتى الدفاع عن الوطن، لكنها تنحو لصناعة الوطن على قياسها، وطرد جميع المخالفين لها خارج الوطنية؛ فعلياً أو رمزياً، حيث إن كل فرد أو مجموعة أو حزب أو فئة لا ترى بالقياس الذي فصّلته الكولونيالية الوطنية للوطن، تصبح فئة معزولة، غير وطنية، وفي أقصى الحالات خائنة، عميلة، أو معادية للوطن ذاته، لا للفئة الحاكمة.
تتشابه الكولونيالية الوطنية مع الكولونيالية الأصل؛ الاستعمار الخارجي، وذلك أولاً، كون كل من الكولونياليتين لا تأتي عبر الخيار الديمقراطي المرتبط بالشعب، بل عبر القوة العسكرية المحضة؛ احتلال خارجي في الحالة الأولى وانقلاب داخلي في الثانية. وثانياً، تتشابه الكولونياليتان بالجانب الانتدابي التحديثي المتعالي في العلاقة مع السكان، فكلاهما ينظر إلى البلاد المحكومة وناسها على أنهم متخلّفين وغير قادرين على حكم أنفسهم عبر خيارهم الحر والديمقراطي، ولذلك فالكولونيالية هنا تحمل رسالة تحديثية لتطوير المجتمع من الأعلى إلى الأسفل وإيصال الدولة إلى مرحلة يمكن فيها أن تُحكَم ديمقراطياً، (نعرف من تاريخنا السوري مثلاً أن السمة الأكبر لحافظ الأسد هي تسميته بباني سوريا الحديثة، أما ابنه فقد افتتح سلطته باستكمال المسيرة وإضافة التطوير إلى التحديث، ثم قوله في لقاء صحفي قبل اندلاع الثورة بفترة وجيزة أن سوريا مازالت تحتاج إلى ربع قرن لتكون جاهزة للحكم الديمقراطي). أما ثالثاً فمن من حيث رؤية الكولونيالية للشعب والأرض والثروة وتشكيلة النظام السياسي، حيث تبدو قوة الشعب الكامنة مصدر خطر دائم على الكولونيالية الوطنية مثلما كانت مع الكولونيالية الأصل، ولذلك تحاول إضعاف المجتمع المدني ومؤسساته المستقلة وغير الحكومية إلى أقصى حد، وتمنع الأحزاب المستقلة أو المعارضة للسلطة، وتلعب على الاختلافات الأهلية؛ الدينية والطائفية والإثنية، لتجعل من نفسها القاضي والحكم. ومثل الاستعمار الخارجي تماماً، تتعامل الكولونيالية الوطنية مع الثروة الوطنية العامة كملكية خاصة لها، حيث تتم سرقة الثروات الوطنية واستخدام عائداتها لتقوية نفوذ السلطة ذاتها والسيطرة على المجتمع، أو استثمارها في البنوك الخارجية لصالح جلاوزتها.
ضمن هذا السياق نعتقد أنه من الضروري دراسة الكولونيالية الوطنية كجزء متمم وأصيل من الكولونيالية الأصل وذلك لعدة أسباب: منها أولاً، ملاحظة كاتب هذه السطور في المجال الأكاديمي، أن معظم دارسي الكولونيالية التقليدية باتوا بعد اندلاع الربيع العربي من مؤيدي الديكتاتوريات العربية؛ ولاسيما الديكتاتور السوري، محمّلين الغرب “الكولونيالي والامبريالي” نتيجة ما يحدث عبر تدخلاته أو مؤامراته ضد الأنظمة “التقدمية” العربية. ثانياً، ضرورة تخريج الكولونيالية الوطنية من الوطنية التي تدعّيها، ولاسيما أنها وطنية معادية للمواطنة الحديثة التي تقوم بشكل أساسي على صيانة حقوق الأفراد السياسية وكرامتهم ومساواتهم أمام القانون، وتنبني على الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وضمن هذا المعيار تصبح الكولونيالية الوطنية هادم حقيقي للأوطان ومدمر حقيقي لتطور الشعوب. ثالثاً وأخيراً، لابد من التأسيس النظري والعملي لإيجاد حركات مقاومة دائمة تنسق فيما بينها لمحاربة ومقاومة إعادة إنتاج الكولونياليات الوطنية بكل الوسائل الثقافية والسياسية الممكنة، مثلما حصل مع الاستعمار الخارجي.
الكولونيالية الوطنية تجعل المناخ السياسي في البلاد التي تحكمها ينتقل من وضعه الطبيعي كتنافس بين المختلفين سياسياً للوصول للسلطة، إلى صراع وجودي غير قابل للإصلاح ولا للتفاوض بين المختلفين، وهذا النوع من المناخات السياسية يرتكز بشكل أساسي على مسألتين متلازمتين هما: الهوية والأخلاق، حيث يتحول الصراع السياسي بين المختلفين إلى صراع هووي، والصراع الهووي هو بطبيعته صراع غير قابل للمشاركة أو الاختلاف، وما يتفرع عن صراع الهوية هو أزمة أخلاقية تلقي بظلالها على السياسة، حيث يصبح الخلاف بين الفرق والأحزاب قائماً بشكل أساسي على ادعاء التفوق الأخلاقي لكل طرف ضد الآخر في القضايا المصيرية التي تهم الجميع، فكيف تثبت أن هويتك أعلى وأكثر أصالة من الآخرين إن لم تربطها بقضية أخلاقية ووطنية عليا، ثم تدعي أنك الممثل الأعلى أو الوحيد لتلك القضية! استخدم نظام الأسد مثلاً الموقف من القضية الفلسطينية وأمريكا واسرائيل كأداة فاعلة جداً لإضفاء الشرعية الشعبية على حكمه باعتباره نظاماً ممانعاً ومقاوماً، كما سهّل بذلك عملية تصنيف كل معارضة لنظام الأسد بالعمالة للعدو وخيانة القضية، بالإضافة لترهيب المجتمع وسرقة الثروات الوطنية بحجة خلق “التوازن الاستراتيجي” وتجهيز الجيش السوري لمواجهة إسرائيل؛ الجيش الذي لم يقتل في المحصلة سوى السوريين.
تاريخياً، لم تستطع مجتمعاتنا التخلّص من الاحتلال وحيدة، لا فيما يخص الاحتلال العثماني ولا الاستعمار الفرنسي، فعلى الرغم من تركيز السرديات الوطنية على الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين والملك فيصل، ثم الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، إلا أن ما تم إغفاله تماماً في تلك السرديات الوطنية هو أن نهاية المرحلة العثمانية لم تكن نتيجة القوة الذاتية للثورة، بل نتيجة التوازنات العالمية الجديدة التي خلقتها نهاية الحرب العالمية الأولى، كما أن نهاية الاستعمار الفرنسي لم يكن نتيجة الثورة السورية الكبرى؛ التي تم القضاء عليها بالقوة بعد سنتين من انطلاقها، بل نتيجة التوازنات العالمية التي خلقتها نهاية الحرب العالمية الثانية وذلك بعد عقدين من نهاية الثورة ذاتها، ويبدو أن المعيار التاريخي ذاته مازال صالحاً فيما يخص الكولونيالية الوطنية، التي لا يبدو الخلاص منها ممكناً بعد كل الدماء والدمار الذي حصل في سوريا، دون تغير في موازين القوى العالمية القائم حالياً.
المصدر: بروكار برس