حالة الردع غير المؤكدة في الخليج العربي

فرزين نديمي

على الرغم من التدريبات العسكرية الإيرانية وحفاظ الجمهورية الإسلامية على لهجة التحدي، إلّا أن إيران تجنبت الاستيلاء على المزيد من السفن، ولكن استعدادها الواضح لاتخاذ إجراءات حازمة في منطقة “الردع المتنازع عليها” لا يزال قائماً.

في 21 آب/أغسطس، كشفت بعض التقارير أن ناقلة النفط “سويس راجان” التي كانت تحمل نفطاً خاماً إيرانياً وتم احتجازها من قبل الولايات المتحدة، قد نقلت حمولتها إلى الناقلة الأصغر حجماً “إم آر الفرات” التي تملكها الولايات المتحدة وتديرها اليونان. وفي وقت لاحق، تم تفريغ الشحنة في محطة للسفن الأمريكية. وكانت سفينة “سويس راجان” قد احتُجزت لأسابيع قبالة ساحل تكساس، ولم تتمكن من نقل النفط بسبب خشية شركات الشحن من التهديد الذي أصدره” الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني في 20 تموز/يوليو بأن أي شركة تعبث بالشحنة ستقابل بالانتقام في الخليج.

وربما ليس من قبيل الصدفة أن تكون “مجموعة “باتان” البرمائية الجاهزة» التابعة “للبحرية الأمريكية”، ومن بينها “يو إس إس باتان”، و”يو إس إس كارتر هول”، و”يو إس إس هادنر”، قد عبرت مضيق هرمز إلى الخليج العربي في 17 آب/أغسطس. وكانت المجموعة مَحمية بشكل واضح للغاية من قبل طائرات مقاتلة من طراز “إف-35” تحلق على ارتفاع منخفض أثناء اقترابها من المضيق وربما بعد دخولها الخليج. وشملت المجموعة المنتشرة أيضاً طائرات “هارير” المحملة على السفن وفرقة عمل للرد السريع تابعة “للبحرية الأمريكية” جاهزة للانتشار على متن السفن التجارية إذا لزم الأمر. وقبل أيام من هذا العبور، كانت المدمرة “هادنر” قد وجهت رسالة أخرى لا لبس فيها إلى إيران في 6 آب/أغسطس من خلال اصطحاب قائد “القيادة المركزية الأمريكية” الجنرال مايكل كوريلا وقائد “الأسطول الخامس” نائب الأدميرال براد كوبر في جولة رفيعة المستوى عبر المضيق.

وجاءت هذه العمليات البحرية في أعقاب مجموعة من عمليات الانتشار العسكري الأمريكي ذات الأهمية الرمزية والتكتيكية في المنطقة، بما في ذلك مدمرة دفاعية ضد الصواريخ الباليستية وطائرات إضافية من طراز “إف-16″ و”إف-35”. وتسلط هذه التحركات مجتمعةً الضوء على تصاعد المخاوف بشأن الأعمال الإيرانية التي تستهدف الشحن البحري في الخليج في عام 2023. كما تُظهر كيف يمكن للإشارات العسكرية الأمريكية وعمليات النشر الحازمة أن تساهم في ردع المزيد من الهجمات البحرية الإيرانية.

التهديدات والتحركات الإيرانية الأخيرة

في 22 نيسان/إبريل و11 تموز/يوليو، استولت السلطات الأمريكية والإندونيسية تباعاً على ناقلتين تحملان النفط الإيراني إلى الصين. وتم اعتراض الناقلة الأولى (“سويس راجان”) بموجب أمر قضائي متعلق بالمدفوعات المستحقة لضحايا الإرهاب الذي ترعاه إيران. أما الناقلة الثانية (“أرمان 114”) فقد تمت مصادرتها على خلفية انتهاكها للأنظمة والقواعد البيئية المتعلقة بعمليات النقل من سفينة إلى أخرى، في محاولة تهدف، وفقاً لبعض التقارير، إلى إخفاء حقيقة أن النفط جاء من إيران.

وفي الأسابيع التي تلت الاستيلاء الأول، ردت القوات البحرية الإيرانية من خلال القيام بمحاولتين ناجحتين ومحاولتين فاشلتين للاستيلاء على سفن تجارية في المياه الدولية تحت ذرائع كاذبة. وفي إحدى تلك الحوادث، وجهت نيران أسلحتها مباشرةً على السفينة. وفي عمليتَي الاستيلاء الفاشلتين، أدى التدخل العسكري للولايات المتحدة وحلفائها في الوقت المناسب إلى إبعاد الوحدات البحرية الإيرانية.

وكما كان عليه الحال في الفترات الماضية من التوتر الشديد، أصدرت إيران أيضاً تهديدات ضمنية وصريحة بشأن فرض قيود صارمة على المرور عبر مضيق هرمز تحت ذريعة “السيطرة الذكية”. وقد يقدم مسؤولو النظام ووسائل الإعلام المتشددة خطابات إضافية من هذا القبيل في الأسابيع المقبلة، وخاصة للجمهور المحلي. فبعد عبور مجموعة “البحرية الأمريكية” المضيق في الشهر الماضي، أصدر “الحرس الثوري الإيراني” مقطع فيديو محوّر بشدة يدّعي فيه أن السفن الأمريكية “استسلمت للتهديدات الإيرانية بفتح النيران” عندما هبطت المروحيات الأمريكية التي كانت في الجو آنذاك على سطح السفينة. ولكن إلقاء نظرة فاحصة على الفيديو الذي يجمع ما بين لقطات الطائرات بدون طيار واللقطات السطحية لا يدعم هذه الادعاءات، بل يُظهر السفن الأمريكية وهي تمارس بوضوح وهدوء حقها في العبور عبر المضيق، مع الطائرات المرافقة لها في نمط تشغيلها الطبيعي (في هذه الحالة، المراقبة المسلحة أثناء العبور).

ومع ذلك، لا تزال إيران تعتقد على الأرجح أنها قادرة على تنفيذ أنشطة المنطقة الرمادية في الخليج مع الإفلات النسبي من العقاب، وأنها قامت بتنظيم جميع أدوات منع الوصول إلى المناطق المعينة (A2AD) اللازمة لإغلاق المضيق إذا قررت اتباع هذا المسار، بما في ذلك الصواريخ الطويلة المدى المضادة للسفن، والطائرات بدون طيار ذات الاتجاه الواحد والمحملة بالمتفجرات، والغواصات الصغيرة. وفي المستقبل، من المرجح أن تقوم إيران بضم ذخائر متسكعة مجهزة بالكاميرات للعثور على الأهداف المتحركة ومتابعتها إلى هذه القدرات، بالإضافة إلى صواريخ “كروز” الأسرع من الصوت التي يمكن أن تقلص أوقات رد الفعل بشكل كبير وربما تصل إلى عمق بحر العرب.

بإمكان إيران أيضاً أن تتخذ وضعية تهديدية في الجو، سواء من خلال استهداف طائرات الاستطلاع الأمريكية بدون طيار فوق مضيق هرمز (على غرار الحادثة سيئة السمعة في يونيو/حزيران 2019)، أو تنسيق التحركات البحرية مع شبكات الدفاع الجوي المتكاملة البرية والبحرية (كما هو الحال في مناورة “اقتدار” الأخيرة، انظر أدناه)، أو حتى من الناحية النظرية باستخدام أنظمة دفاع جوي بعيدة المدى لفرض السيطرة الفعلية على المضيق. وفي الأشهر الأخيرة، كشفت بحرية “الحرس الثوري الإيراني” عن عدة أنواع من السفن والزوارق السريعة القادرة على إطلاق صواريخ مضادة للطائرات موجهة بالرادار متوسطة إلى طويلة المدى (20-150 كيلومتراً)، مصممة لتوفير مظلة دفاع جوي للزوارق السريعة الأخرى.

وفي 2 آب/أغسطس، أطلق “الحرس الثوري الإيراني” مجموعته الثانية من مناورات “اقتدار” “للدفاع عن الجزيرة” في “منطقته البحرية الخامسة” بالقرب من مضيق هرمز، حيث كشف خلالها النقاب عن بطاريات صواريخ “كروز” متنقلة جديدة مضادة للسفن ومتمركزة على الشاطئ ويتراوح مداها بين 300 و 600 كيلومتر. والجدير بالذكر أن المناورة أجريت قبل حوالي أربعة أشهر من الموعد المحدد لها. وكان الهدف المعلن من التدريبات هو ممارسة “الانتشار السريع” للقوات من أجل الدفاع عن جزيرة “أبو موسى” وثلاث جزر أخرى في ما يسمى بسلسلة الـ “نازعات” الواقعة مباشرةً غرب المضيق، لكن المدى البعيد للأسلحة المعنية يمكن بالطبع استخدامه لأغراض أخرى.

القضايا القانونية البحرية

غالباً ما تستعرض إيران قوتها عبر ممر مضيق هرمز بأكمله، ليس فقط مياهها الإقليمية، ولكن أيضاً ممرات الشحن الأكثر استخداماً التي أنشأتها “المنظمة البحرية الدولية”، والتي تقع بالكامل ضمن المياه الإقليمية لعُمان. فافتقار طهران إلى السيادة في المناطق الأخيرة (من بينها قسم ضيق من المياه الدولية غرب المضيق مباشرة) لم يمنعها من الاستيلاء على السفن هناك (على سبيل المثال ناقلة النفط “ستينا إمبيرو” في عام 2019).

وبما أن إيران لا تعترف بمضيق هرمز كمضيق دولي، فهي تعترض على أي حركة مرور في الممر المائي لا تصنَف كـ “مرور بريء”، الأمر الذي قد تترتب عنه قيود كبيرة. على سبيل المثال، يحتفظ القانون البحري الإيراني لعام 1993 بالحق في منع مرور أي سفينة أجنبية “تهدد أو تستخدم القوة ضد سيادة جمهورية إيران الإسلامية وسلامة أراضيها واستقلالها… أو تشارك في أي دعاية تقوض أمن إيران القومي أو مصالحها الاقتصادية” (المادة 6). كما يحتفظ بالحق في تعليق المرور البريء عبر المياه الإيرانية بالكامل (المادة 8). ويمكن لطهران أن تلجأ إلى أي من هاتين المادتين إذا قررت اتخاذ خطوة جذرية تتمثل بالتدخل في السفن التي يُعرف أنها تضم حراساً عسكريين أمريكيين على متنها. وتقع معظم ممرات الشحن الرئيسية في الخليج العربي التي ترتادها الناقلات العملاقة بالقرب من المياه الإقليمية الإيرانية أو جزئياً داخلها، مما يمنح طهران المزيد من النفوذ القانوني في هذه المناطق (على الرغم من أن “الحرس الثوري الإيراني” لم يتردد في السعي سابقاً للحصول على ميزة مماثلة في مناطق أبعد عن المياه الإيرانية).

كما أن بند “حق المطاردة المستمرة” في قانون عام 1993 (المادة 21) يخوّل إيران ملاحقة السفن خارج بحرها الإقليمي وجرفها القاري إلى المياه الدولية إذا اعتقدت أنه تم “انتهاك” حقها في حماية أي من مناطقها. وفي الواقع، جعل “الحرس الثوري الإيراني” ذلك ممارسة منتظمة في مضيق هرمز. ولكن في حين أن أجزاء من هذه المادة تتوافق مع القانون البحري الدولي، فإن الجزء ذو الصلة من “اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار” (المادة 111) لا يذكر المياه الدولية ويحظر على وجه التحديد المطاردة المستمرة في المياه الإقليمية للدول الأخرى. كما نص قانون عام 1993 على أن يتم إقرار التشريعات واللوائح التقييدية المستقبلية “بما يتوافق مع مصالح إيران والمرور البريء لسفن الشحن”.

هل سترد إيران؟

إلى جانب التدريبات العسكرية المحدودة ومقاطع الفيديو الدعائية التي تم تعديلها بشكل كبير، ظل رد فعل إيران على تفريغ سفينة “سويس راجان” هادئاً ودبلوماسياً إلى حد كبير حتى الآن. و في 28 آب/أغسطس، استدعت وزارة الخارجية الإيرانية القائم بأعمال السفارة السويسرية في طهران للتعبير عن “اعتراضها الشديد” على مصادرة النفط، ووصفت تلك الخطوة بأنها “إجراء غير مجدٍ على الإطلاق”. (وقد عملت السفارة السويسرية منذ فترة طويلة كوسيط للاتصالات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران).

ومع ذلك، قد تفتعل إيران رد فعل متأخر في المنطقة الرمادية من أجل تشويه مصداقية عمليات الانتشار العسكري الأخيرة لواشنطن (ربما حوالي منتصف أيلول/سبتمبر في الذكرى السنوية للحركة الاحتجاجية التي اندلعت في أعقاب مقتل مهسا أميني، وذلك لتوجيه الاهتمام الدولي بعيداً عن حملات القمع المحلية المتجددة). وفي الماضي، استولى “الحرس الثوري الإيراني” على قوارب صغيرة تنقل جنوداً أمريكيين وبريطانيين في لحظتين رئيسيتين: في آذار/مارس 2007، عندما كان مجلس الأمن الدولي يصوت على قرار جديد ضد البرنامج النووي الإيراني، وفي كانون الثاني/يناير 2016، عندما كانت “خطة العمل الشاملة المشتركة” على وشك دخولها حيز التنفيذ (وفقاً لبعض التقارير، ضلّ كلا القاربين داخل المياه الإيرانية). كما استولت قوات طهران على سفن تجارية خلال تلك الفترات.

ومهما حدث، ستظل إيران والولايات المتحدة وإلى أجل غير مسمى في حالة من “الردع المتنازع عليه”، وهي حالة وصفها قائد “الحرس الثوري الإيراني” حسين سلامي في تموز/يوليو 2022 بأنها حركة “مستمرة من المد والجزر تحت سيطرة إيران”. ومن خلال إطلاق عمليات انتشار ومبادرات عسكرية شاملة لكافة المجالات، تتحرك الولايات المتحدة في الاتجاه الصحيح من خلال محاولة البقاء في طليعة الركب. ويذكرنا هذا الوضع بالتطورات الأخيرة في سوريا، حيث تراجع فجأةً السلوك العدواني الروسي ضد الطائرات الأمريكية بدون طيار بعد أن بدأت القوات الجوية الأمريكية، وفقاً لبعض التقارير، بتنظيم دوريات عدوانية لطائرات “إف-35” فوق البلاد.

أما بالنسبة لاحتمال نشر “حرس البحرية الأمريكية” على متن سفن مدنية في الخليج، على افتراض أنه تم التغلب على جميع العقبات القانونية، فإن قرار وضع هؤلاء الأفراد بشكل عشوائي وهادئ على متن السفن العابرة يمكن أن يكون له تأثير رادع عام من خلال إرغام الوحدات الإيرانية على تخمين أي سفن لديها أو ليس لديها حماية مسلحة. واستناداً إلى التجارب السابقة في مواقف مماثلة، يجب على أي فرق بحرية يتم استخدامها على هذا النحو تجنب الظهور الإعلامي وفرض الأمن التشغيلي الكامل. وينبغي أيضاً تمكينها من استخدام القوة اللازمة لحماية أنفسها وسفنها.

ومن السابق لأوانه معرفة ما إذا كان الوضع الحالي يمثل تغييراً دائماً في سلوك إيران أم أنه مجرد انحراف عن المسار. إن الاحتمال الأخير هو الأكثر ترجيحاً. فالتاريخ يُظهر أن طهران ستتراجع عند مواجهتها خصوماً متحدين وذوي مصداقية وقدرة، لكن ينبغي على واشنطن وشركائها أن يتوقعوا أن يتم الاعتراض على هذا الردع على جميع المستويات.

فرزين نديمي هو زميل أقدم في معهد واشنطن.

المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى