لم تكن سورية مرشحة لثورة ياسمين، لأنّ النظام قام على تعميم العنف في علاقته مع محكوميه، منذ انقلاب حافظ الأسد في سنة 1970. وقد جاءت الموجة الأولى للثورة في آذار/مارس 2011 نتيجة عدم قدرة الشعب السوري على الاستمرار في تحمّل الإذلال الذي مارسته الأجهزة الأمنية، طوال أربعة عقود. فكانت الثورة تعبيراً عن حاجة السوريين إلى تملّك حياتهم السياسية والاجتماعية، من خلال إطلاق مبادراتهم المستقلة للتغيير. واليوم، ثمة إرهاصات الموجة الثانية لؤ لالحراك الشعبي في السويداء ودرعا وبعض المحافظات الأخرى، خاصة في منطقة الساحل التي اعتُبرت من المناطق الموالية للنظام، تشير إلى أنّ السوريين مازالوا في حاجة إلى بناء دولتهم الحديثة، التي تفتح الأفق لهم، باعتبارهم مواطنين أحرار متساويين في الحقوق والواجبات، لإعادة بناء بلدهم بعيداً عن الاستبداد، وتحقيقاً لمطالبهم في تحقيق حرياتهم الفردية والعامة، وتأمين سبل العيش الكريم لكل أبناء سورية.
ولا شك أنّ الأسباب العميقة للثورة، بموجتيها، منبثقة من عدم توفير النظام للحدود الدنيا من حاجات السوريين، إذ إنّ التوجهات الاقتصادية – الاجتماعية للنظام الاستبدادي، أدت إلى تفاقم بطالة الشباب، وازدياد عدد الفقراء، وانتشار الفساد في مؤسسات الدولة.
كما أنّ آليات عمل سلطة النظام ومستوياتها كانت في خلفية أسباب الثورة، حيث تميزت بغياب المؤسسات الوطنية الكفؤة، وتركّزت كل السلطة في يدي رأس النظام، يمارسها من خلال أجهزة الأمن المتعددة، التي تتمتع بحرية مطلقة في التعامل مع السوريين. فلقد أسس النظام منظومة ولاء السوريين على آليات الفساد، التي تدار من قبل الأجهزة الأمنية ” أفسِد من لم يفسُد بعد “، إضافة إلى آليات التفكيك المجتمعي، من خلال توظيف البنى ما قبل الوطنية لديمومة السلطة، أي الفتنة الأهلية الدائمة بين مكوّنات الشعب السوري، باستخدام نظام الأعيان وقضاء الحاجات، والشراكة بين مافيات النظام والأعيان المتنفذين من مختلف العشائر والطوائف.
كما أسس أداءه السلطوي على أحادية السلطة ممثلة برأس النظام، واشتراط الطاعة العمياء لكل أوامره، وتوزيع المغانم والامتيازات على الموالين تبعاً لمدى ولائهم للحاكم الفرد. وفي سياق هذا التأسيس للدولة الأمنية التسلطية أنتج النظام مجتمعه الجماهيري، مستنداً إلى إرهاب أجهزة الأمن والإعلام الموجَّه، بعد احتكاره للسلطة والثروة والوطنية. بحيث أضحت الدولة ميداناً للأوامر بدل القوانين الناظمة لسلوك الحكام والمحكومين، والعطايا محل الحقوق والواجبات، والولاء محل الكفاءة.
وهكذا، قامت الثورة السورية بفعل عوامل داخلية أساساً، إذ للحالة السورية الراهنة أسبابها العميقة: تفاقم غير مسبوق للفقر والبطالة وفشل السياسات التنموية والخدمات، ونظام الامتيازات الاجتماعية والفساد الإكراهي الذي تديره الأجهزة الأمنية بصورة خاصة. وهناك تعديات شاملة على حقوق المواطنين المدنية والسياسية أصبحت بمرتبة نظام عام شامل، وهناك سلب للحقوق يطال الكرامة الإنسانية نتيجة لنظام الدولة الأمنية وغياب الحد الأدنى من الحريات ومؤسسات الرقابة النزيهة ومرجعية القانون والعدالة، بل وصل الأمر بالسوريين إلى حدِّ المجاعة في السنوات الأخيرة.