الأسد على الحافة: موعد قصاص قيصر وغضب الموالاة واقتصاد منهار فأين المفر؟

إبراهيم درويش

مع وصول “قيصر” إلى سورية وبالتبعية إلى لبنان، رد الاقتصاد في البلدين على قرب سريان مفعوله بفقدان الليرة السورية نسبة 60 في المئة من قيمتها بشكل يفتح المجال إلى تضخم مفرط ومعاناة للسوريين الذين يعانون منذ تسعة أعوام حربا أهلية قتلت أكثر من 700.000 شخصا وشردت 12 مليون نسمة من سكان سوريا البالغ عددهم قبل الحرب حوالي 23 مليون نسمة.

وأصبح “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين” الذي أقره الكونغرس الأمريكي عام 2019 وأدمج في قانون إقرار الدفاع الوطني عام 2020 جزءا لا يتجزأ منها ولن يكون قابلا للمراجعة. وجاء اسمه من شخص مجهول رمز إليه بـ “قيصر” وهو مصور عسكري في السجون السورية استطاع تهريب صور لتعذيب وجثث سجناء في أقبية السجون السورية ما بين 2011-2014 إلى خارج سوريا، يقترب عددها من 50.000 صورة وتم عرض بعضها في متحف الهولوكوست التذكاري في واشنطن والأمم المتحدة.

وعلى خلاف العقوبات الأخرى التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الماضي والتي استهدفت أفرادا وكيانات في نظام بشار الأسد أو داعميه داخل البلاد، فإن قانون قيصر يستهدف بالإضافة للأفراد والكيانات التابعة للنظام، صناعات البنى التحتية والطاقة وشبكات وكيلة تابعة لروسيا وإيران، وهما الطرفان الداعمان اللذان عملا على بقاء الأسد في السلطة طوال سنين الحرب الأهلية الدموية. ووسعت صلاحيات القانون لتشمل العواصم القريبة من سوريا ودول الخليج والدول الأوروبية وغيرها ممن احتفظت بعلاقات تجارية مع نظام الأسد، فهو يعاقب الهيئات والشركات التي ستقوم بالتعامل تجاريا مع الأسد. ومن يخرق القانون فستكون أمواله عرضة للتجميد وحظر السفر بل والاعتقال، بعبارة أخرى خنق النظام وقطع الموارد عنه تحت ذريعة إجباره على الدخول في مفاوضات حقيقية وبعدها يتم النظر في العقوبات ورفعها.

ومن المعروف أن فرض العقوبات على الدول أسهل من رفعها، وتعلمت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن أفضل طريقة للحصول على أوراق نفوذ ضد أعدائها هي فرض العقوبات على كل من لا يخضع لها. ويمكن النظر إلى تطبيق “قانون قيصر” في 17 حزيران/يونيو على أنه مواصلة لحرب الولايات المتحدة ضد نظام الجمهورية الإسلامية وسياسة الضغط الأقصى التي يرعاها صقور الإدارة خاصة وزير خارجيته مايك بومبيو. ويأمل الداعون لقلب النظام الإيراني الراعي الأكبر لنظام بشار الأسد باستخدام ما تبقى لهم من أشهر في الإدارة قبل انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني/نوفمبر لتدفيع طهران الثمن وتفكيك النظام السوري.

تذمر في السويداء

مع أن العقوبات لا تصيب إلا الناس العاديين والذين ستزداد معاناتهم أكثر، فقد بدت إشارات التذمر والغضب في التظاهرات التي اندلعت في معاقل النظام التقليدية، فقد شهدت محافظة السويداء تظاهرات غاضبة لعن فيها المتظاهرون بشار الأسد وهتفوا بشعارات الثورة “الشعب يريد إسقاط النظام” و “ارحل ارحل يا بشار” وقالوا إن سوريا هي لهم وليست لعائلة الأسد. ونفس المتظاهرون في السويداء عن مخاوفهم وحالتهم الاقتصادية. وفي شهادات نقلتها صحيفة “وول ستريت جورنال” (12/6/2020) وقالت إن الاحتجاجات كسرت “محرم” عدم انتقاد النظام في معاقله. ورد المتظاهرون المؤيدون للنظام باحتجاجات أخرى حملوا فيها الولايات المتحدة المسؤولية. ونقلت الصحيفة عن ناشط في طرطوس قوله “قيمة راتبي الشهري هي بطيخة”. بل وأصبحت طبخة “المجدرة” المكونة من العدس والأرز مكلفة للكثير من السكان. وقال ناشط في حزب الشباب الوطني “هناك حصار على سوريا وبقانون قيصر ستزيد الأمور سوءا”. واضطرت الكثير من المحلات التجارية إغلاق أبوابها بسبب تراجع العملة لحين تحسن قيمتها. ونقلت صحيفة “الغارديان” (12/6/2020) عن فؤاد شبانة من مدينة تدمر قوله “المسألة ليست في توفر المواد” ولكن “لا أحد يمكنه شراء أي شيء، فكل راتبي الشهري يوفر لي كيلو لحم. وهو يعادل 14 دولارا”. وتقول إلزابيث تسكورف من معهد أبحاث السياسة الخارجية: “ترتفع أسعار المواد في سوريا بما فيها المنتج محليا مع مستوى سعر الفائدة”. وقالت إن “التضخم يتسارع بدرجة تكون فيه أسعار البضاعة أقل في الصباح منها في المساء”. مشيرة إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 50 في المئة وهو ما يضع سوريا في نادي الدول التي عانت من تضخم مفرط.

الليرة التركية

وفي شمال-غرب سوريا التي يتلقى الموظفون العاملون فيها رواتبهم بالليرة التركية تفكر السلطات هناك بالتحول عن الليرة الوطنية واستخدام العملة التركية، خاصة أن مناطق في حلب وتلك القريبة من الحدود التركية خاضعة للسيطرة التركية أو الجماعات الوكيلة عنها بالإضافة لإدلب التي يعيش فيها 3 ملايين نسمة، مما يعني فصل ثلث سكان سوريا عن الليرة، في ضربة قوية لاقتصاد يتراجع بشكل سريع.

لبنان

ويرى المراقبون أن تدهور الاقتصاد مرتبط بالأحداث في لبنان التي انهار فيها النظام المصرفي. وكانت المصارف هي المكان الآمن للأرصدة السورية التي مكنت النظام من شراء المواد الأساسية، إلا أن الظروف الاقتصادية وتداعيات فيروس كورونا على الاقتصاد في البلدين فاقمت من معاناة سكان البلدين وأخرجت اللبنانيين إلى الشوارع رغم قيود الحركة لمنع انتشار كورونا. وتعيش دول المنطقة أزمات متعددة من الحروب والفساد وسوء الإدارة وعدم الاستقرار وأخيرا وباء فيروس كورونا الذي قالت مجلة “إيكونوميست” (11/6/2020) إنه عاد في موجة ثانية سواء في السعودية وإيران وإسرائيل ولبنان. وتكشف الاحتجاجات السورية عمق الغضب على الحكومة السورية التي فشلت في تخفيف المعاناة الاقتصادية على المواطنين. وأجبرت الأوضاع المعيشية والغضب العام في قواعد النظام الأسد على عزل رئيس الوزراء عماد خميس الذي حمل في آخر ظهور له في مجلس الشعب السوري الولايات المتحدة والعقوبات التي فرضتها على سوريا. وحاول الأسد الحصول على أموال لدعم اقتصاده المترنح عبر ملاحقة الأثرياء الذي تربحوا من الحرب الأهلية، وتابع السوريون خلال الفترة الماضية مسلسلا دراميا كشف عن الخلافات في داخل عائلة الأسد وشكوى رجل الأعمال رامي مخلوف الذي دعم النظام خلال فترة الحرب الأهلية إلا أن الرئيس وهو ابن خالته بات يطالبه بالمزيد. وتم اعتقال عدد من موظفيه خاصة في شركته الكبرى سيرياتل، ولم يشفع له تمويله للحرب ولا توفيره المكالمات الهاتفية المجانية للقوات السورية أو أجهزة الأمن. فالأسد المحاصر لا يمكنه الطلب من روسيا الدعم ولا من إيران التي تئن تحت كاهل العقوبات الاقتصادية التي طالت كل مفصل من مفاصل الدولة وحتى المصدر الرئيسي للمال وهو النفط، أضف إلى هذا أن إيران كانت البؤرة الرئيسية لفيروس كورونا لوقت طويل ولا يزال الفيروس يحصد أرواحا من المدنيين الإيرانيين وعلى قاعدة يومية. وفي سوريا تحذر المنظمات الإنسانية من مجاعة قادمة خاصة أن 85 في المئة من سكان سوريا يصنفون فقراء. وقالت إن العقوبات عادة ما تصيب الناس العاديين ولا تحقق هدفها المنشود. وقدر برنامج الغذاء العالمي في نيسان/إبريل أن نسبة السوريين الذي باتوا يفتقدون الأمن الغذائي ارتفعت بنسبة 22 في المئة خلال العام الماضي، أي 7.9 مليون سوري باتوا يتناولون وجبتين في اليوم بدلا من ثلاث وجبات.

ساحة بالوكالة

وتبدو سوريا التي دمرت مدنها وأنهك اقتصادها غير قادرة على تلقي صدمة جديدة، ستترك آثارا بعيدة المدى لا على مستقبل النظام ولكن على السكان والمنطقة بشكل عام، كما تقول صحيفة “الغارديان” (12/6/2020). فالقانون كما تشير هو جزء من الحرب الأمريكية على إيران ووكلائها في المنطقة، وبدلا من استخدام الذريعة السياسية ها هي تعطي الحرب صبغة قانونية في محاولة لسحق طرفين رئيسين داعمين للنظام وهما إيران وحزب الله. ولكن الإستراتيجية الأمريكية أدت إلى سلسلة من الأزمات بالمنطقة حيث يواجه لبنان حالة من الانفجار الاقتصادي واضطرابات مدنية. أما العراق فيعيش ظروفا اقتصادية صعبة بسبب قلة الموارد المالية الناجمة عن انخفاض أسعار الطاقة. وقال وزير لبناني “في تعجلهم للإطاحة ببشار وخامنئي نسي (الأمريكيون) أصدقاءهم” و “جعلهم الهوس الأيديولوجي غير مبالين لمعاناة الناس الحقيقيين”. وقال مصرفي لبناني “هذه كارثة على الحكومة” اللبنانية. و”سيفرضون عقوبات على المصارف والتجار اللبنانيين. وهبطت العملة في بلدنا مثل عملتهم، وواحد من الأماكن الني نستطيع التعامل تجاريا معها هي دمشق ولو أغلق هذا فقد انتهينا”. وبدا الربط واضحا بين الأزمتين اللبنانية والسورية في أذهان المسؤولين الأمريكيين الذين برروا استخدام نفس النهج ضدهما. وزعم المبعوث الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري أن خسارة العملة السورية قيمتها جاء بسبب التحركات الأمريكية. وقال “يثبت انهيار العملة السورية أن روسيا وإيران لا تستطيعان الحفاظ على نظام الأسد الذي لم يعد قادرا على إدارة سياسة اقتصادية فاعلة أو تبييض الأموال في المصارف اللبنانية”. ويقول جوليان بارنز-ديسي مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن الأسد هو العامل الأول في الدمار الذي تشهده سوريا إلا أن الموقف الأمريكي قائم الآن على سياسة لعبة الأمم وضرورة منع روسيا وإيران الفوز في الحرب. و “ما أخشاه ان يقود قانون قيصر إلى عكس الأهداف التي شرع من أجلها، أي تغذية النزاعات السيئة للنظام ولنزاع واسع. فالهدف الأمريكي المعلن من سياسة الضغط الأقصى هو تركيع النظام وإجبار داعميه للاعتراف بالهزيمة، لكن النظام يعرف كيف يتمسك بالسلطة وكذا من يدعمونه”. وقال إن الشعب السوري عانى ولوقت طويل وتم تدمير البلاد بسبب النزاع حيث ننظر الآن إلى الحافة ومرحلة خطيرة من النزاع والذي سيحمل معه دمارا جديدا.

لم ينتصر إذا

ويبدو أن الأسد يدفع استحقاقات قراره مواجهة الثورة السلمية بالسلاح، فهو وإن “انتصر” لكنه يقف اليوم على ركام المدن المحطمة وهيكل من دولة كان اسمها سوريا، تسخر إسرائيل كل يوم من سيادتها بالغارات المستمرة ضد ما تقول إنها أهداف إيرانية. ولم يعد قادرا حتى على التحكم بالمناطق التي استعادها مثل محافظة درعا “مهد الثورة” في الجنوب التي شهدت في الفترة الأخيرة عودة مسلحة. أما بادية الشام فقد أعاد تنظيم “الدولة” المهزوم نفسه. ويبدو أن هوس الأسد في استعادة السيطرة على إدلب جعله يتعامى على مشاكل مناطقه الاقتصادية. ويرى تشارلس ليستر من معهد الشرق الأوسط في مقال بمجلة “بوليتيكو” (11/6/2020) أن الورطة التي يعيشها الأسد تعطي الولايات المتحدة ورقة نفوذ للعب دور إيجابي بحل الأزمة. مع أنه يستبعد هذا في ظل إدارة ترامب القائمة على النزوات. وأشار إلى أن معظم أسباب الثورة عام 2011 لا تزال قائمة وعميقة إن لم تكن أسوأ، فلا انتصار للأسد بهذا المعنى. وبالتأكيد فالحياة في سوريا عام 2020 تعتبر أسوأ من الظروف الأسوأ التي مرت على البلاد في الفترة ما بين 2014-2015. وقام الأسد من خلال التمسك بالسلطة بتدمير بلاده واقتصادها. وتحدث ليستر عن ثلاثة سيناريوهات تتراوح من العزلة على طريقة كوريا الشمالية إلى التحلل بطريقة تمس الأزمة كل مفصل من مفاصل الحياة السورية ولا يمكن لأحد تخيلها، مما يفتح المجال لبؤس جديد ومجاعات وجرائم. أما السيناريو الثالث، فهو حدوث تغيير في قمة الهرم الحاكم، وهو ما اقترحه عدد من الموالين القدامى للنظام. ومن الصعب التكهن بحيوية أي من هذه السيناريوهات، ولكن هناك سيناريو آخر يمكن للولايات المتحدة أن تديره بالتعاون مع الأوروبيين وشركائها في الشرق الأوسط. أي الضغط على رعاة النظام والتوصل لتسوية. ورغم ما تعرض له النفوذ الأمريكي في سوريا فأمريكا لا تزال مهمة هناك والعالم ويمكنها والحالة هذه تشكيل نتيجة أي تسوية. وفي الحقيقة يوفر ضعف الأسد الحالي فرصة. ويرى أن سوريا مهمة للمصالح الأمريكية والشرق الأوسط وما بعد. فقائمة الآثار التي تركها النزاع السوري على مسار العالم خلال العقد الماضي متعددة: موجات اللجوء من سوريا إلى أوروبا التي ساعدت بزيادة الشعبوية في السياسة الأوروبية. وكذا صعود تنظيم “الدولة” المفاجئ ورد المجتمع الدولي. ولا نبالغ بالقول إن انتخاب ترامب عام 2016 قد أسهم بالفوضى في سوريا. وعادت روسيا بتحد إلى الشرق الأوسط. وحققت طهران من داخل الفوضى السورية حلمها بإنشاء ممر بري يبدأ من إيران وينتهي بلبنان.

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى