استفادت الولايات المتحدة من هيمنة الدولار على الأسواق العالمية لعقود. وينبغي على واشنطن أن تكون حذرة إزاء تبديد هذه الفوائد من خلال الاقتتال السياسي الداخلي والصنع المتهور للسياسات.
* * *
امتياز مفرط
سيطر الدولار الأميركي على الأسواق المالية العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويتم الاحتفاظ بما يقرب من 60 في المائة من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية بالدولار ويأتي اليورو في المرتبة الثانية بنحو 20 في المائة. ويتم إصدار الفواتير لحوالي 90 في المائة من المعاملات في أسواق الصرف الأجنبي بالدولار، وكذلك حال نصف التجارة الدولية. ومما يعزز مكانة الدولار وضعه كعملة ملاذ آمن في أوقات الأزمات. وعلى سبيل المثال، خلال فترة الركود الكبير في العام 2008 والأزمة المالية الناجمة عن “كوفيد” في العام 2020، سعى المستثمرون إلى امتلاك الدولارات الأميركية، متوقعين أنها ستحتفظ بقيمتها خلال الأزمات.
تجني حكومة الولايات المتحدة واقتصادها ومواطنوها فوائد ضخمة من “الامتياز المفرط” للدولار، كما وصفه وزير مالية فرنسي سابق، في الأسواق المالية العالمية. وبسبب الطلب العالمي القوي على الدولار الأميركي والأوراق المالية المدعومة بالدولار مثل سندات الخزانة الأميركية، يمكن للولايات المتحدة الاقتراض بأسعار فائدة أقل بكثير من البلدان الأخرى. كما أن الحكومة والشركات الأميركية قادرة على الاقتراض من الدائنين الأجانب بالدولار بدلاً من العملات الأجنبية، وبالتالي فإن قيمة الدين لا تتغير مع التقلبات في أسعار الصرف. كما أن ارتفاع الطلب على الدولار يعزز قيمته مقابل العملات الأخرى، مما يؤدي إلى منتجات أرخص للمستهلكين الأميركيين -على الرغم من أنه على الجانب الآخر، يجعل الصادرات الأميركية أقل قدرة على المنافسة. كما أن الهيمنة العالمية للدولار الأميركي تمنح حكومة الولايات المتحدة القدرة على فرض عقوبات بعيدة المدى وكبيرة الفعالية على خصومها، مما يوفر أداة قوية للسياسة الخارجية. ومع ذلك، وعلى الرغم من هيمنته المستمرة، تبدو التحديات المحلية والدولية للدولار الأميركي آخذة في التصاعُد.
التحديات الداخلية
من المفارقات التي تعود جزئيًا إلى أن تكاليف الاقتراض المنخفضة للغاية، أن كمية عالية بشكل مذهل من الديون تراكمت على الولايات المتحدة، ووصلت إلى 32.11 تريليون دولار، وهو واقع غير قابل للاستدامة على المدى الطويل ويمكن أن يقوض الثقة في الدولار الأميركي. ومن الناحية السياسية، من الصعب على القادة معالجة قضية الديون المتصاعدة. وعلى الرغم من أن الجمهور الأميركي يؤيد خفض الديون والإنفاق، إلا أن الخطوات التي تم تحديدها للقيام بذلك -مثل الزيادات الضريبية وإصلاح برامج الاستحقاق مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية- لا تحظى بالشعبية، خاصة بين الأميركيين الأكبر سنًا.
يشكل السقف، أو الحد الأقصى لمبلغ الدين الذي يمكن للولايات المتحدة الاحتفاظ به قانونًا تهديدً أكثر إلحاحا. وتضع هذه الآلية التي تكاد تكون غير عادية حدًا -ليس للإنفاق الفعلي، وإنما بالأحرى لقدرة وزارة الخزانة على الاقتراض لسداد الديون المستحقة عليها مُسبقًا، التي لا يمكن رفعها من دون الحصول على تفويض من الكونغرس. والولايات المتحدة واحدة من الدول القليلة في العالم التي لديها مثل هذا السقف للديون. ومن شأن اختراق هذا السقف أن يؤدي إلى التخلف عن السداد. ولهذا السبب، منذ تأسيسه لأول مرة في فترة الحرب العالمية الأولى رفع الكونغرس سقف الديون عشرات المرات. ومع ذلك، وكما اتضح مرة أخرى في الآونة الأخيرة، جعل الاستقطاب السياسي المتزايد التخلف عن السداد احتمالا حقيقيا. وكلما حان الوقت لرفع سقف الديون كل بضع سنوات، يبدأ أحد الطرفين -أو كلاهما- بممارسة لعبة حافة الهاوية السياسية لانتزاع تنازلات من الجانب الآخر. وسيكون التخلف عن السداد كارثيًا ويمكن أن يقوض بشدة الثقة في الدولار الأميركي ووضعه كملاذ آمن.
عندئذٍ سيتم تخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة بشكل كبير، وبالتالي إنهاء الامتياز المفرط للدولار. وحتى الاقتراب من هذا الاحتمال يمكن أن يكون له عواقب. في العام 2011، خفض مؤشر “ستاندرد آند بورز” التصنيف الائتماني للولايات المتحدة عندما كانت على بعد يومين من الوصول إلى سقف الديون. وفي الآونة الأخيرة، فعلت “وكالة فيتش” للتصنيف الائتماني الشيء نفسه، على الرغم من اتفاق اللحظة الأخيرة الذي تم التوصل إليه بين الرئيس جو بايدن ورئيس مجلس النواب كيفن مكارثي لتجنب التخلف عن السداد. ولا يساعد حد الدين حتى في معالجة ارتفاع الديون، كما يتضح من النمو المستمر للدَّين الوطني على الرغم من العديد من المواجهات حول سقف الديون في السنوات الأخيرة.
التحديات الدولية
تمنح الهيمنة العالمية للدولار الحكومة الأميركية سلطة فرض عقوبات معوقة وإطلاق أشكال أخرى من الحرب المالية ضد الخصوم. وقد تم استخدام هذه السلطة بوتيرة متزايدة منذ 9/11. وفي العام 2022، كان أكثر من اثني عشر ألف كيان تحت عقوبات وزارة الخزانة الأميركية، بزيادة تزيد عن اثني عشر ضعفًا منذ مطلع القرن الجديد. ولم يكن للعقوبات الأميركية أفضل سجل ممكن في تغيير سلوكيات الأنظمة، لكنها تضمن فعليًا أن يدفع الخصوم المستهدفون ثمنًا كبيرًا لمواصلة الانخراط في أعمال تعارضها الولايات المتحدة. وفي كثير من الأحيان، يكون استخدام العقوبات غير مثير للجدل، كما في حالة العقوبات المفروضة على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا.
ومع ذلك، إذا تم استخدامها بشكل مفرط، فإنها يمكن أن تجعل البلدان، بما في ذلك الحليفة، ترغب في الابتعاد عن النظام المالي القائم على الدولار. وعلى سبيل المثال، عارضت الدول الأوروبية انسحاب الولايات المتحدة من جانب واحد من الاتفاق النووي الإيراني. ومع ذلك، وبسبب العقوبات الثانوية التي كانت جزءًا من حملة “الضغط الأقصى” التي مارستها أميركا على إيران، اضطرت هذه الدول إلى قطع تجارتها مع طهران. وقد جعلها ذلك تفكر في تطوير بديل لأنظمة “سويفت” والأنظمة الأخرى القائمة على الدولار. وفي حين أن هذا الاقتراح لم يذهب إلى أي مكان، فإنه إذا كان حتى حلفاء الولايات المتحدة قد فكروا في بدائل للنظام القائم على الدولار، فليس من المستغرب أن يعكف الخصوم، مثل روسيا والصين، على محاولة تقويض هيمنة الدولار.
بالإضافة إلى ذلك، ونظرًا لوضع الاحتياطي العالمي للدولار، فإن تأثيرات السياسات النقدية للاحتياطي الفيدرالي لا تقتصر على حدود الولايات المتحدة. على سبيل المثال، عندما رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم خلال العام الماضي أدى ذلك إلى انخفاض المعروض النقدي، ودفع المستثمرين إلى نقل الأموال من البلدان النامية إلى “الملاذ الآمن” الذي توفره سندات الخزانة الأميركية، مما أدى إلى حدوث تدفقات رأسمالية هائلة إلى الخارج. ويؤدي هذا التدفق أيضًا إلى ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل العملات الأخرى، وزيادة الديون المقومة بالدولار التي تحتفظ بها البلدان النامية. ومن غير المستغرب أن يؤثر هذا الواقع بشكل أكبر على البلدان المثقلة بالديون. كانت أزمة ديون أميركا اللاتينية في ثمانينيات القرن العشرين ناجمة في جزء منها عن رفع أسعار الفائدة الكبير الذي أقدم عليه بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي للسيطرة على التضخم. وفي حين أنه قد لا يُتوقع من بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يأخذ ذلك في الاعتبار عند اتخاذ إجراء لمكافحة التضخم، فإنه يظل من الضروري ملاحظة أن الأسواق الناشئة تستطيع تنويع حيازاتها الاحتياطية إلى محفظة أكثر تعددًا للعملات للحصول على مزيد من الاستقلالية في سياساتها النقدية والمالية.
تحرُّك بعيدًا عن الدولار؟
بالنظر إلى العوامل المحلية والدولية الموضحة أعلاه، تبدو الشهية الدولية للتنويع بالخروج من نظام الاحتياطي العالمي القائم على الدولار مرتفعة. فهل أدت هذه العوامل إلى انخفاض قوة الدولار؟ من غير المستغرب أن تكون روسيا قد أُجبِرت على التخلي عن الدولار في الوقت الذي تتطلع فيه إلى التهرب من العقوبات الغربية. لكن الصين، التي ضغطت منذ فترة طويلة من أجل تدويل عملتها، هي الدولة التي تقف في طليعة الجهود الرامية إلى إضعاف قوة الدولار. وقد وسعت الصين مؤخرًا اتفاقية مبادلة العملة مع الأرجنتين. كما توصلت الصين مؤخرًا إلى اتفاق مع البرازيل، التي يبلغ حجم تجارتها السنوية معها 150 مليار دولار، للتداول بعملاتهما الخاصة بدلاً من الدولار الأميركي. وإذا أخذنا هذا بشكل معزول، فإنه قد لا يبدو شيئًا كبيرًا، لكن الصين تسعى إلى التوصل إلى اتفاقيات مماثلة مع دول أخرى. وإذا نجحت هذه الدول، فسيشكل ذلك تحديا للدولار الأميركي باعتباره العملة التجارية الافتراضية في العالم بالنظر إلى هيمنة الصين على تجارة السلع العالمية. وقد شهدت الاحتياطيات العالمية تحركًا تدريجيًا بعيدًا عن الدولار الأميركي أيضًا. وبلغت حصة الدولار من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية أقل بقليل من 60 في المائة في الربع الأخير من العام 2022، انخفاضًا من أكثر من 70 في المائة في العام 1999. وخفضت الصين، أكبر حائز على سندات الخزانة الأميركية في الخارج، حيازاتها من الدولارات مع تدهور علاقاتها مع الولايات المتحدة، وأصبحت حيازاتها الحالية من هذه السندات في أدنى مستوى لها منذ أيار (مايو) 2009.
على الرغم من كل هذا، من المهم أن نتذكر أن الدولار الأميركي ما يزال مهيمنًا على احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، على الأغلب بسبب عدم وجود بديل واضح. وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الصين، فإن الرنمينبي لا يمثل سوى 2.7 في المائة من الاحتياطيات العالمية. ونظرًا لضوابط رأس المال الصارمة ومحدودية قابلية التحويل إلى عملات أخرى، ما يزال تعرض هيمنة الدولار إلى تحد كامل غير مرجح. ومع ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تكون مدركة للتحديات المحلية والدولية لوضع الدولار الأميركي، وأن تعمل على تهدئة الشكوك دوليًا لكي يتمكن الدولار من الاحتفاظ بمكانته -حتى لو ظهر له بديل موثوق.
يمكن أن تشمل هذه الخطوات معالجة الدّين العام للولايات المتحدة، بالإضافة إلى إلغاء سقف الديون أو ربطه بتفويض الكونغرس للإنفاق لتعزيز المناقشات بحسن نية حول زيادة الإنفاق أو خفضه من دون المخاطرة بالتخلف عن السداد. ويجب على الولايات المتحدة أيضًا استخدام العقوبات بشكل أكثر حكمة. في المجمل، تشكل العقوبات أداة أساسية لصناعة الحكم الاقتصادي الأميركية، وغالبًا ما يكون استخدامها مبررًا، ولكن لا ينبغي استخدامها بشكل مفرط.
لقد بقي الدولار قويًا لأكثر من سبعة عقود. وعلى الأقل، لا ينبغي أن يكون تراجعه، إذا حدث، ناجمًا عن أخطاء ترتكبها الولايات المتحدة نفسها.
*أوبامانيو لاهيري Upamanyu Lahiri: باحث مشارك في الاقتصاد الدولي في مجلس العلاقات الخارجية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Future of Dollar Hegemony. وكُتب لمبادرة “تجديد أميركا” التابعة لـ”مجلس العلاقات الخارجية” -وهو جهد تأسس على فكرة أنه لكي تنجح الولايات المتحدة، فيجب عليها تحصين الأسس السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأساسية لأمنها القومي ونفوذها الدولي. ويدرُس كُتّاب المبادرة العوامل التي تعزز قدرة الولايات المتحدة على الإبحار في عالم متطلِّب، تنافسي وخطير.
المصدر: الغد الأردنية/(مجلس العلاقات الخارجية)