مع نمو اقتصاد الصين على نحو مطرد خلال العقود الأخيرة، دافع مناصروه عن البلاد باعتبارها نقيضاً وترياقاً للاقتصاد والسياسة الليبراليين، وبدت هذه الحجة ذات صدقية مع نمو الصين بسرعة في ظل نظام استبدادي سياسياً وقائم على الدولة المركزية اقتصادياً.
وفي الوقت نفسه كانت الولايات المتحدة، منارة الديمقراطية الغربية تلك، تعاني التصلب الاقتصادي والسياسي، وأدى هذا التناقض بين النظامين الصيني والأميركي وبين أداءيهما المتباينين إلى تساؤلات تتعلق بفاعلية النموذج الغربي للأسواق الحرة والديمقراطية الليبرالية.
ربما، كما زعم بعض المراقبين بما في ذلك الخبير الاقتصادي كيو جين أخيراً، يمكن أن تكون المعجزة الاقتصادية الصينية دليلاً على قواعد أداء بديلة لتلك التي مكنت الغرب من النجاح، ومن وجهة النظر هذه نهضت الصين بفضل قوة الدولة المركزية وحكمة الكونفوشيوسية المقترنتين ببراعة بكفاءة القطاع الخاص.
وبما أن معدل النمو في الصين كان يبلغ في المتوسط تسعة في المئة سنوياً، أصبحت المكونات الأساس في الاقتصاد القياسي موضع شك، وربما كان تمويل السوق وسيادة القانون وحقوق الملكية غير ضرورية، ومن منظور الثقافة الصينية كانت اختراعات غير مرغوب فيها وذات نتائج عكسية.
تصبح هذه الحجج أقل صدقية خلال الآونة الأخيرة مع تباطؤ النمو الصيني وهرب رأس المال بحثاً عن ملاذات في الخارج، ففي أغسطس (آب) وحده بلغت تدفقات رأس المال إلى الخارج 49 مليار دولار، ويغادر الرأسماليون الصينيون البلاد أيضاً خوفاً على سلامتهم وأمن ممتلكاتهم، وفي هذه اللحظة التي تشهد أقصى قدر من الدولة المركزية في عهد الرئيس الصيني شي جينبينغ يتعثر نمو البلاد بشدة مما يكشف عن أثر الحكومة التدخلية على نحو متزايد.
وخلافاً للرأي السائد فقد حدثت المعجزة الاقتصادية في الصين لأن الحكومة تراجعت عن المجالات القيادية الرئيسة للتخطيط المركزي وتركت مجالاً لاقتصاد السوق، ذلك أن الدولة المركزية الاقتصادية ليست منقذ الاقتصاد الصيني بل هي تهديد وجودي له.
المرحلة الحالية
سعى كثير إلى استخدام الصين كإعلان يروج للدولة المركزية، لكن النجاح الاقتصادي للبلاد لم تكن له علاقة تذكر بها، فعلى رغم أن الكونفوشيوسية والدولة المركزية من السمات الدائمة للنظام الصيني، لم يبدأ النمو الاقتصادي الفائق إلا عام 1978 بعدما أطلق الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ برنامجاً للإصلاحات الاقتصادية، وكانت هذه الإصلاحات في نواح كثيرة تقليدية تماماً، مثل فتح السوق الصينية ببطء أمام العالم والسماح بقدر أكبر من ريادة الأعمال والحد من الضوابط السعرية الحكومية وخصخصة الصناعات المملوكة للدولة، وكان أثرها الجماعي هو الحد من قوة الدولة، وبدلاً من أن يكون نمو الصين شهادة على القوة المتنامية للدولة نسبة إلى السوق، كان العكس هو الصحيح.
يمكن ملاحظة ذلك من خلال درس المرحلة الأولى من النمو الصيني الكبير خلال ثمانينيات القرن الـ 20، فقد كان مدعوماً من قبل ريادة الأعمال الريفية الضيقة النطاق، وبنى عشرات الملايين من رواد الأعمال من ذوي الخلفيات المتواضعة مصانع أغرقت الصين بمنتجات استهلاكية معمرة ومواد بناء وأغذية وبضائع يتطلب تصنيعها يداً عاملة كثيفة، ولم تكن هذه المعجزة مدينة بشيء لحكمة الحزب الشيوعي الصيني كما اعترف دينغ عام 1987، فلقد أشاد بالاقتصاد الريفي باعتباره “أعظم نجاح لنا”، وأعلن أنه “نجاح لم نتوقعه بأي حال من الأحوال، وكانت [هذه الشركات] مثل قوة جديدة ظهرت للتو على نحو عفوي، ولا تستحق اللجنة المركزية [للحزب الشيوعي الصيني] أي فضل في ذلك”، فقد أيدت الدولة الصينية الانفجار العفوي التصاعدي لريادة الأعمال الريفية أو أهملته على نحو حميد، واستحقت القيادة الإصلاحية الفضل الكامل في عدم خنقه.
ومع ذلك لا ينبغي الخلط بين فضائل الإغفال وفضائل الفعل، فلقد انطلق الاقتصاد الصيني لأن الدولة تركته في حاله وليس لأنها تدخلت فيه، وتظهر مقارنة بين المناطق الصينية أيضاً أن الحال هي كذلك، فقد كانت المناطق التي كان أداؤها الاقتصادي أقوى منذ عام 1978، بما في ذلك غوانغدونغ وتشيجيانغ، الأكثر توجهاً نحو السوق، وشهدت أقل تدخل من الدولة، ومن ناحية أخرى فالمناطق التي تتدخل فيها الدولة أكثر من غيرها، كما الحال في الشمال الشرقي للصين، غارقة في الديون المرتفعة وتعاني انخفاض معدلات النمو.
السلامة والأمن
وترى النظرية الاقتصادية الكلاسيكية أن رواد الأعمال يحتاجون من أجل تهيئة الظروف المواتية للنمو الاقتصادي إلى حقوق ملكية قوية، ومع ذلك لم تمتلك الصين هذه الحقوق من قبل قط، وقد وغذى غيابها الأسطورة القائلة بأن الصين نمت بسبب التمويل والسياسة الصناعية القائمين على الدولة المركزية.
لكن دراسة للسجل التاريخي تكشف عيوب هذا الافتراض، ففي عام 1979 أطلقت الحكومة الصينية سراح الرأسماليين الذين سجنوا خلال الثورة الثقافية، ثم أعيدت إليهم ودائعهم المصرفية المصادرة وسنداتهم وذهبهم ومنازلهم الخاصة، وتظهر هذه المرحلة أن الصين لم يكن لديها قط دستور على غرار دستور الولايات المتحدة، لكنها ابتعدت من الشمولية الماوية في عهد دينغ، وبالتالي غرست شعوراً بالأمن والثقة بين رواد الأعمال الصينيين.
وفي عهد شي يتغير هذا، ويتعرض الرأسماليون الصينيون مرة أخرى إلى التهميش والمضايقة والاعتقال، وقد حدثت حال شديدة من حالات هذه المعاملة خلال يوليو (تموز) 2021، فحُكم على الملياردير الزراعي صن داو بالسجن 18 سنة، ظاهرياً لانتهاكه تنظيمات الأراضي، لكن في الواقع لصراحته.
تتحرك الصين إلى الوراء نحو الثورة الثقافية، وبعيداً من إصلاحات دينغ، وهو تطور لم يغب عن رواد الأعمال الصينيين، فهم يصبحون مترددين في الاستثمار ويحاولون نقل رؤوس أموالهم إلى الخارج، وبعيداً من جني مكافأة تدفع بكين ثمن افتقارها إلى سيادة القانون.
الجزيرة المحرّك
كثيراً ما كانت هونغ كونغ شذوذاً، ومن نهاية الحكم البريطاني عام 1997 إلى سن قانون الأمن القومي عام 2020، حافظت المدينة على حقوق الملكية والصحافة الحرة وسيادة القانون، وأنشأت كثيراً من شركات التكنولوجيا الفائقة الصينية، إدراكاً منها للرغبة في بيئة الأعمال هذه، مقار لها في هونغ كونغ، وكثيراً ما كان الإقليم أكبر مستثمر في الصين على رغم أن كثيراً من جهات الاستثمار الواردة من هونغ كونغ هي شركات صينية.
لقد أسست هذه الشركات نفسها في هونغ كونغ للحصول على حمايتها القانونية والتمتع بأمن الأصول، ثم زرعت رؤوس أموالها في الصين، وكان هذا النوع من الغسيل المؤسسي غامضاً من الناحية القانونية، لكن لأعوام عدة اختار القادة الإصلاحيون البراغماتيون النظر بعيداً مما سمح لرواد الأعمال الصينيين بالتمتع بسيادة القانون وتمويل السوق في هونغ كونغ أثناء بناء أعمالهم في الصين.
مولت سوق رأس المال المتقدمة في هونغ كونغ والوصول إلى رأس المال العالمي على نحو عام الجولات الأولى من شركات التكنولوجيا الفائقة الناشئة الصينية التي بدأت خلال تسعينيات القرن الـ 20، وقبل صعود صناعة رأس المال الاستثماري في الصين كانت هناك حاجة إلى رأس المال الأجنبي لتمويل “علي بابا” و”بايدو” و”تنسنت” وكثير من شركات التكنولوجيا الفائقة الناشئة الأخرى، وجاء كثير من الأموال من خلال هونغ كونغ، وكانت هذه قصة عولمة بامتياز نسبت إلى سياسة الباب المفتوح التي انتهجها الصين وإلى معرفة رأس المال الأجنبي وخبرته وإلى العمل الجاد والإبداع والرؤية لدى رواد الأعمال الصينيين.
كانت القوى التي خلقت اقتصاد التكنولوجيا الفائقة في الصين هي نفسها تلك المسؤولة عن المعجزة الريفية خلال ثمانينيات القرن الـ 20، وكانت ريادة الأعمال الصينية ذات التكنولوجيا الدنيا والفائقة ناتجة من التحرير – العولمة لقطاع التكنولوجيا الفائقة والإصلاحات المالية للقطاع الريفي، أما التمويل القائم على الدولة المركزية ونزع الحكم الذاتي لهونغ كونغ والتراجع عن العولمة، فخطوات لا يمكن إلا أن تقوض حيوية ريادة الأعمال الصينية ومحرك النمو في الصين.
أسطورة البنية التحتية
كانت الدولة المركزية مهمة في بناء البنية التحتية المثيرة للإعجاب في الصين لكن هناك حقيقة مزعجة، إذ انطلق الاقتصاد الصيني قبل فترة طويلة من التوسع الهائل في البنية التحتية في البلاد، فمثلاً حدث البناء الواسع النطاق للطرق السريعة الصينية خلال موجتين، واحدة في أواخر تسعينيات القرن الـ 20 والأخرى بعد عام 2008، وبعبارة أخرى بنَت الصين بنيتها التحتية بعد أكثر من عقدين من النمو السريع، ذلك أن النمو مكن الادخار ورفع الإيرادات الحكومية وكذلك قيم الأراضي ومول مشاريع الدولة، ولم تؤد الدولة المركزية إلى النمو بل أدى النمو إلى الدولة المركزية.
والبنية التحتية مفيدة للنمو لكن افتتان الصين بها يشكل تهديداً للآفاق الاقتصادية المستقبلية فلقد أدى البناء المستمر للطرق والسكك الحديد والموانئ إلى إغراق الصين في مديونية محفوفة بالأخطار، وبسبب هذا الافتتان اختارت بكين الاستثمار في البنية التحتية المادية على حساب التعليم والصحة في المناطق الريفية هناك، وكانت لترتيب الأولويات هذا بالفعل آثار ضارة، فمثلاً بررت الحال السيئة لنظام الرعاية الصحية الريفية البدائي في الصين جزئياً تدابير “كوفيد-19” الصارمة عام 2022 مما ألحق أضراراً جسيمة وربما دائمة بالاقتصاد الصيني.
كذلك لم تستثمر الصين بالقدر الكافي في رأسمالها البشري نسبة إلى حجم سكانها، فمن بين البلدان المتوسطة الدخل تمتلك الصين أدنى نسبة من خريجي المدارس الثانوية في قوتها العاملة، وفق بحث أجرته جامعة ستانفورد، وهناك احتمال متزايد بأن يدخل الاقتصاد الصيني في ركود مع توقف النمو، وإذا طال أمد هذا الأداء الاقتصادي الضعيف فستكون العلامة التجارية الصينية للدولة المركزية هي المسؤولة.
البراغماتية التي اختفت
ليس النجاح الصيني قصة من قصص رأسمالية عدم التدخل بل قصة من قصص التحرير التدريجي والبراغماتي، ولقد اختفت روح البراغماتية هذه إلى حد كبير في الصين، ومنذ عام 2013 تتبنى الحكومة الصينية وجهة نظر الدولة المركزية للنمو الاقتصادي، وفي الوقت نفسه يؤدي الهوس بمسائل الأمن القومي إلى استخدام الدولة كسلاح على حساب القطاع الخاص، وتخون بكين صيغة نجاحها وترفضها ويدفع الاقتصاد الثمن، وفي نهاية المطاف فإن الشعب الصيني هو الذي سيعاني طالما أن حكومته تخطئ في هذه القرارات الاقتصادية الأساس.
ياشنغ هوانغ أستاذ الاقتصاد العالمي والإدارة في كلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومؤلف كتاب “صعود الشرق وسقوطه: كيف جلبت الامتحانات والاستبداد والاستقرار والتكنولوجيا نجاح الصين؟ ولماذا قد تؤدي إلى انحدارها؟”
مترجم من فورين أفيرز، 25 سبتمبر 2023
المصدر: اندبندنت عربية