في ظل تعقيدات السياسات الدولية وتشابكها، وفي إطار التحولات العالمية، والمخاض لتبلور عالم يتحول تدريجيًا من نظام القطبية الأحادية إلى عالم متعدد الأقطاب، وظهور دول منافسة اقتصادياً وعسكرياً وتقنياً تطمح أن يكون لها حضور في السياسات الدولية، وعلى خلفية كل ذلك جاءت الحرب الأوكرانية لتفاقم الصراع الدولي كحرب عالمية على الأرض الأوكرانية في انقسام للعالم، تكثيفًا لصراع أخذ شكلاً جديدًا مختلفًا عن الحربين العالميتين السابقتين.
في إطار هذه الأجواء الدولية، جرت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية ، و أرخت بذيولها على المنافسة التي احتدمت فأحدثت اصطفافات حدية بين المعارضة المتمثلة بائتلاف ستة أحزاب متعارضة في رؤيتها واتجاهاتها اختارت ممثلها الرئاسي كليشدار أوغلو، وبين تٱلف حزب العدالة الحاكم وممثلها الرئاسي الرئيس أردوغان …
وبغض النظر عن عدم القبول بالاحتلال التركي للأراضي السورية وكافة الاحتلالات الأخرى ، فإن الانتخابات التركية قد أذهلت الجميع ، دولا كبرى وحكومات في العالم ، وكان ملفتاً هذا الزخم الكبير للناخبين ووقوفهم بطوابير طويلة للإدلاء بصوتهم لقناعتهم بأن صوتهم يشكل فارق في التصويت الذي قارب 90% من الناخبين مما لم يحدث في أعتى وأرقى الدول الديمقراطية في العالم .. كما كان ملفتأ أيضاً شفافية ومصداقية النتائج وعملية الضبط لعملية التصويت والسلاسة المتميزة في إدلاء الأتراك بصوتهم ، لتأتي النتائج بدون أية ملاحظات على العملية الانتخابية من اللجان التي تشرف عليها الأحزاب والكتل المتنافسة بشدة والمراقبين الدوليين على صناديق الانتخاب ..
ولأول مرة في تاريخ تركيا تأتي الانتخابات على جولتين لعدم تمكن أياً من مرشحي الرئاسة حيازة النسبة التي تؤهل للفوز- 51% – بدون الدخول للجولة الثانية …
وقد ظهر للعيان أن هذه الانتخابات والتنافس الحاد بين المرشحين كان يتحرك على وقع اصطفافين : تكتل حزب العدالة والتنمية وفق برنامح انتخابي ركز على أهمية التنمية والدفع بتطوير الصناعات التقنية والثقيلة والعسكرية والاستثمار الداخلي للطاقة ( غاز ، بترول .. ) ورفع مستوى الدخل القومي التركي في الداخل ، وأهمية استقلال تركيا بعيداً عن أية هيمنة ، ليكون لها حضور فاعل ومتوازن ومستقل في السياسة الدولية . بينما كان البرنامج الانتخابي للمعارضة يدعم التوجه نحو الغرب وربط الاقتصاد التركي به لتنشيط الاستثمارات الغربية بما يحقق رفعاً لمستوى الدخل الفردي ، والعمل على العودة إلى النظام البرلماني ، والقيام بترحيل المهاجرين السوريين إلى بلدهم فوراً أو بأقصى سرعة ممكنة .. وعلى خلفية هذا التنافس دخل المال الانتخابي الهائل في الدعاية الانتخابية ، ودخل الدعم الغربي بكافة قواه الإعلامية والمالية لدعم جهود المعارضة والضغط على أطرافها المختلفة أصلاً في تكوينها ورؤيتها وأهدافها ، وجمعها في تكتل واحد في مواجهة تكتل حزب العدالة والتنمية الحاكم .. وقد جر أيضاً هذا التنافس الانتخابي الحاد الى اصطفاف ” هوياتي ” على أساس الهويات الاثنية والمذهبية ، ظهر واضحاً من خلال الكتل التصويتية الكردية والعلوية التي انتخبت المرشح كليشدار والكتل السنية التي انتخبت أردوغان … طبعاً ما عدا استثناءات قليلة جدا تم استقطاب كلا المرشحين لناخبين عاكسوا الاصطفاف الرئيسي لاعتبارات عديدة منها ميل جزء مهم من الشباب التركي الذي بطبيعته في كل الدول يرغب بالتغيير ، ويرى أنه ” يكفي أردوغان ٢١ عاما ” ومن الأفضل أن يحكم تركيا رئيس جديد، وايضاً ميل جزء من قاعدة كليشدار إلى التصويت لأردوغان لقناعتهم بأن رئيسهم قد عودهم الوفاء بوعوده ، وأنه كان وراء نهضة تركيا وتقدمها ..
انتهت الانتخابات ، وبصعوبة كبيرة حصل الرئيس أردوغان في الجولة الثانية على نسبة 52 % رغم شخصيته الكارزمية ، ودوره المشهود له في الانتقال بتركيا إلى دولة إقليمية قوية باقتصادها وتطورها وحضورها في السياسة الدولية ..
انتهاء الانتخابات التركية لا يعني ابداً أن الاستقرار التركي أو الإشكالات في الداخل والخارج التركي قد انتهت ، فالتحديات التي تنتظر أردوغان بعد الانتخابات كثيرة ومعقدة وتنتظر حلولاً وخطاً جديداً في التعامل معها ، وأهم تلك التحديات :
١- الانتخابات أظهرت بوضوح وبشكل لافت انقسام المجتمع التركي على أساس الهوية القومية والمذهبية ، مما يشكل هذا الانقسام خطراً في المستقبل على الدولة التركية ، واستغلال القوى الخارجية في اللعب على خطوط هذا الانقسام ، وهذا الدخول الخارجي له سوابق عديدة وخاصة في عصر نهايات الدولة العثمانية ودور الدول الغربية في تحريك الصراعات الأقلوية لإنهاك السلطنة العثمانية تمهيداً لانهيارها ..
هذا التحدي يتطلب من الإدارة التركية الجديدة العمل بكثافة على وضع الحلول لمواجهة هذا الانقسام وعلى رأسها تعميم ثقافة المواطنة المتساوية في المجتمع التركي ، وتحويل المواطنة فعلياً من مجرد ثقافة إلى تنفيذ تطبيقي لها ، وهذا يتطلب النهوض الاجتماعي والاقتصادي في مناطق التجمعات الأقلوية ، وممارسة عدم التمييز في المناصب والمراكز الحكومية على أساس الكفاءة وتحمل المسؤولية وليس على أساس إشراك انتقائي بمثابة كرت ترضية لا أكثر …
٢- التحدي الاقتصادي المتمثل بتراجع النمو الاقتصادي وانخفاض قيمة الليرة التركية والارتفاع الكبير في أسعار السلع الاستهلاكية ، والخلل في معدلات الفائدة وانعكاساتها السلبية .. كل ذلك وغيره يشكل تحدياً أمام إدارة الرئيس أردوغان ..
ولا شك بأن أزمة وباء الكورونا والحرب الروسية الأوكرانية وما خلفت من أزمات اقتصادية على العالم ، ثم الزلزال الأخير في تركيا قد أنتجت تلك الأزمات بمجملها عبئا ثقيلاً على الاقتصاد التركي ..
ولمواجهة هذه التحديات من الإدارة التركية لابد من انتهاج سياسة اقتصادية جديدة لتجاوز ٱثار تلك الأزمات لإنعاش الاقتصاد ووضع الحلول للتضخم الاقتصادي ، تنفيذاً للوعود الانتخابية التي وعد بها الشعب التركي ..
وهذا يتطلب إيجاد سياسة متوازنة بين استثمارات الدولة وبين استثمارات القطاع الخاص وتدعيم الاستثمارات الخاصة بدعم القطاع الخاص عن طريق إنجاز عقود شراكة بين القطاع الخاص والعام ، ووضع الخطط العملية لاستيعاب الشباب فوق العشرين عاما في عجلة العمل وتهيئة الفرص لهم ، واتباع سياسة معادلة الأجور مع التضخم في أسعار المواد المستهلكة ، واستجرار الاستثمار الخارجي وترغيبه في الاستثمار بمجالات محددة تنعكس إيجابياً على الاقتصاد التركي بما لا يتجاوز على استقلال القرار الوطني ، ويأتي العمل على الاستثمار في الثروات الباطنية وخاصة في مجال الثروات المنتجة للطاقة كأحد الموارد المهمة لدعم الاقتصاد ونموه .
وقد تكون سياسة العودة الى ” صفر مشاكل ” مع الخارج وخاصة الاتجاه مؤخراً إلى الدول الخليجية وفتح باب الاستثمار أمامها خطوة في الاتجاه الصحيح ..
٣- التحدي الثالث هو التعويض لمتضرري الزلزال الأخير ، وفي التعامل الموضوعي مع اللاجئين السوريين والاوكرانيين وغيرهم …
التعويض لمتضرري الزلزال وفق إعلان البرنامج الانتخابي للحزب الحاكم خلال سنة واحدة يتطلب التحرك بسرعة لتوفير الموارد المالية الكافية لإنجاز مشروع الإعمار للمدن المتضررة سواء من الموارد الداخلية أو الخارجية عن طريق المنح الدولية لإنجاز هذا المشروع ، كما أن الإعلان عن عودة تدريجية ٱمنة للٱجئين يتطلب انتهاج سياسة تأخذ بالاعتبار تطبيق القرارات الدولية ، والمساهمة في إيجاد البيئة الٱمنة لعودتهم دون قسر أو دون زرعهم جبراً في المساحات المتاخمة لحدودها بما يشكل تغييراً ديموغرافيا سيشكل في المستقبل عامل عدم استقرار ، ونزاعات وصراعات من نوع جديد تضر بالنسيج الاجتماعي السوري ، وتضر أيضا بالدولة التركية ، وتستنزف قدراتها في استمرار عدم الاستقرار على حدودها ، ذلك لأن الحلول الجزئية أو الترقيعية لمشكلة اللاجئين في دول الجوار ودول الاغتراب لا يمكن أن تنجز حلا مستداماً ، ولا بد من إنجاز الحل الجذري الشامل للقضية السورية وفق القرارات الدولية وخاصة القرار ٢٢٥٤ ، وبدون ذلك فإن تدفق اللاجئين سيستمر دون توقف مرحلة بعد أخرى ..
٤- كما قلنا في بداية المقال بأن السياسة الدولية بوجود قوى منافسة من الصين الى دول البريكس .. أمام تحولات ومعادلات دولية واقليمية متغيرة وغير مستقرة .. هذه الوضعية الدولية تضع السياسة التركية أمام تحديات معقدة في تحديد أولويات سياستها ، بما يملي عليها استعادة هويتها كدولة بعد مخاض عسير بعد تأسيس الدولة التركية برعاية اتاتورك ، هذه الدولة وإن كانت اليوم تسعى لضبط إيقاعها بين الأطراف الدولية شرقها وغربها ، إلا أنها لا زالت تسبح في الفراغ بدون قواعد للهبوط الٱمن .
فهل تستطيع السياسة التركية بعد الانتخابات التحرك ضمن الهوامش المتاحة لتأكيد استقلالها واستقرارها السياسي ؟ وهل تستطيع الاستمرار في سياستها عبر التنقل والنفاذ بين تباينات الدول الكبرى ضمن أجواء التخبط والضبابية والغموض والاستقطاب ؟؟؟
ام هل ستذهب الإدارة التركية بعد الانتخابات إلى إحداث تغيير جوهري في سياستها الخارجية في إعادة لترتيب الأوراق أو خلطها تبعاً للضغوط الخارجية المستمرة التي تعمل جهدها على حصارها اقتصادياً والدفع بالصراعات الاقلوية تمهيداً لمخططات تقسيمها وتفتيت كيانها ..
قد يكون فوز حزب العدالة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية فرصة متاحة لرسم سياسة متوازنة خارج الصراعات الداخلية التي كانت محتملة قبل الفوز بالبرلمان والرئاسة وما كان يمكن أن تنتجه في حال عكس ذلك من عدم الاستقرار والاهتزاز سواء في اعتماد سياسة تنموية في الدولة أو في تبني سياسة مستقلة في مجالها الإقليمي الحيوي وفي معترك السياسة الدولية .
إن تناولنا لتجربة تركيا الانتخابية يأتي في سياق دراسة وبحث التجارب الديمقراطية الأخرى التي يفترض الاستفادة من نجاحاتها وإخفاقاتها والتحديات التي يجب التغلب عليها .. وفي سياق التجربة الديمقراطية التركية يجب التوقف عند مسألتين :
الأولى : الديمقراطية نظام وٱليات للحكم وإدارة للحياة السياسية والاجتماعية ، وهي تهيئ الأرضية المشروعة للتنافس السياسي .. لكنها ليست وسيلة لاستلام السلطة وتأكيدها او تأبيدها وانما في جوهرها ” وسيلة للتخلي عن السلطة ” أيضا بدون صراعات سياسية عنفية أو اضطرابات مجتمعية .. وهي تأكيد لتداول السلطة تنتج تبادلاً مستمرا تمكن المعارضة عبر الٱليات الديمقراطية من استلام السلطة ، وتفتح الباب أمام من نزعت السلطة منه ديمقراطياً وعبر صندوق الانتخاب ليعود بالٱليات الديمقراطية ذاتها لاستلام السلطة مرة أخرى .. أو تنهض قوى سياسية جديدة عبر برامجها لتستقطب جمهوراً أوسع وتحل محل القوى السياسية التي فشلت في تنفيذ برامجها التي وعدت بها جمهورها ، وهنا يجب الإشارة مادمنا نبحث في التجربة الانتخابية التركية الى أنه بالرغم من التنافس والصراع والاصطفاف الشديد جدا بين المعارضة والحزب الحاكم ، فإنه بمجرد إعلان نتائج الانتخابات وفوز أردوغان بولاية جديدة ، فإن المعارضة بسلوكها استقبلت النتائج بهدوء وبرد فعل حضاري .. اعترفت بهزيمتها وأخطائها ، وباركت نتائج الانتخابات للطرف الفائز فيها …
الثانية : التجربة التركية لم تكن تحولاً نحو الديمقراطية الشكلية ، ولكنها كانت تحولاً نحو التعددية السياسية وتجاوزاً للمؤسسة العسكرية التي كانت تقبض على الحياة السياسية من خلال دولتها العميقة والتي كانت تدعي بأنها حامي للعلمانية ، إذ لم يكن من السهل ابداً إخراج الجيش من الحياة السياسية وترسيخ حكم ديمقراطي مدني يمسك بزمام الأمور ، واعتبار مسالة عزل أو إبعاد الجيش عن التدخل في العملية السياسية الديمقراطية جزءاً أساسياً في التأسيس لنظام الحكم الديمقراطي في الدولة التركية .