
بعد عام على معركة ردع العدوان، مازال كثيرون يفسرون النجاح السريع والمبهر للمعركة بمنطق “المعجزة”. لا يقتصر منطق المعجزات هنا على المتدينين والتأييد الإلهي؛ بل يمتد أيضاً إلى التيارات غير المتدينة والتي تميل عند عجزها عن تفسير الحدث بأسبابه الواقعية إلى منطق “استلام وتسليم” أي إلى ترتيبات دولية خفية. الرابط هنا بين المنطقين هو تجاهل أو عجز إدراك الحراك الداخلي الذي طبع منطقة الشمال في السنوات الخمس السابقة على التحرير.
بعد حشر قوى الثورة في مناطق إدلب ومحيطها، سادت سردية سيطرة الجهاديين على تلك المناطق. ومصطلح الجهاديين هنا ذو حمولة معرفية منتشرة على المستوى الدولي تقوم على تعريف الجهاديين بمنطق الإسلاموفوبيا: مجموعة من العدميين الذين يتوقون لتحطيم العالم الديمقراطي والقيم الأخلاقية السامية. لا شك أن هذا التعريف ينطبق على داعش، ولكن لطالما نظر ساسة الغرب والتيارات العربية غير الإسلامية (يسارية وعلمانية وأقليات) إلى المسلمين على تنوعهم من منظار داعش، مصحوبة بتشجيع كثير من الأنظمة العربية. ثم عمدت القوى الدولية والإقليمية إلى قبول الوضع الذي تمثل في حشر المعارضين السنة لنظام الأسد في تلك المناطق (تمييزاً عن القوى الكوردية في الشمال الشرقي) ووسمها بالجهادية، ومن ثم إهمالها وتركها للزمن ومفاوضات القوى الإقليمية، طالما لم يتفجر الوضع وتمتد الحرائق إلى خارج الحدود السورية، وبذلك لم يكن توصيف إدلب بالجهادية توصيفاً معرفياً علمياً، بقدر ما هو وظيفة سياسية لتبرير تركها وحدها ونسيانها.
السردية الثانية التي انتشرت هي أن هزيمة الثورة كانت بسبب الأسلمة والعسكرة. ويقصد هنا بالأسلمة عند اليسار العربي كل نشاط إسلامي أو حركة ذات هوية إسلامية، في افتراض أن الطريق نحو النهضة له ممر واحد هو العلمانية. كما تم تجاهل العوامل الحتمية التي قادت إلى العسكرة. وتم النظر إلى كل حامل سلاح بأنه قد تلوثت يديه بالدماء وأضحى مدمن قتل بالضرورة، وليس وضعاً طارئاً يسمّى الدفاع عن النفس.وفيما إذا انتفت الأسباب بتوقف المقتلة، فإن كثير من الشباب سوف يعودون إلى حياتهم الطبيعية أو شبه الطبيعية إذا أخذنا في الاعتبار اضطرابات ما بعد الصدمة أو لنقل أحزان وغصّات ما بعد التحرير.
كل تلك العوامل أسهمت في توقف الزمن فيما يتعلق بمناطق إدلب عند بعض السوريين والمثقفين، ولم يلاحظوا التغييرات التي طبعت تلك المرحلة. فعلى مدار خمس سنوات قبل التحرير حصلت كثير من الصدامات والتطورات، وتبدلت موازين القوى والولاءات كان السبّاق فيها ليس الإسلاميين، بل تيار منهم يُسمّى هيئة تحرير الشام المحسوب على القاعدة. ولأنه كان محسوباً على القاعدة تم نبذه دولياً، وجانَبَه معظم الكتاب والناشطين السوريين، باستثناء بعض المحلّلين المختصّين. ومَن قارَبَه، فمِنْ منطق التحليل الغربي والذي يوسم الإسلامين ككيان عدمي مصمت، غير قادر على التفكير وممارسة السياسة، وإدارة الحكم والاقتصاد. فكانت العيون كلها على الحكومة السورية المؤقّتة الفاشلة، التي لم تستطع تقديم ولو نموذج حكم أولي مقبول، إلى درجة أنه حتى تركيا لم تستطع أخذها على محمل الجد، في حين كانت نواة حكومة الإنقاذ تنمو وتكبر وتسن التشريعات والقوانين، وتجد الحلول للأوضاع المتفجرة والعلاقات العائلية والفصائلية المتشابكة والمعقدة والتي تجذرت واستفحلت على مدار 10 سنوات من الاقتتال والفوضى. ثم بدأت تدير مؤسسات حكومية بموارد محدودة في بقعة جغرافية فقيرة بالموارد، ومستنزفة بالحصار والقصف اليومي. أي أنه وببساطة، في حين نظر العالم إلى إدلب كفوضى جهادية، كانت الأخيرة تبني نموذجها الوطني بصبر وصمت.
لعلّ أفضل ما حقّقته تلك الحكومة أنها استعادت مبدأ الدولة، فذاب كل من عمل فيها ومعها في مؤسساتها متباعداً عن العقلية العائلية والفصائلية، مما مكن هيئة تحرير الشام من بناء نواة جيش على أسس عسكرية ووطنية. ووفّر الموارد الضرورية لتدريبه وتزويده بالمعدات الضرورية، كما تمّ إنشاء كلية عسكرية وورشات تصنيع أشبه بمعامل الدفاع. كانت النتيجة ذلك الانضباط المذهل الذي رأيناه عند بدء المعركة، ولكن أيضاً بعد التطورات المفاجئة في حلب واتخاذ قرار تطوير المعركة إلى إسقاط دمشق، وانتشار الوحدات العسكرية في كافة الأراضي السورية، لم تفقد القيادة العسكرية السيطرة على جنودها.
في أثناء المعركة لم نشهد انفلاتاً على وسائل التواصل الاجتماعي، كما بعد المعركة وسقوط النظام، استطاعت قيادة “الجولاني” طرح خطاب وطني أطاعه كثير من الجنود المكلومين، الذي فقدوا أهلهم بالقتل والقصف والسجن، وتعرّض عدد من أفراد أسرهم للاغتصاب. هذا يدلّ على أن استراتيجية الحكومة الجديدة قد نجحت خلال السنوات الخمس في إذابة هؤلاء المقاتلين في بوتقتها، وحققت ما عجز عنه جميع الكيانات الأخرى السابقة من المجلس الوطني إلى الائتلاف وصولاً إلى الحكومة المؤقتة.
بعد سقوط النظام انتقل الجولاني إلى أحمد الشرع، وشرح استراتيجيته القادمة في جملته الشهيرة: “الانتقال من منطق الثورة إلى منطق الدولة”. وبالفعل أظهر فريق الشرع خبرة ونضجاً ووضوح في الرؤية لما بعد سقوط نظام الأسد، وأدار الملفات الداخلية المتفجرة والخارجية المعقدة والمتشابكة بكثير من الخبرة والبراغماتية؛ على سبيل المثال تجنب الصدام مع روسيا، وعدم الارتماء الكامل بالحضن التركي أو الخليجي. انزلق في مطبات أحداث الساحل والسويداء، ولكن الأمور لم تفلت من يده تماماً، ولم ينزلق نحو الفوضى، بل تعلّم الدرس سريعاً، ليتجنب تكرار الخطأ في ملف قسد ومتابعة ملف السويداء. كما أظهر حرفية كبيرة في تعامله مع العجرفة الأوروبية فيما يتعلق بإدارة ملف اللاجئين وترحيل المجرمين.
على الصعيد الاقتصادي وسواء وافقناه على تفاصيل الخطط الاقتصادية وخطواتها أم لا، ولكن أساسها كان رفع العقوبات وتحرير الاقتصاد من تشوهات المرحلة الاشتراكية والأسدية ذات الجذور الضاربة في الاقتصاد والمجتمع والمؤسسات والهياكل الحكومية والتشريعية. وقد نجحوا في كثير منها.
عَبَرت الحكومة السورية الجديدة لحظة سقوط الأسد ومحاولته إسقاط سوريا معه كما حدث في ليبيا واليمن وغيرها بأقل الخسائر، وتجنبّت مذابح وحرب شاملة. لا شك أنها ارتكبت عدداً من الأخطاء، وحققت أيضاً نجاحات في لحظة انهيار وطني واقتصادي، وقد تحقّق كل ذلك بإيجابياته وسلبياته بدءاً من معركة ردع العدوان مروراً بإسقاط النظام والحفاظ على ما تبقى من الدولة والخطاب الوطني، حتى محاولاتهم الحثيثة في الخروج من العزلة والاندماج في المجتمع الدولي على يد “جهاديين سلفيين” طالما وُسِموا بالعدمية. ولكن لم يتحقّق كل هذا بمعجزة ولا بترتيب دولي لطالما أبدى تواطئاً ضد الثورة السورية حتى لُقّبت بالثورة اليتيمة، بل بجهود أبنائها الذين عملوا بهمة وصمت سنوات طويلة. ومهما تحدثنا عن تهيئة الظروف المحلية والدولية، واهتراء منظومة الأسد، وأي عوامل خارجية، فلم يكن النصر ممكناً لولا استعداد أبناء الثورة ومنهم ما يُسمّى “جهادييها”.
المصدر: تلفزيون سوريا






