النظام بعد الإمبراطورية ||  جذور عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط

روبرت د. كابلان

ينطوي تاريخ الإمبراطوريات على بعض الالتباس والغموض. وفي رأي كثيرين، يرتبط هذا التاريخ بالحكم الأوروبي الذي خضعت له أجزاء كبيرة من العالم النامي، وهذا يدمغ سمعة الغرب إلى الأبد، ولكن الإمبراطورية اتخذت أشكالاً كثيرة لا تمت للغرب بصلة، على الخصوص في الشرق الأوسط. ومنذ السلالة الأموية في دمشق في القرن السابع، أنشأ الخلفاء المسلمون حكماً مترامي الأطراف، امتد أحياناً إلى نواحي البحر الأبيض المتوسط كلها. وفي القرون اللاحقة، بسط العثمانيون حكمهم وصولاً إلى البلقان. وامتد نفوذ السلطنة العثمانية، في القرن الـ19، من الخليج الفارسي إلى أجزاء من إيران وباكستان، وكذلك إلى منطقة شرق أفريقيا الإسلامية. ولم يكن الأوروبيون طرفاً راجحاً في هذا السياق إلا في المراحل اللاحقة من تاريخ الإمبراطورية.

وفي أنحاء الشرق الأوسط، أدت الاختبارات التي مرت بها الإمبراطوريات إلى إعاقة تطور الدول القومية، على المثال الأوروبي. وهي تلقي الضوء على افتقار المنطقة إلى الاستقرار. والحق أن مسألة الحفاظ على درجة معقولة من النظام من غير إفراط في القمع تبقى من غير حل في أنظمة كثيرة في الشرق الأوسط.

وأحد الأسباب الرئيسة للعنف وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، في العقود الأخيرة، مهما كان مزعجاً للمشاعر والحساسيات المعاصرة، هو أن المنطقة تخلو لأول مرة في التاريخ الحديث من فرض الإمبراطوريات نظامها. وفشل الديمقراطية، إلى اليوم، في ترسيخ جذورها، حتى في البلدان التي ظهرت بشائرها فيها، مثل تونس، قرينة على مخلفات الحكم الإمبراطوري السامة. فالإمبراطورية، ورعايتها دوام القهر، حالت دون ترسيخ الحلول الأخرى.

والحقيقة المحبطة التي لا تنكر هي أن الإمبراطوريات، على نحو أو آخر، هيمنت على تاريخ العالم (وخاصة تاريخ الشرق الأوسط)، منذ العصور القديمة المبكرة إلى العصر الحديث، وأعملت، نسبياً، أكثر الوسائل عملية وقطعاً في التنظيم السياسي والجغرافي. وقد تخلف بعدها الإمبراطوريات فوضى، ولكنها كانت وصفة للفوضى.

من دون نظام

على مدى قرون، كان عصر الإسلام الذهبي في الشرق الأوسط إمبراطورياً. وتطور هذا التاريخ غالباً في ظل خلافة الأمويين والعباسيين، ثم الفاطميين والحفصيين. وربما كانت الإمبراطورية المغولية مفرطة القسوة، ولكن إنجاز المغول الأول كان بإخضاع إمبراطوريات أخرى وتدميرها: العباسية، والخوارزمية، والبلغارية، وسلالة سونغ، إلخ. واضطلعت الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط والبلقان والإمبراطورية الهابسبورغية في وسط أوروبا بحماية صريحة لليهود والأقليات الأخرى وماشت القيم الأكثر استنارة في عصرها. وإبادة الأرمن الجماعية لم تحصل في وقت كانت الإمبراطورية العثمانية تحكم فيه المنطقة كلها، بل في أثناء محاولة “تركيا الفتاة”، القومية، الحلول محل السلطنة. وكانت القومية العرقية، أكثر فتكاً بالأقليات من الإمبريالية الكثيرة الأعراق والأممية الطابع.

وغداة الحرب العالمية الأولى، انهارت السلطنة العثمانية التي حكمت الشرق الأوسط، من الجزائر إلى العراق، طوال 400 عام. وفي عام 1862، حذر وزير الخارجية العثماني، علي باشا، متنبئاً، من أن حمل العثمانيين يوماً ما على الانقياد لـ”التطلعات القومية”، سيحوجهم “إلى قرن من الزمن، وبحور من الدماء، في سبيل بلوغ حال مستقرة إلى حد ما”. وبعد أكثر من قرن على زوال السلطنة العثمانية، لم يجد الشرق الأوسط إلى اليوم بديلاً مناسباً للنظام الذي فرضته الإمبراطورية.

وإلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حكمت سلطات الانتدابين البريطاني والفرنسي دول المشرق والهلال الخصيب، من لبنان إلى العراق. وفي أثناء الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قطبين إمبرياليين، ديناميكية وتأثيراً في أنظمة الشرق الأوسط. وأنشأت الولايات المتحدة تحالفات، بحكم الأمر الواقع، مع إسرائيل، ومع الأنظمة الملكية العربية في شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية. وفي المقابل، دعم الاتحاد السوفياتي الجزائر، ومصر عبدالناصر، وجنوب اليمن، ودولاً أخرى مالت إلى خط موسكو أو تعاطفت معه.

وتفكك الاتحاد السوفياتي في عام 1991، وتقلص نفوذ الولايات المتحدة وقدرتها على إعمال قوتها في المنطقة على نحو مطرد، منذ غزو العراق عام 2003. وللأسف، ومن غير تبلور شكل إمبراطوري، دخلت المنطقة، تدريجاً، في حقبة اضطراب، وشهدت انهيار الأنظمة أو زعزعة استقرارها في ليبيا وسوريا واليمن وغيرها. ويصح القول إن الربيع العربي لم يظهر توقاً إلى الديمقراطية فحسب، بل رفض الأنظمة الديكتاتورية البالية والفاسدة. وعليه، فمن دون قدر من النفوذ الإمبراطوري، نزع الشرق الأوسط، والعالم العربي على وجه الخصوص، في معظم الأحيان، “نزعة انشطارية… نحو الانقسام”، على ما كتب المستعرب تيم ماكينتوش سميث.

تأثير سيئ

وينافي القول إن الإمبراطوريات جلبت بعض النظام والاستقرار إلى الشرق الأوسط، كثيراً من الدراسات والآراء الصحافية المعاصرة. ويفسر رأي سائد عدم الاستقرار في المنطقة بغياب الديمقراطية، وليس بغياب الإمبراطورية. وهذا الموقف مفهوم. وطالما بقيت تجربة الاستعمار المعاصر الأوروبي ماثلة في الأذهان، في كثير من الدول، انشغل العلماء والمراسلون بجرائم القوى البريطانية والفرنسية والأوروبية الأخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا وأماكن أخرى. وبما أننا في عصر التكفير عن الذنوب، ومراجعة مرحلة ما بعد الاستعمار التاريخية، من الطبيعي أن تشغل ارتكابات القوى الأوروبية الماضية حيزاً كبيراً من التعليل. وتجاوز تلك الارتكابات من دون التقليل منها تحد حقيقي.

ولا يعني هذا أن أفعال القوى الأوروبية في الشرق الأوسط كانت بريئة، بل يعني العكس تماماً. فأقل البلاد استقراراً في المنطقة اليوم، هي تلك التي تحمل بعضاً من أوضح آثار الاستعمار الأوروبي. وكامل الحدود المصطنعة في بلاد الشام [بلاد المشرق]، على سبيل المثال، خطتها المملكة المتحدة وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى. وعلى هذا، فشلت حدود سوريا والعراق الحديثة في أن تكون مرآة لطبيعة المجتمعات التقليدية، الحسنة الأداء، والتي عاشت زمناً من غير حدود إقليمية صلبة. فالدول الحديثة قسمت ما كان يجب أن يظل متصلاً، وسعى الإمبرياليون البريطانيون والفرنسيون إلى فرض الحدود على أرض مكونة جزئياً من تضاريس صحراوية خالية من المعالم. وسبق أن نبه المثقف والمتخصص في الشرق الأوسط، إيلي خدوري في القرن الـ20 بامتعاض، إلى الأمر حين سأل “ما نفع الحدود فعلياً عندما ترسم فجأة في أماكن لم تكن فيها من قبل؟”.

ولا شك في أن الدول البعثية القمعية التي ظهرت في سوريا وخصوصاً في العراق، في النصف الثاني من القرن الـ20، كانت من صنع الإمبراطوريات الأوروبية. وغزت الولايات المتحدة العراق عام 2003 وكانت النتيجة هي الفوضى. لم تتدخل الولايات المتحدة في سوريا، عام 2011، وهذه المرة كذلك كانت النتيجة هي الفوضى. على رغم أن كثيرين يلومون السياسة الأميركية على ما حدث في كلا البلدين، إلا أن العامل الفاعل في الحوادث، في كلتا الحالتين، كان إرث البعث. وهو مزيج مدمر من القومية العربية والاشتراكية، يحاكي نمطه النمط الذي كان سائداً في الكتلة الشرقية. وقد نشأ، متأثراً في جزء منه بأوروبا، خلال الحقبة الفاشية في الثلاثينيات من القرن الماضي، على يد عضوين من الطبقة الوسطى الدمشقية، أحدهما مسيحي والآخر مسلم: ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار. إذاً، لم يكن الاستعمار وحده ما جعل الشرق الأوسط أقل المناطق استقراراً، بل شاركته الأيديولوجيات الأوروبية الخطرة، في أوائل القرن الـ20 التأثير.

والحق أن مأساة الشرق الأوسط، منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، مرتبطة بالتفاعل الديناميكي الغربي مع المنطقة على قدر ارتباطها بالشرق الأوسط نفسه. وفي هذا الإطار، كتب مارشال هودجسون Marshall Hodgson، الذي يمكن القول إنه أبرز مؤرخ حديث لتاريخ الشرق الأوسط، أن “حالة السخط والاضطراب المتجذرة” في العالم الإسلامي، والتي خرجت إلى العلن في حركات مناهضة الاستعمار والقومية والتطرف الديني، هي في آخر المطاف ردود على تعاظم اتصالاته، وعلاقاته بعالم الصناعة وما بعد الصناعة، القائم على أطرافه، ويهدد الشرق الأوسط، وكانت الإمبريالية الغربية نتاجاً ثانوياً وطبيعياً له.

ولا شك في أن أوروبا والولايات المتحدة لم تتعمدا رد الفعل هذا، ولكن دينامية الغرب في مجال الأفكار والتكنولوجيا طغت على ممتلكات الإمبراطورية العثمانية السابقة، وحدثتها قسراً، ما أدى إلى تضخيم الآثار السيئة الناجمة عن الإمبريالية. وعلى هذا النحو، أثرت الماركسية والنازية والقومية، والأفكار الراديكالية في الغرب الحديث، على المثقفين العرب في الشرق الأوسط وأوروبا، ونهضت مثالاً للأنظمة التي بلغت ذروتها تحت حكم الأسد الأب والابن في سوريا، وصدام حسين في العراق. وتشريح أحوال تلك البلدان الممزقة لن يكشف عن اختلالات محلية فحسب، بل عن أخرى غربية. والإمبراطورية، التي أرست حالة من الاستقرار في الشرق الأوسط ذات مرة، زعزعت ذلك الاستقرار بشكل غير مباشر لاحقاً.

فسوريا، على سبيل المثال، شهدت بين عامي 1946 و1970، 21 تغييراً حكومياً، جميعها خارج عن الإطار القانوني تقريباً، بما في ذلك 10 انقلابات عسكرية. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1970، تولى قائد القوات الجوية البعثي، حافظ الأسد، من الطائفة العلوية، وهي فرع من الإسلام تربطه صلات بالشيعة، زمام الأمور في انقلاب هادئ وغير دموي – “حركة تصحيحية” على حد وصفه. وتسلم الأسد الحكم، إلى حين وفاته الطبيعية بعد 30 عاماً. وأثبت أنه من بين أبرز الشخصيات التاريخية، وإن لم ينل التقدير المستحق، في الشرق الأوسط الحديث. وحول جمهورية الموز الافتراضية، أي الدولة الأقل استقراراً في العالم العربي، إلى دولة بوليسية مستقرة نسبياً، ولكن الأسد نفسه، وهو أدار دولة أقل دموية وقمعية من حكم صدام في العراق، لم يكن قادراً على الحكم من دون همجية وحشية في بعض الأحيان. ورداً على انتفاضة عنيفة نظمها متطرفون سنة ضد حكمه، قتل نحو 20 ألف شخص في مدينة حماة ذات الغالبية السنية عام 1982. وكانت حملة قمع فعالة قدر ما كانت وحشية. وكان ثمن درء الفوضى باهظاً، وشكك في نجاح الأسد الأب في تحقيق الاستقرار في سوريا. وهذا من إرث الإمبرياليتين العثمانية والفرنسية.

أو لنأخذ ليبيا مثلاً آخر. وتتكون ليبيا من مناطق متفرقة، وتفتقر إلى التماسك التاريخي، بصرف النظر عن ماضيها الاستعماري. يعتبر غرب ليبيا، المعروف باسم طرابلس، أكثر كوزموبوليتانية من المناطق الأخرى. وانجذب تاريخياً نحو قرطاج وتونس. ومن وجه ثان، كان شرق ليبيا، أو برقة، محافظاً، وتوجه تاريخياً نحو الإسكندرية في مصر. أما الأراضي الصحراوية الواقعة بينهما، بما في ذلك الفزان في الجنوب، فهويتها اقتصرت على الإطار القبلي ودون الإقليمي. وعلى رغم أن العثمانيين اعترفوا بالوحدات المنفصلة هذه، فإن المستعمرين الإيطاليين دمجوها، في بداية القرن الـ20، في دولة واحدة، تبين أنها مصطنعة إلى حد كان من المستحيل معه، في كثير من الأحيان، حكمها إلا بأشد وسائل القمع، على مثال ما حصل في سوريا والعراق. وعندما أطيح بالديكتاتور معمر القذافي، في عام 2011، أي بعد 100 عام بالضبط على السيطرة الإيطالية، تفككت الدولة، ببساطة. وكما هي حال سوريا والعراق، يدل مصير ليبيا على فداحة تداعيات الإمبريالية الأوروبية.

منطقة يليق بها الحكم الملكي

وعلى خلاف ذلك، فإن بلداناً مثل مصر وتونس، وتعود أصولهما إلى ما قبل الاستعمار الأوروبي، عانت صعوبات أقل. واكتسبت تونس، على سبيل المثال، هوية فريدة تعود إلى ما قبل الإسلام، تحت حكم القرطاجيين والرومان والفاندال والبيزنطيين. وقد يكون الحكم في هذه الدول عقيماً وقمعياً، ولكن النظام ليس موضوعنا. فالمسألة الأساسية هي تقليص استبداد هذه لأنظمة. ومع ذلك، واجهت تونس تحديات منذ اندلاع انتفاضتها الشعبية التي أشعلت الربيع العربي، في أواخر عام 2010. وقد كافحت البلاد بشجاعة في سبيل الحفاظ على الديمقراطية، في عاصمتها والمدن الكبرى الأخرى، في ظل ضعف سلطتها المركزية في المقاطعات والأراضي الحدودية، إلى أن انزلقت مرة أخرى إلى الاستبداد في العام الماضي في عهد الرئيس قيس سعيد. وعلى رغم ذلك، تظل تونس المثال الأكثر تفاؤلاً بالتجربة الديمقراطية في المنطقة. ويثبت عسر تكرار النموذج السياسي الغربي، الرامي إلى تأسيس نظام غير قسري في الشرق الأوسط. وبدلاً من الديمقراطية، صاغت هذه البلدان الأوتوقراطية المحدثة، وهي في حد ذاتها مشتقة من الإمبريالية الأوروبية، الحل الأسرع لمشكلة خطر الفوضى.

وكانت الأنظمة الملكية التقليدية، في الأردن والمغرب وعمان، أقل الأنظمة قمعاً في الشرق الأوسط. وجراء شرعيتها التاريخية المتأصلة والمكتسبة بشق الأنفس، تمكنت من الحكم بأقل قدر من القسوة. وتثبت التجارب الهوبزية [نسبة إلى فلسفة توماس هوبز] في الشرق الأوسط أن الأنظمة الملكية إلى جنب النظام الإمبراطوري، هي الشكل الأكثر طبيعية من بين أشكال الحكم. وكانت عمان، على سبيل المثال، ديكتاتورية ملكية مطلقة، وشهدت طوال عقود سياسات تقدمية إلى حد ما، وحريات فردية متواضعة. وهذا أحد الأدلة على أن العالم لا يصح أن يقسم إلى ديكتاتوريات شريرة وديمقراطيات مثالية، فهو يتضمن ظلالاً رمادية بينهما. ويفهم المراسلون الأجانب هذا بشكل عام، فيما لا يستوعبه المثقفون والسياسيون في نيويورك وواشنطن على القدر نفسه.

ففي السعودية وإمارات الخليج العربي، عقد اجتماعي حقيقي بين الحاكم والمحكوم. ويوفر الحكام حكماً كفؤاً وثابتاً، وانتقالاً سلساً للسلطة، ويتيح نوعية حياة مرغوبة، وفي المقابل، لا تتحدى الشعوب السلطة. وكان للثروة النفطية علاقة قوية بذلك، ولكن حكام الخليج أظهروا، كذلك، نزعة تجريبية تستند إلى حسابات واقعية. فهم يرون في الفوضى التي أطلقتها من عقالها المحاولات الرامية إلى فرض الديمقراطية، في أثناء الربيع العربي، دليلاً على أن دروس الغرب لا تعلم شيئاً مفيداً.

كرامة، لا ديمقراطية

وهذه ليست القصة كاملة. فالشرق الأوسط يخطو إلى الأمام، وإن لم يكن في خط مستقيم. فالتكنولوجيا الرقمية، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، دمرت التراتبية الهرمية وزادت جرأة الجماهير. وبدأت الرهبة من السلطات الحاكمة تتلاشى تدريجاً، واتسعت المطالبة بالمحاسبة. وصار شاغل المستبدين في إيران وغيرها في أصقاع المنطقة، الرأي العام على غير عادة. وعلى رغم أن الإمبراطوريات البحرية، البرتغالية والهولندية والبريطانية، أسهمت في دمج الشرق الأوسط في نظام تجاري عالمي، في الحقبة الحديثة المبكرة والعصور الحديثة، تعاظم هذا التفاعل على المنطقة مع مرور الوقت. وسيظهر مستقبل الشرق الأوسط اندماجاً أكبر مع الغرب، ومع عدد من التيارات المتعارضة والمختلفة في العولمة. وقد يؤدي ذلك في النهاية إلى تغيير سياسة المنطقة. وجراء دوام نظام الإمبراطورية في الشرق الأوسط طويلاً – فهو بدأ قبل ظهور الإسلام – ينبغي ألا يتوقع أحد نهاية سريعة لمرحلة ما بعد الإمبراطورية غير المستقرة. وفي نهاية المطاف، لا يدوم شيء في عالم السياسة فوق دوام التوق إلى النظام.

والحق أن المنطقة لم تخلص تماماً من الإمبراطورية. وعلى رغم أن حرب العراق أضعفت الولايات المتحدة، فهي لا تزال القوة الخارجية المهيمنة، من حيث الانتشار الأمني والعسكري، وتحيط قواعدها الجوية والبحرية بمعظم شبه الجزيرة العربية، بين اليونان في الشمال الغربي، وسلطنة عمان في الجنوب الشرقي، وجيبوتي في الجنوب الغربي. وفي الوقت نفسه تتطلع مبادرة الحزام والطريق الصينية إلى إنشاء شبكة من الطرق التي تتولى إمدادات الطاقة من الخليج إلى غرب الصين، على أن يكون مركزها ميناءً حديثاً في الطرف الجنوبي الغربي لباكستان. وتفكر بكين، التي تملك قاعدة عسكرية في جيبوتي، في بناء قواعد أخرى مماثلة في بورتسودان وجيواني، على الحدود الإيرانية – الباكستانية. وإلى ذلك، استثمرت الحكومة الصينية عشرات المليارات من الدولارات في مركز صناعي ولوجيستي على طول قناة السويس في مصر، وفي البنية التحتية ومشاريع أخرى في كل من السعودية وإيران.

ولا تملك الولايات المتحدة والصين مستعمرات أو مناطق انتداب. وهما لا تحكمان الناس خارج حدودهما، ولكن لديهما مصالح إمبريالية. وفي مرحلة الانعطاف التاريخي الحالية، تحتاج هذه المصالح إلى الاستقرار، وليس الحرب، خصوصاً أن استثمارات بكين تدمج الصين في الأعمال والديناميكيات الداخلية الاقتصادية الشرق أوسطية. والاتفاق الأخير الذي توسطت فيه الصين بين السعودية وإيران، من أجل إعادة العلاقات الثنائية الرسمية، واستجابة إدارة بايدن العلنية له، تظهر كيف أن الإمبراطورية، أو بالأحرى صورة فضفاضة عنها، قد تسهم في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط. ومع الاستقرار النسبي، قد يكون لدى الأنظمة حافز يحملها على تخفيف الضوابط الداخلية، وعلى بناء مجتمعات قادرة على الصمود في وجه تحديات الاقتصاد العالمي المتماسكة والقاسية. فالمملكة العربية السعودية، يتواصل ويطرد انفتاحها الاجتماعي والاقتصادي. وتحظى هذه العملية بمراقبة العالم العربي، وقد تصوغ نموذجاً لأنظمة أكثر مرونة وقوة على مقاومة الإسلام السياسي.

وبعد سنوات من التغطية الدقيقة لأحوال العالم العربي، كتب الصحافي روبرت وورث وهو كان يعمل في صحيفة “نيويورك تايمز”، أن ما يسعى إليه العرب، في نهاية المطاف، هو الكرامة وليس الديمقراطية: دولة “تحمي رعاياها من الذل واليأس”، بغض النظر عما إذا كانت ديمقراطية أم لا. وتجدر الإشارة إلى أن الإمبراطورية، سواء كانت عثمانية أو أوروبية، وفرت الاستقرار وبعض الكرامة، أما الفوضى فلا توفر أياً منهما. ويمكن لحوكمة أكثر تشاورية، على غرار الإصلاحات في الأنظمة الملكية التقليدية المحلية في المغرب وعمان، أن تشق طريقاً وسطاً. ويرعى هذا الاتجاه أفضل أمل في استمرار التطور في الشرق الأوسط، على رغم عدم اتباعه السيناريو الغربي.

*يشغل روبرت د. كابلان كرسي روبرت شتراوز – هوبيه في الجغرافيا السياسية في معهد بحوث السياسة الخارجية. وهو مؤلف الكتاب الذي سيصدر قريباً بعنوان “نسيج الزمن: بين الإمبراطورية والفوضى، من البحر الأبيض المتوسط إلى الصين”) دار راندوم هاوس، 2023) وقد أخذ هذا المقال منه.

مترجم من فورين أفيرز، أغسطس (آب) 2023

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى