دخلت “حرب غزة الخامسة”، أو “حرب إسرائيل في غزة”، شهرها الثالث، بعد وقف قصير لإطلاق النار. ودلت مجرياتها وتداعياتها على أنه من المبكر الحديث عن اليوم التالي والأفق السياسي، أو عن فرصة للدبلوماسية وسط حرب تدميرية وعقاب جماعي.
ويكمن الأدهى في صعوبة تخمين المدة التي ستستغرقها هذه الحرب. ومما لا شك فيه أن السقف العالي للأهداف التي وضعتها إسرائيل سيتطلب وقتا أطول مما ستكون واشنطن على استعداد لتقبله وتحمله. وكذلك فإن رهانات “كتائب القسام” الجناح العسكري لحركة “حماس”، وأخواتها، على الصمود في حرب استنزاف واستخدام لورقة المحتجزين الرهائن، حسبما تم نقله عن رئيس الحركة في غزة يحيى السنوار، يعني أننا سنكون أمام سيناريو مواجهة متوسطة المدى إذا بقي الصراع محصورا على وتيرته الحالية ومداه الجغرافي، أو أمام سيناريو حرب إقليمية واسعة تختلط فيها الأوراق أو تكون ممهدة لمشهد إقليمي جديد. ووفق كل السيناريوهات المحتملة لا يبدو الأفق واضحا بالنسبة للشعب الفلسطيني ولمستقبل القضية الفلسطينية، أو بالنسبة لوضع لبنان الذي يمكن أن يدفع أيضا الثمن حربا أو سلما.
استحالة الحل العسكري
يعد الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي، من أطول النزاعات الإقليمية وبدأ منذ خمسة وسبعين عاما أو يزيد، وامتد هذا النزاع ليدمغ الشرق الأوسط ببصمته مع بعد عالمي، خاصة منذ احتلال إسرائيل في 1967 مرتفعات الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة. ومنذ الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من القطاع في 2005، حصلت أربع حروب حتى 2021 لم يكن فيها منتصر بشكل حاسم.
وفي الحرب الخامسة الحالية يسود عدم اليقين، خاصة في زمن “الحروب التي لا تنتهي”: الحرب الهجينة (التي تجمع بين النمط الكلاسيكي والحرب غير المتكافئة) والحرب الحديثة التي استخدم فيها الإسرائيليون الذكاء الاصطناعي وللمرة الأولى في حروب الجيل الخامس بعدما تمكنت “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول من تحييد جدرانه الإلكترونية.
وبناء على تطور العمليات العسكرية في الأسابيع الماضية، تتوافق كثير من مراكز البحث الغربية العسكرية والعلمية على عدم وجود حل عسكري لهذا النزاع، وحتى اللحظة، لم تتحول الإنجازات التكتيكية الإسرائيلية بعد إلى تقدم استراتيجي. وهذا يؤكد ما حذر منه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن من أن “الخسائر الكبيرة عند المدنيين أو دفعهم لتأييد (حماس) يمكن أن يحولا أي نصر إسرائيلي تكتيكي إلى هزيمة استراتيجية”.
بعد عشرة أسابيع من الحرب تقول حركة “حماس” إنها “صامدة ومقتدرة، وأن الاحتلال الإسرائيلي إلى زوال”، بينما يقول رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إن “الجيش يعمل على تعميق السيطرة على شمال غزة والتغلغل في القطاع الجنوبي، وكذلك تعميق النشاط تحت الأرض”، لكن أنفاق “حماس” تشكل العائق الأكبر وستعقد الحل العسكري وتطيل أمد الحرب وكلفتها العالية.
وسط دعوات أميركية وغربية للجانب الإسرائيلي على أهمية “اعتبار حماية المدنيين الفلسطينيين فى غزة مسؤولية أخلاقية وضرورة استراتيجية”، وأن “حل الدولتين هو الطريق المفتوح الوحيد للخروج من الصراع المأساوى”، ترد حكومة بنيامين نتنياهو الأكثر تشددا في تاريخ إسرائيل برفض التعامل مع هذه الأطروحات وتركز على السقف العالي لهدف “إنهاء حركة حماس”.
وسط التخبط والغموض والضراوة على الصعيد العسكري والأفق السياسي المجهول، يستمر القصف الإسرائيلي المكثف والعملية العسكرية في قطاع غزة مع خسائر لا سابق لها في البشر والحجر إلى حد أن جوزيب بوريل وزير خارجية الاتحاد الأوروبي اعتبر أن “حجم دمار غزة يفوق ما تعرضت له المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية”.
وبالرغم من كل التطمينات والكلام عن رفض تهجير الفلسطينيين، تتعزز الشكوك بحصول هذا السيناريو لأن قطاع غزة بصدد التحول إلى مكان غير صالح للسكن واستمرار تدفق مئات ألوف النازحين نحو جنوب غزة. وهذا يطرح الانعكاسات الكارثية على دول الجوار والهدف الخفي في “تصفية القضية الفلسطينية”، حسب مصدر دبلوماسي عربي يربط ذلك بما يجري في الضفة الغربية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول (أربعة آلاف معتقل وعشرات الضحايا).
ومع الوقت تآكل الدعم الدولي الذي حظيت به إسرائيل بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وزاد إحراج الولايات المتحدة بسبب الزيادة الهائلة في عدد الضحايا والكارثة الإنسانية. ويضاف إلى ذلك عدم وجود توافق حول كيفية تصور فترة ما بعد الحرب. وهنا يترسخ المأزق لأن عوائق الحل السياسي ستلي متاهات العمليات العسكرية.
تناقض أهداف الحرب مع حقيقة الوضع الميداني
تفتقر أهداف الحرب التي حددتها حكومة الحرب الإسرائيلية- وأبرزها تدمير حكومة “حماس” وقدراتها العسكرية- إلى الواقعية، وتتعارض مع التكاليف البشرية الباهظة التي يتكبدها سكان غزة. ولا ينجح أي من الخيارات المطروحة في هذه المرحلة لإنهاء الحرب في دحض وهم الحل العسكري في غزة. والجدير بالملاحظة أيضا أن هدف ضرب “حماس” او تقليص قدراتها كحد أدنى يتناقض مع هدف إطلاق الرهائن. أما إنهاء حكم “حماس” في غزة فسيصطدم بعدم وجود البدائل ومشكلة ترتيب البيت الفلسطيني وما تسميه واشنطن “السلطة الفلسطينية المجددة والمعززة”.
انطلاقا من مراقبة الوضع الميداني تزعم إسرائيل أن شمال غزة وصل إلى “نقطة الانهيار”، وأن “حماس على وشك الانهيار” هناك. بينما تركز حركة “حماس” على نجاح كمائن مقاتليها في حي الشجاعية في إبراز الفشل الإسرائيلي. ويدلل ذلك على صعوبات جمة في تحقيق الهدف الإسرائيلي الذي يمكن أن نلخصه بالسيطرة عبر كسر هيكل القيادة الرسمي لـ”حماس”، بما في ذلك تفكيك كتائب الجماعة المسلحة وتقليص أعضائها للعمل كأفراد على مستوى محلي للغاية.
ومن الواضح أن الخطة الإسرائيلية تقضي بالتركيز على تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في تفكيك الجزء الأكبر من القدرات العسكرية لـ”حماس” من الآن إلى نهاية يناير/كانون الثاني من العام القادم.
وتراهن حركة “حماس” من جهتها على إفشال الخطة الإسرائيلية من خلال الصمود فوق أرض غزة وتحتها، إلى أن تضطر إسرائيل لوقف إطلاق النار، إما عن طريق الضغوط الدولية وإما في سياق المفاوضات لإطلاق سراح الرهائن.
تبعا لذلك ألقت تداعيات الحرب التدميرية بثقلها على الضوء الأخضر الأميركي لإسرائيل والذي أخذ يخفت باتجاه إنهاء الدعم غير المشروط للعملية العسكرية وذلك بعد المؤتمر الصحافي للرئيس جو بايدن في الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول. وإذا كانت واشنطن قد نجحت حتى اللحظة في استراتيجية منع توسع الحرب، فإن التحركات الحوثية بدعم إيراني في البحر الأحمر شكلت تحديا إضافيا ومفاجأة استراتيجية إضافية لإسرائيل. ولذا أتت مهمة مستشار الأمن القومي جيك سوليفان في إسرائيل لكي تلزم حكومة نتنياهو بجدول زمني للحرب. ويبدو أن الجنرالات اتفقوا معه على تحديد نهاية هذا العام كموعد لبدء العد العكسي للحرب الواسعة النطاق أو ذات الوتيرة العالية على أن تتحول بعد ذلك العمليات العسكرية الكثيفة إلى عمليات عسكرية محدودة والانتقال إلى مرحلة أكثر استهدافا في حربها ضد “حماس”.
ووفقا لتصورات إدارة بايدن، فإن “هذه المرحلة الجديدة ستتضمن استخدام مجموعات أصغر من قوات النخبة الإسرائيلية التي ستتحرك داخل المراكز السكانية في غزة وخارجها، وتنفذ مهام أكثر دقة للعثور على قادة حماس وقتلهم، وإنقاذ الرهائن وتدمير الأنفاق”.
وتطرح مسألة تحديد الأهداف الإسرائيلية معضلة صعوبة تحقيقها نتيجة عدم تأقلمها مع الوقائع وعدم استخلاص دروس التجارب السابقة. وفي مطلق الأحوال سيتم التركيز على الحصاد السياسي.
ارتباط الخروج من الحرب بالأفق السياسي
استنادا إلى كل السيناريوهات المتداولة للخروج من الحرب يتم التركيز النظري على تسويق “حل الدولتين” كمخرج من النزاع المزمن. بيد أن الوضع الجديد في غزة وواقع الاستيطان في الضفة الغربية، لن يسمحا بتحقق هذا الهدف إلا على المدى الطويل إذا توافرت الإرادة السياسية والبيئة المناسبة عند الطرفين وهذا غير مضمون.
بالرغم من جعل هذا الهدف الأقرب إلى السراب حاليا، يدور في الخفاء والعلن اختبار قوة بين الأميركيين ومجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي حول الخيارات التي يجب تحديد أولوياتها للمستقبل. وتصر واشنطن، على ضرورة عودة السلطة الفلسطينية “المحدثة” إلى قطاع غزة. وحتى اللحظة ترفض الحكومة الإسرائيلية الحالية هذا الخيار.
في هذا الإطار يبدو أن إدارة بايدن التي أخذت تدرك عدم إمكانية تجاوز المسألة الفلسطينية نحو التطبيع الإقليمي، وضرورة الأخذ بمطالب المملكة العربية السعودية والقمة العربية- الإسلامية في هذا الاتجاه. ومن هنا يأتي التركيز على ضرورة “إعادة توحيد غزة والضفة الغربية في ظل بنية حكم واحدة، مع رفض فكرة إعادة احتلال غزة واقتطاع أجزاء من القطاع. لكن الإصرار الإسرائيلي على إبقاء الغموض حول الفترة الانتقالية في غزة ومداها الزمني، يعني أن “الوعود الأميركية يمكن أن لا تلزم إلا أصحابها” كما كان يردد الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك.
وفي إطار الأفق السياسي يتم تكرار القول إن “حل الدولتين هو السبيل الوحيد لضمان الأمن على المدى الطويل”. بيد أن الرئيس جو بايدن نفسه يستدرك ويعترف بأنه “قد يبدو الآن أن هذا المستقبل أبعد من أي وقت مضى، إلا أن هذه الأزمة جعلت هذا الحل أكثر إلحاحا”.
من أجل دعم إسرائيل في مسعى “تفكيك حماس” ضمن “نكبة غزة”، تتحرك واشنطن تحت عنوان الدفع نحو حل نهائي للصراع الأوسع من خلال إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وإذا كانت إعادة المسألة الفلسطينية إلى جدول الأعمال الدولي من النتائج المباشرة لحدث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن التسلسل التاريخي والبيئة الدينية والآيديولوجية والإقليمية، والصراع الدولي حول الشرق الأوسط، يدفعان لتوقع نهاية جولة بانتظار جولة أخرى من المواجهة الفلسطينية- الإسرائيلية.
المصدر: المجلة