سوريا، التي تشهد صراعاً دامياً منذ عام 2011، تواجه مأساة إنسانية غير مسبوقة. النظام الحاكم، بقيادة بشار الأسد، يقمع انتفاضة شعبية طالبت بالتغيير الديمقراطي، ويتورط في حرب أهلية شاركت فيها قوى إقليمية ودولية.
المجتمع الدولي، لم يتمكن من إيجاد حل سياسي يضع حداً للصراع ويحقق تطلعات الشعب السوري، الذي يعاني من خسائر بشرية ومادية فادحة، وانتهاكات حقوقية وإنسانية جسيمة.
في هذا السياق، قامت أ. ميسون محمد بإجراء مقابلة صحفية مع المفكر السوري البارز والأستاذ في جامعة السوربون الفرنسية ومدير مركز أبحاثها، الدكتور برهان غليون، الذي اختير ليكون أول رئيس للمجلس الوطني السوري، لطرح بعض الأسئلة عليه لتقييمه الوضع السياسي والإنساني في سوريا، بعد مرورأكثر من 12 عام على اندلاع الثورة. ولمعرفة رأيه في المبادرة العربية الأخيرة التي تبنتها القمة العربية في محاولة لإحياء عملية الحوار بين الأطراف السورية. وأيضا للاستنارة برؤيته بمستقبل سوريا بعد انتهاء الصراع، وعن دور المفكرين العرب في تطوير خطاب فكري نقدي اجتماعي تاريخي يستجيب للمتغيرات الإقليمية والدولية.
1- دكتور برهان، ما تقييمكم للوضع السياسي والإنساني الراهن في سوريا بعد مرور أكثر من 12 عام على الأزمة؟ وما السبيل لإنهاء الصراع ومعاناة الشعب برأيكم؟
خيار الانتحار
كنت قبل الثورة أقول إن هناك تياراً انتحارياً في الحكم القائم، لا يهمه مصير البلاد ولا الشعب ولا أي شيء، وهو مستعد للموت في سبيل الاحتفاظ بغنيمته، أي بسوريا مزرعة للأسرة والعائلة والحاشية. الآن، أصبح من الواضح أن الأمر لا يتعلق بتيار، وإنما بالحكم نفسه، وعلى رأسه من يسمى رئيس النظام.
لم يقل شيئاً آخر في لقائه الأخير مع سكاي نيوز (10 أب اغسطس) سوى أنه لن يتراجع ولن يتخلى عن أي خيار من خياراته السياسية الداخلية والإقليمية التي أدت بالبلاد إلى الهلاك، وأنه مستمر عليها مهما حصل. وهو لا يبحث حتى عن مخرج، إنه بالعكس يحشر نفسه أكثر فأكثر في هذا الخيار الانتحاري الوحيد، وهو يهدد العرب والعالم بقتل الرهينة، وهي الشعب السوري إذا احتاج الأمر ولن يغير شيئا مما اعتاد عليه منذ وصوله إلى السلطة.
هذه مزرعته وهو يقرر مصيرها بالموت بالكيماوي أو بالجوع، لذلك رفض خشبة الخلاص الأخيرة التي قدمها له العرب للخروج من المهلكة، من رفع شعار الأسد أو نحرق البلد يرفع اليوم شعار أنا ومن بعدي الطوفان، إما أن تقبلوا بي كما أنا أو أن السوريين وأنتم جميعاً من سيدفع الثمن.
لقد أصبح من الواضح أن الأسد حرق جميع مراكبه، وأن المذبحة السورية المستمرة منذ 13 عاماً لن تنتهي إلا بنهاية هذا الحكم وتحطيم قواعده قبل أن يقضي على آخر ما تبقى من سورية المجتمع والشعب والدولة، هذا هو السبيل الوحيد لانهاء المأساة ومعاناة الشعب السوري ومخاطر تسميم المنطقة، ولا يوجد أي حل آخر.
2- هل ترون أن المبادرة العربية الأخيرة التي تبنتها القمة العربية تمثل فرصة حقيقية لتحقيق تقدم نحو حل سياسي شامل في سوريا؟ وما هي فرص نجاحها برأيكم؟
المبادرة العربية ولدت ميتة ولا أمل في أي حل تفاوضي
رأيي أن المبادرة العربية ولدت ميتة، لأن العرب لم يأخذوا بالحسبان شخصية الأسد وارتباطاته الإقليمية ورفضه القاطع التقدم ولو خطوة واحدة على طريق التطبيع الداخلي، خشية أن تورطه بعملية إصلاح أو تغيير أو حتى أن توحي بأنه مستعد للتفاوض على أي شيء، ولو كان إظهار تعاطفه مع الضحايا بمن فيهم ضحايا ما كان يسمى حاضنته الاجتماعية، فهو يدرك أنه سار في سياسة كسر العظم مع الشعب، ويخشى أن أي خطوة يتراجع فيها عن مسيرته الدموية سوف تترجم على أنها بداية التراجع، ومن ثم تضع موضع التساؤل ما يزعمه من انتصار حتى يستمر، ينبغي أن يستمر العنف والحرب والإرهاب والمؤامرات الكونية، الحوار والتفاوض والإصلاح وأي ذرة من التغيير تعني نهاية حبل الكذب، أي نهاية حكمه.
لكن هذا التشبث بالسلطة ورفض أي حوار حتى مع أطراف عربية أو دولية وليس فقط مع السوريين، ما كان ممكناً لو لم يعبر في الوقت نفسه عن إرادة طهران في تحطيم سورية وتجفيف ينابيع الحياة فيها لانتزاعها من شعبها وإعادة دمجها بإيران ليس كمحافظة كما كان يحلم قادة الحرس الثوري في بداية الأحداث، وإنما كمستعمرة، وليس لديهم لتحقيق ذلك أي بديل عن بشار الأسد الذي يدين بوجوده السياسي والعسكري والآيديولوجي لهم.
وإذا لم يتحرك شعبها لن يكون مصير سورية لعقود سوى أن تدفن حية، ليتمكن مستعمروها الجدد من تحويل مواردها بما فيها البشرية لأغراض بناء امبرطوريتهم المقدسة المنشودة، وإعادة المشرق إلى مناخات القرون الوسطى وحروبها الدينية والطائفية.
من هنا، لا اعتقد أنه لا يزال هناك أمل في أي حل تفاوضي، لا حل إلا بتنحي الأسد أو إجباره على التنحي، وهذا لن يحصل إلا عندما يدرك بعض أركانه أنهم ذاهبون معه إلى الكارثة، وكائنا من كان المبادر، سوف يتحول من دون شك إلى بطل مخلص في أعين السوريين جميعا من دون تمييز.
3- برأيك ما هي أبرز سمات المرحلة الانتقالية المقبلة التي يجب أن تمر بها سوريا بعد انتهاء الصراع الدائر حالياً؟ وما هي التحديات التي ستواجه بناء الدولة السورية الجديدة؟
نحن أمام جنوح سفينة سورية في عرض البحر وخطر تحطمها
أعتقد أنه من المبكر جداً الحديث عن مرحلة انتقالية في الظروف التي تعيشها البلاد، نحن لسنا هنا في انتقال سياسي منظم وإنما أمام جنوح سفينة في عرض البحر وخطر تحطمها وتطاير أجزائها في كل الأرجاء. المهم الآن انقاذ السفينة قبل أن ترتطم بالصخر ووقف عملية الانتحار الجماعي التي هي الآن خطة الأسد للبقاء وردع الآخرين عن ملاحقته وتجريمه.
4- كمفكر عربي بارز، ما هي رؤيتك لمستقبل الفكر العربي الحديث في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة؟ وكيف يمكن للمفكرين أن يسهموا في تطوير الخطاب الفكري العربي؟
المفكرون العرب يجب أن يسهموا في تطوير خطاب نقدي اجتماعي تاريخي
في حالتنا المستقبل بعلم الغيب، ولم يظهر المثقفون السوريون والعرب في العقود القليلة الماضية بصيرة توحي بأنهم قادرون قريبا على لعب دور بناء وإبداعي في توجيه دفة سفينتنا الجانحة، وليت هذا الخطاب الذي تأملين بتطويره لم يطور ولم يتطور.
خلال نصف القرن الماضي لم يفعل المثقفون سوى تغذية الفتنة الفكرية والدينية بدل أن يضيئوا على المشاكل التي يطرحها تحدي اندراج مجتمعاتهم في الحضارة الراهنة وتمثيل قيم الحداثة الحقيقية وروح العصر، ولا يزال معظمهم يعتبر التميز عن الشعب والإفصاح عن احتقاره له والتعريض بجهله أو فقره أو بؤسه الروحي والسياسي الذي دفع إليه دفعا هو السبيل الوحيد لإعطاء وجوده وفكره معنى، وللاندماج في حداثة زائفة، حداثة المحاكاة والتبعية والانقياد لكل ما هو مخالف لروح الشعب والمجتمع وثقافتهما وتطلعاتهما، وليس من قبيل الصدفة أن الشعب يحتقر المثقفين ويسخر من فكرهم وسلوكهم وأنانيتهم ونرجسيتهم.
ولا يمكن لهم تجديد عهدهم مع الشعب إلا بتعلم احترام كل فرد فيه والتخلي عن نرجسيتهم وشعورهم بالتفوق، لاعتقادهم أن شهادة علمية من هنا وقراءة كتاب من هناك تجعلهم طبقة مميزة عن الآخرين ومستحقة للاعتبار الخاص والتقدير والتبجيل، وربما لن يتحرروا من عطب تفكيرهم إلا بتحطيم فكرة المثقف والمفكر ذاتها والنزول إلى الواقع والعمل مع الآخرين، لا كأنبياء كاذبين ولا مبشرين هزليين، وإنما ناساً حقيقيين من لحم ودم، أي طبيعيين.
المصدر: مركز مقاربات للتنمية السياسية