دائماً ما ترتبط توجهات المبعوثين تجاه صراعات المنطقة مع رؤية القوى الغربية.
اكتمل تصاعد أزمة المبعوث الأممي فولكر بيرتس بإعلان الخارجية السودانية أنه “شخص غير مرغوب فيه”، حيث تطارده منذ فترة اتهامات من الحكومة السودانية ورئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وصلت منذ أسابيع إلى حد إرسال خطاب رسمي إلى سكرتارية الأمم المتحدة بالمطالبة بعدم التجديد له.
لكن، سكرتير عام الأمم المتحدة لم يكترث بهذا الطلب، وقرر التجديد للدبلوماسي والأكاديمي الألماني بيرتس، ليثير قضية كبيرة ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة حول تعقيدات تحيط بأدوار المبعوثين الأمميين وتعرقل أداء عملهم، كما تثير أيضاً قضية اختيارهم وكيفية تقييم أدوارهم في النزاعات المختلفة.
خلفية مشكلة المبعوث بيرتس
تجدر الإشارة أولاً إلى أن المهمة الأممية تعود إلى صدور قرار مجلس الأمن رقم 2524 في يونيو (حزيران) 2020 بتشكيل بعثة أممية لدعم الانتقال في السودان إلى الحكم الديمقراطي، وذلك وفقاً لأحكام الفصل السادس من الميثاق، وتكون مهمة البعثة كذلك دعم عمليات حقوق الإنسان والسلام، وتنفيذ اتفاقياته والمساعدة على بناء الحماية المدنية وسيادة القانون في جميع أنحاء البلاد، فضلاً عن دعم وتعبئة المساعدات الاقتصادية والإنمائية وتنسيق عمليات المساعدة الإنسانية المقدمة للسودان. وبناء على ذلك جرى تعيين بيرتس في يناير (كانون الثاني) 2021.
هذا وكان بيرتس الألماني ذو الخلفية الدبلوماسية والأكاديمية قد سبق له العمل مستشاراً أول للمبعوث الأممي الخاص بسوريا، وكذلك رئيس فرقة العمل المعنية بوقف إطلاق النار التابعة لمجموعة دعم سوريا الدولية التابعة للمنظمة الدولية.
لكن، الرجل تعرض منذ العام الماضي لسيل من اتهامات بالتدخل في الشؤون الداخلية، وهو اتهام سنعود إليه، واعتبرها البعض في بدايات عام 2022 موجهة من تيارات محسوبة على الإسلام السياسي، لكن الأمر امتد إلى اتهام محدد بالانحياز إلى كتلة الحرية والتغيير ضد انقلاب الجيش على الاتفاق معها، وبعد ذلك أصبح الهجوم صريحاً إلى حد أن رئيس تحرير صحيفة القوات المسلحة السودانية إبراهيم الحوري اتهمه في أبريل (نيسان) 2022 بأنه منحاز ويريد استنساخ تجربة الحاكم المدني الأميركي بول بريمر في العراق ومجازر بانغي في أفريقيا الوسطى، إضافة إلى استنساخ نماذج ليبيا ورواندا والكونغو.
التصعيد الجديد في اتهام البرهان للمبعوث الدولي بأنه مسؤول عن تشجيع حميدتي على التمرد، وأنه يمارس التضليل في عمله، ثم مخاطبة غوتيريش بعدم التجديد، لكن التجديد قد جرى بدعم أميركي ودول غربية أخرى، مع إدراك عمق المشكلة حتى إنه بدأ يتردد منذ التجديد له أنه سيدير عمله من نيروبي تحسباً لاعتبار الحكومة له شخصاً غير مرغوب فيه، وطرده من البلاد الذي حدث الآن بالفعل، وفي جميع الأحوال سيدير نائبه الأمور من العاصمة السودانية.
تاريخ معقد من تجارب المبعوثين الأمميين
تعد مسألة اختيار المبعوثين الأمميين في مناطق الصراعات مع أهميتها من المسائل التي لا تلقى اهتماماً كبيراً، على رغم أنها كثيراً ما سببت صدامات وخلافات في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن بشكل خاص، وعلى رغم كونها مسألة تستحق كثيراً من الاهتمام، وتفسر كثيراً من جوانب الإخفاق الكثير والنجاح المحدود التي تعانيها التدخلات التي ترعاها المنظمة الدولية.
وربما يكون مفيداً طرح بعض النماذج لهذه المعضلة، فعلى سبيل المثال ومنذ أعوام، تحديداً في 2014، جرى تعيين الدبلوماسي الإسباني برناردينو ليون مبعوثاً أممياً لدى ليبيا التي كانت قد تفاقم الصراع فيها، وازداد تعقداً نتيجة رفض ميليشيات الإسلام السياسي نتائج الانتخابات البرلمانية، وتشكيل مجلس النواب الذي انتقل إلى طبرق هرباً من ضغوط هذه الميليشيات، وطرحت بعض الأطراف الدولية تشكيكاً في قدرة المجلس على تجاوز هذه المعضلة بعد أن واصلت قوى الإسلام السياسي هيمنتها على الأوضاع في العاصمة الليبية، وتحرك المبعوث الدولي بكثافة داخل وخارج ليبيا لجمع الفرقاء السياسيين، وحصل على دعم دولي وإقليمي كبير مكنه من الضغط على مجلس النواب ورئيسه عقيلة صالح للمشاركة في مؤتمر دولي مع قوى طرابلس للتوصل لصيغة لإنشاء حكومة موقتة أطلق عليها حكومة الوفاق الوطني، وتجاوب عقيلة صالح في البداية.
لكن مع تبلور الاتفاق الذي قام على صيغة مناصفة بين الجانبين من دون اعتبار لضرورة التمييز بين الطرف المنتخب والطرف المدعم من الميليشيات ومن قوى الإسلام السياسي التي لم تنجح في تحقيق أي اختراق سياسي انتخابي في الساحة الليبية، وفي نهاية المؤتمر رفض صالح التوقيع على اتفاقية الصخيرات، ووقع بعض نوابه، ليسفر هذا عن نموذج فريد لتسوية سياسية مشوهة ما زالت أصداؤها تعقد الأوضاع الليبية حتى الآن، بخاصة أنها كانت مؤسسة على فرضية روج لها ليون وأساسها أنه لا سبيل لتحقيق الاستقرار السياسي من دون مشاركة الإسلام السياسي في الحكم، وأن هذا سيحقق لها تحولاً نحو الاعتدال، وهي فرضية لم تثبت في أي مكان في العالم، بل ربما تكون نتائجها عكسية تماماً في ليبيا، وكثير من النماذج الأخرى.
في الحالة السودانية يبدو تدخل المبعوث الأممي لصالح جبهة القوى الثورية في الشارع السوداني من وجهة نظر القوات المسلحة السودانية، وبعض القوى السياسية التقليدية ومن بينها قوى الإسلام السياسي تبدو حالة معاكسة للنموذج الليبي الذي ما زال يدور في إطار ترتيب الصخيرات.
وفي حالة ثالثة نحو سوريا دارت الجهود الأممية في جزء منها حول مفارقة جوهرية، وهي توحيد معارضة وهمية مربوطة بقوى إقليمية، ولا علاقة لها بالصراع والحرب الأهلية الدائرة في البلاد إلا في ما يتعلق بدور هذه الأطراف الإقليمية في هذا الصراع.
الإشكالية في سياق شامل
على رغم مما قد يبدو عليه الأمر من تناقض هذه النماذج، فإن التحليل العميق لتجارب التدخل الأممي كلها يطرح بعض الدروس التي قد تفسر هذه الإشكالية، فالرابط الواضح بين كل هذه النماذج هو في نهج تعيين هؤلاء المبعوثين الأمميين، وسيطرة التوجهات الغربية على هذا الاختيار، وهي سيطرة تبدأ من الترشيحات، وتفسر وجود غالبية ساحقة من الأوروبيين في هذه المواقع.
والواضح أيضاً أن حجم الزخم والقوة التي يتمتع بها المبعوث تتوقف على حجم الدعم الذي توفره دولته، وهذه القوى الغربية، فعلى سبيل المثال فإن مستشارة الأمين العام لشؤون ليبيا الدبلوماسية الأميركية ويليامز التي تولت هذا المنصب بعد الفيتو الروسي على تعيينها مبعوثاً للأمين العام للأمم المتحدة بعد سجلها كقائمة بالأعمال لبلادها في ليبيا تمتعت بمساحة حركة واسعة ربما لم يتمتع بها مبعوث سابق، ومن الواضح أن هذه المساحة كانت مرتبطة بدعم واشنطن لها .
وفي جميع الأحوال في كل هذه الحالات يمكن ربط توجهات المبعوثين بالتوجهات الغربية بشكل واضح، وبحسب التيار الأكثر قوة في العواصم الغربية تجاه نهج التعامل في ساحات الصراع المختلفة. من هنا يمكن الربط ببساطة بين توجهات المبعوثين والتوجهات الغالبة لدى القوى الغربية في شأن كيفية التعامل مع هذه الصراعات.
وفي بعض هذه الأحوال قد يحدث تعيين مبعوثين من خارج العواصم الأوروبية، لكن بمساحة حركة أقل بكثير مما يتاح لنظرائهم الأوروبيين، رغم حرص أغلبهم على الارتباط بالتوجهات الأوروبية، من دون نفي وجود حالات لمحاولات لعب دور مستقل لدى أقلية من هؤلاء المبعوثين.
يضاف إلى كل هذا تعقيد إضافي ومنطقي نابع من طبيعة مهام الوساطة ذاتها وصدامها مع توجهات ومصالح وقيم المبعوث وقناعاته الشخصية، فضلاً عن صعوبة نابعة من عدم دراية كافية لبعض المبعوثين الدوليين بحساسيات بعض المجتمعات، أو درايتهم بشكل كبير نتيجة انتماءاتهم لدول جوار هذه الصراعات، ما يثير حساسيات ومشاعر توجس من الفاعلين السياسيين المتورطين في هذه الصراعات. وفي الحقيقة أن هذا البعد في ذاته كاف لتوضيح حجم صعوبات مهام الوساطة في ساحات صراع أغلبها شديد التعقيد ومليء بالتشابكات الداخلية والخارجية.
وفي النهاية قد تؤدي تطورات الصراع في السودان وضغوط غربية مكثفة إلى تجاوز أزمة المبعوث بيرتس، لكن المؤكد أنه إذا سارت تحولات النظام الدولي نحو مزيد من تراجع الهيمنة الغربية على العالم أنه سيكون لهذا انعكاسات على المنظمة الدولية، وأنه ستحدث تطورات طبيعية وضرورية تراجع من التقاليد الجارية حالياً في اختيار هؤلاء المبعوثين ونهج عملهم، على أن هذا أمر ما زال قيد التبلور.
المصدر: اندبندنت عربية