إيهاب عبد ربه: روائي سوري ، شهوة الجدار روايته الثانية التي نقرأها، بعد روايته: آخر ما تبقى من الزنبقة، ايهاب من الروائيين الجدد الذين ظهرت إبداعاتهم بعد الربيع السوري ٢٠١١، نستطيع القول أنه وعبر عمله الروائي يؤرخ للثورة السورية وما صاحبها انسانيا، من جميع النواحي، ينتمي للثورة السورية بالطبع، ننتظر إبداعات أخرى له، أنه طاقة روائية متميزة ، وله مستقبل واعد في عالم الرواية السورية والعربية عموما.
تبدأ رواية شهوة الجدار من مشفى الأمراض العقلية والنفسية في دمشق، والزمان في ٢٠١٤ تقريبا، حيث يتابع الطبيب النفسي “ماهر” حالة المريضة “رود”، التي وصلت صدمتها النفسية إلى درجة الجنون، ويعتقد الطبيب ماهر انها تحتاج للبوح بما عاشت وما عانته، وذلك يساعدها على الشفاء، أو استعادة توازنها النفسي، هي ترفض أن تتكلم بما مر بها، انها تتعذب من مجرد أن تتذكر ما عاشته في سنوات الثورة ، فكيف لها ان تعيد سرده من أجل أن ينجز الطبيب ماهر بحثه العلمي. يستعين ماهر بممرضة “سماهر” في متابعة حالة رود، التي كان قد استطاع اخراجها من أحد الأفرع الأمنية الكثيرة التي واجهت ناشطي الثورة السورية، ووضعها في مشفى خاص يشرف عليه صديقه الطبيب مصطفى، رود وبعد عناد دام لاشهر قررت أن تبوح بما عندها للطبيب ماهر، في غرفة خاصة وأمام جهاز تسجيل رقمي، وبعد أن هيأتها الممرضة سماهر بدأت تتكلم عن حالتها: رود شابة في مقتبل العمر دخلت حديثا إلى الجامعة كلية الحقوق، تحلم أن تكون مدافعة عن حقوق الناس، أسرتها متواضعة، كانت من الشباب والفتيات الذين استجابوا للحراك الشعبي من أجل الحرية والعدالة والكرامة، لأجل استرداد كل الحقوق، وفي مواجهة استبداد عمره عقود في سورية، إنها استجابة الربيع السوري، عاشت اندفاعها الأول، وبدأت بالتظاهر مع أعداد قليلة من الشباب والفتيات، يتواصلوا عبر الانترنت، أو بشكل شخصي، يختاروا الأماكن التي يستطيعون فيها حشد أكبر عدد ممكن، وكانت الجوامع وجهتهم، وأيام الجمع بشكل أساسي، كانوا يدركون أن التظاهر يعني الاعتقال أو الموت، فالنظام مختبر ولا يسمح لأي مظهر معارض ان يتواجد، لكن اندفاعا من اجل الحرية كانت اقوى من الخوف عند رود وبقية المتظاهرين، الأمن بدأ بمواجهة المظاهرات، انتشرت شبيحته تفتك بهم، وهم يخافون ويواجهون ويهربون، وسرعان ما يخططون لتظاهرة قادمة. رود استمرت على هذه الحال ، والتظاهر توسع وامتد ليشمل البلد كلها، والنظام استشرس في المواجهة، وفي مرة كادت أن يقبض عليها، ولكن احد الشباب سارع لانقاذها من أيديهم، هربت هي، لكنه أصيب بعد ضرب من قبل الأمن بشدة، وتبين أنه ابن عمتها “عصام” وكانت إصابته بليغة وأصيب بشلل دماغي واصبح طريح الفراش، وهذا جعل رود تصر على الثورة أكثر، لقد أصبح لها ثأر شخصي، تطور التظاهر وأصبح له منسّقين ومخططين، وكانت رود منهم، وتعرفت على احد الشباب المتظاهرين واحبا بعضهما، لقد أصبحت الثورة عند رود حلمها بالحرية لها وللشعب، وأصبحت المناخ الذي تعيش به تجربة حب يجعلها تعيش أحاسيس إنسانية رائعة، عاشت مع حبيبها أجواء التظاهر ، التحضيرات والمواجهات، والهروب من الأمن واسعاف الجرحى، وإيواء المتوارين، لقد أصبحت رود معروفة من الناشطين والأمن، وأصبحت مطلوبة للجهات الامنية كلها، وبعدها حبيبها ان يستمر معها وفي الثورة وأن لا يتركها مطلقا، لكن تطور الأحداث وانتقال النظام لمرحلة العنف المسلح في مواجهة المتظاهرين، وبداية تشكيل المجموعات المسلحة لمواجهة الأمن، وضعف الحراك السلمي، واعتقال كثير من الشباب والصبايا الناشطين، جعل العمل في شأن الثورة أكثر صعوبة، في هذه الأجواء اختفى حبيبها، لقد غادر إلى خارج سورية، وظهر بعد حين يتكلم باسم الثورة والثوار، خارج سورية، لقد أحست أنه خانها شخصيا، فكيف يتركها؟، ويترك الساحة، ولمن؟، ومع ذلك هي لم تستسلم بل تحول دورها حسب ما يحتاج واقع الحال، فقد التحقت في العمل الطبي الميداني، لقد أصبح هناك مصابين في الثورة يحتاجون لمعالجة، من يصل ليد النظام مصيره الموت، المشافي الميدانية كانت الحل، عملت رود مع الطبيب نور مساعدة وشبه ممرضة. أما على مستوى الثورة فقد أدرك أغلب الناشطين، ضرورة التحول للعمل العسكري وانتقال الكثير من الشباب لحمل السلاح، لحماية التظاهر بداية، ثم لمواجهة قوات النظام ، وأن الصراع أصبح عسكريا، وأن العمل السلمي والتظاهر اضمحل لدرجة الغياب، وصار الثائر المقاتل هو المتحكم بمسار الحراك في الثورة، وبعد غياب أغلب الناشطين قتلا أو اعتقالا أو هروبا من البلد، وأن الكل تورط بنقل الثورة إلى مربع العنف الذي يريده النظام، وهو الأقوى به، وحيث أفرج النظام عن المعتقلين الإسلاميين ممن كانوا في العراق وأفغانستان، ينتمون للقاعدة وغيرها، وكيف زرعت الثورة بالتوجه الطائفي، بدلا عن التوجه الوطني الديمقراطي، الحرية والعدالة والكرامة، وكيف جاء التمويل الخارجي، للعمل المسلح وغيره، وكيف أصبحت سورية قبلة لكل من يود أن يقاتل ومن أي توجه كان، وأغلبهم لبناء دولة الإسلام، وكيف تقاطعت وتصارعت وتوافقت مصالح دولية وإقليمية كثيرة في سورية، وأصبح الحراك الثوري المدني والعسكري بيد القوى الداعمة التي لم يعرف ماذا تريد بالضبط من سورية؟. في هذه الظروف اختارت رود استمرارها في العمل الطبي في المشافي الميدانية بجوار الطبيب نور، حيث أصبح الأطباء نادرين الأغلب قتل أو اعتقل أو غادر مملكة الموت سورية.
في مسار آخر في الرواية التي تعتمد تقنية الفصول، وفي كل فصل تتحرك في مسار موازي أو متقاطع، ليكتمل نسيج الرواية أخيرا، ضمن بنية فنية ناجحة وجذابة للقارئ. سنتعرف على الشاب السوري الهارب من بلاده “هاني”، الذي يلتقي التونسية “منى” في باريس، تعارفا وتكلم كل منهما حكايته للآخر، منى تبحث عن ابن أخ زوجها السابق “حاتم” ، الذي ربّته وتعتبره بمثابة ابن لها، هي كانت قد تزوجت في تونس وأنجبت طفلين من زوجها، واختلفت معه وتطلقت منه، ثم تزوجت من آخر موجود في اوروبا، وعاشت معه فترة وتطلقت منه ايضا، لانه كان سيئا، وعاشت في بيت ريفي على أرض زراعية تنتج منها ما تعيش به في إحدى ضواحي باريس، مشكلتها أن أخبار حاتم قريبها قد انقطعت عنها، وذلك بعد أن بعث إليها مجموعة من الرسائل، وهي الآن تبحث عن طريقة تصل من خلالها إلى حاتم، استنجدت بهاني السوري، وعدها ان يساعدها، اطلع على الرسائل، التي يتحدث فيها حاتم عن نفسه وما حصل معه، فقد وصل إلى سن السادسة عشر، يحلم مثل كل تونسي أن يذهب إلى اوربا، حيث يبني حياة سعيدة، ظروف الحياة في تونس سيئة، لا عمل ولا أفق نحو حياة أفضل، اتفق مع مهربا للبشر، وضع في قعر سيارة التهريب لخمسة أيام حتى وصل لباريس، وهناك اكتشف انه وحيد ولا حول له لا قوة، وجوده الغير نظامي يجعله في أي وقت معرض الاعتقال والسجن والطرد من فرنسا ، تعرف على ” الأعرج” شاب جزائري يعمل في ترويج وبيع المخدرات، عمل معه في البيع، كان ينهك من العمل، ويحصل على عائد قليل يجعله بالكاد يعيش، قرر أن يعمل لحسابه، عرف الأعرج بذلك وواجهه واعتدى عليه. ساعدته إحدى العاهرات الافريقيات ، عالجت جروحه حتى شفي، ولم يكن أمامه فرصة للعمل، قرر أن يبحث عن من يساعده ليحصل على إقامة نظامية، وتعرف على إحدى النساء الفرنسيات الكبيرة في السن وتبحث عن شاب يمارس معها الجنس، تطعمه وتأويه في بيتها، وتستغله جنسيا، لقد قام بدور “الكبش”، تقبل وضعه الجديد بداية، لكنه مع الوقت اكتشف أن المرأة لن تساعده في الحصول على الإقامة، وأنها تستثمره فقط، وعندما يمل منها أو تمل منه، تتركه لشاب غيره وهو يعود للضياع. وسرعان ما تعرف على شباب أخذوه للمسجد، ومنه بدأ الصلاة والتعبد والتقى هناك من جنده ليكون مجاهدا في سورية، ضد ظلم النظام الطائفي، لبناء دولة الإسلام، وهكذا غادر إلى سوريا عن طريق تركيا. طلبت منى من هاني المساعدة على ايجاد حاتم في سورية، وقرر مساعدتها، سافرا سوية الى تركيا، وعلما انه قد غادر إلى الداخل السوري والتحق هناك بالمجموعات المجاهدة، سنعرف ان سورية أصبحت ممتلئة بكثير من العرب والمسلمين، الذين يحملون أجندة اسلامية، بعضهم ينتمي للقاعدة، والبعض ينتمي للدولة الإسلامية، وأنهم يعملون لاجندتهم الخاصة، يعلنون أنهم مع مطالب السوريين لكنهم، يتصرفون لبناء دولتهم “الاسلامية”، لقد تغيرت معالم الثورة في سورية، لم يعد هناك حراك سلمي، عنف النظام وصل لمستوى القصف والتدمير والتشريد للناس من بيوتها ومدتها و بلداتها، والمجموعات المقاتلة مغلوب على امرها، محكومة من قادة لا نضج سياسي لهم، ومسيطر عليهم من داعميهم، القاعدة والدولة الإسلامية يقاتلون في سوريا، بحثت منى عن حاتم وعلمت أنه قاتل مع بعض مجموعات الجيش الحر، ثم التحق بتنظيم الدولة الإسلامية، قررت أن تصل إليه و تحاول أن تعيده معها الى باريس، تصل إلى مناطق داعش، تتفاجأ بالقتلى المصلوبين على الشوارع، والرؤوس المقطوعة، وعندما تسأل عن السبب يأتيها الجواب انهم اعداء الله، وعندما تقترب من منطقة تواجد حاتم الذي كان يشارك في الهجوم على أحد المطارات التي كانت تحت سيطرة النظام، وتهاجمهم طائرة وتقصفهم و تغيب عن الوعي وتسعف، وتقرر بعد صحوها ان تعود إلى فرنسا يائسة، قريبها قد ضاع منها .
وبالعودة لمسار ما حصل مع رود والطبيب نور وعملها في المشافي الميدانية، حيث تطور عمل المجموعات المسلحة، التي قررت أن تسيطر على المدينة التي تتواجد بها رود والطبيب نور، هاجم المسلحون مراكز الشرطة والمراكز الأمنية ومراكز الدولة في المدينة، وبعد فترة سيطروا عليها واعتبرت مدينة محررة، ولكن ذلك لم يستمر طويلا فسرعان ما عاد النظام وسيطر على المدينة، هرب أغلب المسلحين، رود والطبيب نور قرروا الاستمرار بعملهم، رغم كونهم مطلوبين من كل الفروع الامنية، ودخل الجيش والأمن إلى المدينة، اعتقلت رود ونور، اقتيدوا إلى المعتقل، في المعتقل ستعيش رود أجواء قهر وتعذيب شديد، تستنجد دائما بصورة حبيبها، في المعتقل كل شيء مستباح، والمرأة مستباحة جسديا بالتعذيب والاغتصاب، والقتل محتمل ولا محاسبة عليه، طالبوها بمعلومات عن المشافي الميدانية، لكنها لم تقدم لهم ، عذبوها بكل انواع التعذيب ولم تقل شيئا، ووصلت الى الجنون، كان في الزنزانة المجاورة لها شاب، وبين الزنزانتين ثقب صغير يتبادلان من خلاله، التشجيع والتواصل والتوادد النفسي، داخل المعتقل وجدت رود في المعتقل المجاور لها كوّة امل، ويكتشف ثقب التواصل من الأمن، وقرروا إعدام الشاب وهو حاتم التونسي أمامها، وهذا ادى الى اختلالها العقلي. بعد ذلك يصل إليها الطبيب النفسي ماهر، الذي يعالجها ، ويساعد على خروجها من المعتقل، ويعمل على مساعدتها عن طريق البوح بما لديها، وفي وقت ما سيهرب معها للخارج، ويلتقيان بناشطين آخرين ليكشفوا ما يحدث في سورية.
تنهي الرواية في مؤتمر داخل مركز الاتحاد الاوروبي، تحضره رود و ماهر ومنى وهاني، والمتحدث فيه حبيب رود ، الناشط الذي غادر باكرا وصار مشهورا وله حضور بالمحافل الدولية ممثلا للثورة، يقدم شهادات رود عن نفسها وعن الطبيب نور وعن واقع الحال في سورية المعتقلات والسجون، وتقدم منى شهادتها ايضا، لقد فضح النظام وقدم عنه كل ما لديه عن إحرامه وأفعاله ضد الإنسان والشعب السوري، وعندما ينتهي المؤتمر، يحضر الممثل الدولي لحقوق الإنسان، ويخاطب الناشط، ويقول له إن هناك أدلة أخرى اتته تؤكد فبركة كل ماقاله، وأن الأمر يحتاج لمزيد من التدقيق والتحقق لنصل لمرحلة التجريم الجنائي.
في تحليل الرواية نقول: إننا أمام رواية نموذجية عن واقع الثورة السورية عبر أكثر من ثلاث سنوات، أحداثها تنتهي في ٢٠١٤م، وهي بمقدار ما أخلصت لمحتواها التوثيقي لواقع الثورة السورية على كل المستويات، أخلصت للجانب الفني في متابعة أبطالها وأحداثها وخيوط تشابكات حياتهم وما أحاط بها. المشاعر المعاشة لأبطال الرواية صادقة وعميقة ومعبرة، لا محرمات ولا حدود في قراءة و استبطان الذات الإنسانية في تعقيداتها، وفي أكثر الظروف صعوبة ومأساوية. لا يغيب هاجس التوثيق عن الرواية، فالثورة عاشت مرحلة العمل السلمي وبداية التسلح وظروفه واستثماره من النظام، استثمار القوى الدولية والإقليمية لما حصل ويحصل في سورية، ترك الشعب السوري ضحية على مذبح المصالح الدولية، وتركه ضحية احتمال أن ينجو النظام من جرائمه كلها.
نهاية الرواية مخيفة، ان مشهديّة ما حصل في سورية، قتل أكثر من مليون انسان، والمصابين والمشوهين والمعاقين بقدرهم، تدمير أكثر من نصف البلد، هروب وهجرة ولجوء أكثر من نصف الشعب السوري، توزيعهم في كل العالم. شبعت منهم أسماك البحار، رفضتهم كل دول العالم، ومع ذلك يشكك مسؤول أممي بحقيقة ما يحصل، هل هناك عار أسوأ من عار العالم المعاصر بحق الشعب السوري الضحية المظلوم؟!!،