الحلقة العاشرة والأخيرة: “البرنامج السياسي، وقفة حاسمة في حياة الحزب” 6/6
خلاصات
لقد جاء الانقسام ضربة مباشرة لكل المضامين التي حملها المشروع، ودفع الحزب أشواطا بعيدة إلى الوراء، ولم يأت هذا كله نتيجة الانقسام كحدث، فهو عدا عن كونه ـ في حينه ـ انقسام أقلية، فقد كان من الممكن أن يتحول إلى عامل دفع وتقدم للحزب، وإنما جاءت هذه الضربة بفعل ترافق هذا الانقسام مع عوامل عديدة في المقدمة منها الظروف القومية والوطنية التي رافقت حدوث هذه الأزمة، وبفعل القوى التي استعديت على هذا المشروع، داخل الحزب، وداخل سوريا، وعربيا، وعلى المستوى الدولي، وكذلك بفعل حجم وجذرية القضايا التي حملها المشروع ذاته :
1ـ فحينما طرح مشروع البرنامج السياسي للحزب، كان الوطن العربي يعيش ـ رغم النكسة ـ حالة تقدم عامة، وكانت عوامل النكسة تتراجع باستمرار، وعوامل القوة، والوحدة، والتقدم، ترفع راياتها، وكانت المقاومة الفلسطينية تبدو في أزهى حللها. ومثل هذا الوضع لم يدفع فقط إلى أن تطرح قضايا البرنامج على النحو الذي طرحت فيه، وإنما فرضت على معارضي البرنامج أن يحنوا رؤوسهم للعاصفة، وأن يبدوا موافقتهم على كافة نقاط البرنامج دونما استثناء اللهم إلا في نقطة واحدة، وشكلية.
هذا الوضع التقدمي لم يستمر طويلا، فسرعان ما دخلت المقاومة الفلسطينية أزمتها في الأردن، وكشفت عن مقدار الأمراض التي تحملها، وانتقلت القيادة الثورية الممثلة بجمال عبد الناصر إلى جوار ربها، وقام الرئيس المصري أنور السادات بردته، ورغم عقده معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفياتي، وإعلانه قيام اتحاد الجمهوريات العربية فإنه بدا يتكشف سريعا أمام القوى المراقبة للمنطقة حقيقة التغيرات الجارية، وإذا كان ترحيل الخبراء السوفييت قد اعتبر دليلا مكشوفا على منهج السادات، فإن هذه القوى كانت تملك أكثر من دليل، ثم ظهرت على التوالي اتجاهات الردة، فلم يأت عام 1974 حتى أصبحت لا تخفى على أحد، رغم الظلال الضخمة التي أثارتها حرب تشرين / أكتوبر على اتجاهات الردة .
إن خط الاستسلام هذا غطى المنطقة العربية كلها، فانهزمت أمامه ـ ولو إلى حين ـ رايات الحرية والاشتراكية والوحدة، وإذ أصبحت هذه هي الرايات التي يرفعها الحزب الشيوعي في برنامجه فقد كان طبيعيا أن تتأثر بذلك أعمق التأثر، وأن تتراجع القوى الدافعة بهذا البرنامج، وأن تبدو علامات التقلقل والتأرجح، فقد أصبح وضعها في معمعة الهزيمة كالقابض على جمرة من نار، لا يستطيع أن يستقر لحظة، ولا أن تتاح له فرصة التفكير الهادئ لترتيب تكتيكاته، وخطوط سيره، وقد كانت هذه القوى في أمس الحاجة لهذه الفرصة الممتنعة نتيجة حداثتها في هذا الطريق .
2ـ ويبدو أن قوى الأغلبية الحزبية التي وقفت خلف هذا البرنامج نظرت ـ وفق الظروف المتاحة ـ إلى القوى المعارضة لها نظرة لم تتجاوز وزنا معينا، وكانت على حق إلى حين أن تغيرت الظروف العامة، فاستقوت هذه القوى المعارضة بهذه الظروف، وضمتها إلى رصيدها، فبدت أكثر شراسة وأقوى قدرة مما كان مرصودا فيها.
إن الأغلبية الحزبية التي بقيت راضخة ستة وعشرين عاما للجانب المعمول فيه من المركزية الديموقراطية، ومن مبادئ التنظيم اللينينية، ظنت أن القيادة التاريخية الفردية للحزب سوف تخضع عبر المؤتمرات إلى ذات المبادئ، تماما كما خضعت مؤسسات وكوادر الحزب إلى ذات المبادئ كل تلك الفترة، وقد كان هذا الظن وهما صرفا.
لقد سجل المؤتمرون صورة من أنصع صور النقد والنقد الذاتي، وعددوا الدوافع التي وقفت سواء خلف حقيقة غياب المؤتمر لهذه الفترة الطويلة، وبروز وتمكين مفاهيم عبادة الفرد، أو دوافع الخوف من الوحدة، ولكنهم على الوجهين لم يقدروا وزن وأثر هذه الدوافع والمفاهيم في سلوك قيادات وكوادر بعينها، واعتقدوا أن النقد كاف ٍلتطهير مثل هذه العوامل المرسخة في الحزب أجيلا بعد أجيال.
واستطاعت الأقلية هذه لا أن تستفيد من التراجع القومي الثوري، وإنما أيضا من خبرتها في إطار العلاقات الدولية في جعل الموقف الشيوعي الدولي والعربي ويصب إلى جانبها، فقامت عملية محاصرة مباشرة للحزب الشيوعي الشرعي دوليا، وصدر أكثر من تحذير للأحزاب الشيوعية العربية بالتزام جانب تلك الأقلية الحزبية، وبالامتناع عن التجاوب مع قيادة هذا الحزب.
وجاء الوضع الداخلي السوري ليضيف إلى هذه الأقلية قوة مؤثرة، حيث اعتُمد “خالد بكداش” كممثل عن الحزب الشيوعي في الجبهة الوطنية التقدمية في سوريا، ويبدو مثل هذا الاعتماد غريبا، لكننا نستطيع أن نفهم دواعيه سواء حين نتوقع القفزة الكبيرة التي سيحققها الحزب الشيوعي لو وقف يدا واحدة خلف هذا البرنامج، أو بدارسة تطور الوضع السياسي العربي من وجهة نظر الحكم السوري في تلك المرحلة، واستمرار هذا التطور لاحقا.
إن النظام السوري مشى خطوات معينة مع السادات، لكن سرعان ما تبين له أن استكمال هذا الخط يحمل له الدمار الداخلي، لذلك وقف في هذا الطريق عند حدود معينة، وأصبح واضحا له عند هذه الحدود أن التحالف مع الاتحاد السوفياتي هو الموازن الحقيقي للوقوف في وجه الخلل الذي أحدثته مسيرة السادات، والقيادة الممثلة بخالد بكداش هي القيادة المعتمدة من قبل الحركة الشيوعية الدولية، فكان لابد له أن يعتمدها هي في علاقاته الجبهوية، وأن يعمل على استبعاد الآخرين، ليس فقط من إطار الجبهة وإنما أيضا من إطار العلاقات الإيجابية.
كذلك يبدو أيضا أن التعامل مع حزب ضعيف يفتقد القدرة على إقامة الصلات مع الأغلبية الشعبية “مفهوم مركزي” وضعه الحزب الحاكم نصب عينيه في بناء الجبهة الوطنية التقدمية، وعلى أساسه تعامل مع كل التيارات السياسية في سوريا .
3ـ وأخيرا فإن هذا البرنامج لم يأت كتطور تدريجي في حياة الحزب، وإنما جاء يمثل قفزة ضخمة، وحاسمة، وقد يكون غياب مؤتمرات الحزب كل تلك الفترة هي السبب ـ كما تشير وثائق الحزب ـ، لكن تبقى الحقيقة أنه قفزة ضخمة وحاسمة، ولأنها كذلك فإنها كانت بأمس الحاجة إلى فترة من الزمن تُهضم داخل الحزب، وتتمثله قواعد الحزب وكوادره وهو ما لم يتحقق.
إن أغلبية الحزب كانت مع هذا البرنامج، كان هذا واضحا باستمرار في كل مراحل الأزمة، لكن الفارق ضخم بين أن تؤيد الأغلبية، وبين أن يصبح نهجا عندها، وواضح أنه عندما بدأت الأزمة تفعل فعلها، وحينما تكتلت كل الظروف والعوامل المناوئة، لم يكن هذا البرنامج قد أصبح بعد نهجا عند الحزب، إذ سرعان ما بدأت التكتلات داخل الحزب، وبدأت عمليات التثقيف الجانبية بهذا الجزء أو ذاك من البرنامج، وعمليات التشويه له، مما جعل قاعدة الحزب، وجزءا من كوادره المتفقة على هذا الطرح تعيش حلة من انعدام الوزن أمام سيل الصراعات الجانبية، والصور المشوهة، وأمام الاتهامات الخطيرة التي بدأت ترمى في اجتماعات الحزب وميادينه، وعمل هذا الجو عمله في ظل التراجع العام للثورية العربية.
باختصار:
” فإن رواسب مشاعر الأقليات القومية، ورواسب العقلية الإقطاعية، ورواسب الإقليمية، والخوف البرجوازي من التقدم الاجتماعي، والتربية المستمرة على مفاهيم عبادة الفرد ـ تحديدات ظهير عبد الصمد ـ، استطاعت في ظل التراجع القومي الثوري، أن تضيف إلى قوتها ضغط الظروف الداخلية والقومية والدولية، وأن تعاود الهجوم على هذا البرنامج، وان تسجل عبر عدة سنوات نقاط نصر عليه “.
لقد فتح الانقسام الذي قاده خالد بكداش باب التشرذم في جسم الحزب الشيوعي السوري، وهو باب يبدو أنه لن يغلق في مثل هذه الظروف، وإذا كانت الأغلبية التي أصبحت تعمل باسم الحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي، لم تستطع أن تتماسك تماما، فإن هذا التماسك غير متاح لجماعة خالد بكداش ذاتها، وكما أصابت الانقسامات الجناح الأول، فإنها أصابت جماعة بكداش بشكل يبدو أخطر، وسيبقى الحزب الشيوعي السوري في هذه الدوامة حتى تستعيد الحياة العربية عافيتها، وتعاود الثورة العربية مسيرتها، وحينذاك فقط فإن المفاهيم الجديرة بالحياة التي طرحها برنامج الحزب الشيوعي سوف تستعيد تفتحها، ونضارتها، وقوتها.
إن تجربة الحزب الشيوعي السوري تعطي دروسا غنية لا تقدر بثمن، سواء على جبهة الفكر، أم على جبهة التنظيم، أم على جبهة الحياة نفسها، جبهة التفاعل السياسي العام:
** فعلى جبهة الفكر: تبرز الحقيقة الجلية التي تقول: إن الحاجة أقوى من الأيديولوجيا، وحركة الواقع الحي أقوى من الأفكار، وإن الأفكار ثورية، وتقدمية، وفاعلة بمقدار ما تعبر عن الاتجاهات التاريخية الصحيحة في هذا الواقع.
لقد بقي هذا الحزب يقاوم شجرة الحياة الزاهرة بالروح القومية ردحا طويلا من الزمن، لكن تفتحت في النهاية الأزهار اليانعة في هذه الشجرة، وأثبتت قدرتها على النمو داخل جسمه، وأن تطوع أفكاره ومفاهيمه لحقائقها واحتياجاتها.
** وعلى جبهة التنظيم: ظهرت الخطورة البالغة لغياب الديموقراطية، ولتمركز الأقليات، والروح الإقليمية المتخلفة، في موقع القيادة المنفردة، وقدرة هذين العاملين على أن يكسرا كل القيم والمفاهيم الإيديولوجية حزبيا، ولو كانت الحياة الحزبية ديموقراطية لأمكن تقويم أثر هذه النعرات المتخلفة في جسم الحزب.
** وعلى جبهة الحياة: فإن تجربة الحزب الشيوعي أثبتت أن أجواء الحرية، هي الأجواء الوحيدة التي تصلح لنمو الأفكار الصحيحة، وأن ما تستطيع أن تفعله الحرية في جسم سياسي في فترة محددة لا يمكن أن يحدث ولا بأضعاف هذه الفترة في أجواء الكبت والضغط، أو في أجواء التأثيرات الخارجية القهرية.