لجأ كثيرون لتحويل المدخرات إلى الدولار والذهب والعقارات بعدما هجروا الشهادات البنكية ومحللون: على الحكومة التحرك سريعاً. في إحدى القرى النائية بدلتا مصر يقف (أ.ج) داخل دكانه الصغير مترصداً أي شخص يبحث عن الدولار بيعاً وشراء، ويدخل أحد من ينوون تغيير العملة الأجنبية يسألونه مباشرة “كم سعر الصرف اليوم”؟
يتريث قليلاً قبل الإجابة ثم يذهب بعيداً من أعين السائل ويجري اتصالاً هاتفياً قبل أن يعود مرة أخرى ويخبره “39 جنيهاً للدولار في مقابل الجنيه، إذ يتغير سعر صرف العملة هبوطاً وصعوداً بشكل يومي وحتى لحظي، وأياً كان رد فعل السائل رفضاً أو قبولاً فإن العملية برمتها تتم في سلاسة.
“الجنيه لم يعد مجدياً”
في حال المبالغ الصغيرة من الـ 50 دولاراً وحتى الـ 200 والـ 300 دولار أميركي أو ما يوازيها من عملات أجنبية أخرى ينفذ (أ.ج) الصفقة بمعرفته، أما إذا كان المبلغ أكثر من ذلك فيرتب موعداً مع أحد القادمين من مكان أبعد، ويأتي وقد أحيط علماً بالمبلغ المراد بيعه أو شراؤه ويدفع المقابل بالعملة المحلية ويتحصل على العملة الأجنبية ويرحل، وهكذا دواليك.
“لست الوحيد هنا في القرية الذي أتعامل مع العملة الأجنبية، إذ يوجد كثيرون وأصبح الأمر شبه معتاد بعد أن أصبح محل ثقة في حفظ مدخرات المواطنين أو سبيلاً للمضاربة والحصول على فرق سعر يمكن من خلاله تحقيق مكسب سريع”.
يقول (أ.ج) في حديثه إلينا، “يتوافر الدولار بشكل رئيس لدى أقارب العاملين بالخارج ويبقى مخزناً مهماً للقيمة أمام تزايد الأسعار بشكل شبه يومي، وما يمكن ادخاره جراء بيع بعض البضاعة وحتى حفظ قيمة الأموال للحصول على بضاعة جديدة”.
ما قاله (أ.ج) الذي يبلغ من العمر 30 عاماً لا يختلف كثيراً عن حديث آخر يبدو مقارباً في الأبعاد والدلالات، ويقول (س ف) الذي اختار حفظ مدخراته من خلال شراء أي بضائع يسعى المحيطون به إلى بيعها، لا سيما المشغولات الذهبية أو بعض السلع والمنتوجات المعمرة كحديد التسليح والسيارات والأجهزة الكهربائية وغيرها، بعد أن بات سعر تلك المنتجات يقفز بشكل غير مسبوق على مدار الساعة.
“الاحتفاظ بالعملة المحلية لم يعد مجدياً في الوقت الراهن، فالجنيه يخسر كثيراً من قيمته يومياً أمام أرقام التضخم السريعة الارتفاع، والرقابة على الأسواق تبدو معدومة ونقع تحت وطأة جشع التجار أحاول حفظ مدخرات أسرتي في شكل سلع ومنتجات”.
لم تكن تلك الشهادتان فريدتين من نوعهما، فعلى وقع احتدام الأزمة الاقتصادية في مصر وفقدان العملة المحلية أكثر من نصف قيمتها منذ مارس (آذار) العام الماضي، فضلاً عن شح العملات الأجنبية وارتفاع نسب التضخم، إذ وصلت في المدن إلى 32.7 في المئة في مارس على أساس سنوي، رصدت “اندبندنت عربية” في أكثر من منطقة جغرافية وبين طبقات اجتماعية مختلفة انتشار ما يسميه الاقتصاديون بالتحوط لدى المواطنين بحثاً عن طوق نجاة من “تبعات أزمة اقتصادية طالت الجميع”، لا سيما في وقت يتزايد في الحديث بين المتخصصين عن احتمالات إقدام الدولة على مزيد من خفض قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية (سعر الصرف الرسمي عند حاجز الـ31 جنيهاً للدولار الواحد فيما يتجاوز في السوق السوداء حاجز الـ40 جنيهاً)، مما يزيد في الوقت ذاته احتمالات “فقدان الثقة في العملة الوطنية” لدى المواطنين وفق بعضهم.
وبعد عامي جائحة كورونا يرجع المسؤولون المصريون تبعات الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد إلى الحرب الروسية – الأوكرانية المشتعلة منذ فبراير (شباط) العام الماضي، إذ هزت بتبعاتها قطاع السياحة في البلاد، أحد أبرز مصادر النقد الأجنبي، ورفعت أسعار السلع الأولية على بلد يستورد أكثر من 80 في المئة من حاجاته، فضلاً عن دفع المستثمرين الأجانب إلى سحب نحو 20 مليار دولار من أسواقه المالية لتضطر القاهرة إلى اللجوء مرة أخرى للحصول على حزمة دعم مالي بقيمة ثلاثة مليارات دولار على مدى 46 شهراً من صندوق النقد الدولي (جرى التوقيع عليها في ديسمبر “كانون الأول” الماضي).
التحوط بالدولار والذهب والعقارات
منذ مارس العام الماضي قاد تحريك سعر صرف الجنيه المصري في مقابل العملات الأجنبية خلال العامين في خلق حمّى متسارعة لدى قطاع عريض من المصريين للتخلص من مدخراتهم بالعملة المحلية، والتحوط ضد خفوضات جديدة محتملة قد يطالها، فقد تركزت بشكل رئيس مصادر تحوط المصريين في شراء الذهب واقتناء الدولار والعقارات.
ووفق متخصصين ممن تحدثوا إلينا، تحرك الذهب وللمرة الأولى ليصبح الاختيار الأول للراغبين في الحفاظ على قيمة أموالهم بدلاً من العقارات التي تراجعت للمرتبة الثالثة، إذ جاء الإقبال على الذهب بعدما مني حاملو الشهادات البنكية بخسائر كبيرة جراء التضخم البالغ نحو 40.26 في المئة خلال مارس الماضي، وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء المصري الذي تسبب في فقد قيمة مدخرات المصريين بالعملة المحلية، وما عزز من شره الإقبال على الذهب قانونية تداوله والحصول عليه، فيما جاء اقتناء الدولار والعملات الأجنبية المختلفة كملاذ آمن في المرتبة الثانية ضمن أنماط المصريين للتحوط على رغم الأخطار القانونية لحيازتها وتداولها خارج الأطر الرسمية.
وبحسب رصد “اندبندنت عربية” تعددت الوسائل والأساليب لدى من تحدثوا إليها للتحوط من انهيارات العملة الوطنية.
يروي “أحمد. ف” (موظف) تجربته في التحوط ضد التراجع الكبير في قيمة الجنيه، “لم أكن أهتم بسعر الصرف ولا القرارات الاقتصادية التي تتخذها الدولة، لكني أخيراً تعلمت الدرس من تحريك أسعار الصرف عام 2016 واستشعرت منتصف عام 2021 اتجاه الحكومة لخفض قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية فقررت في أكتوبر (تشرين الأول) 2021 الاحتفاظ بمبلغ بسيط من الدولار الأميركي محول إليّ من الخارج”.
ويضيف، “خلال أقل من عام تضاعفت قيمة الدولار الواحد 100 في المئة بالسوق الرسمية ليرتفع من 15.65 جنيه إلى 30 جنيهاً بخلاف السوق السوداء التي قفزت فيها السعر 150 في المئة”، مستكملاً “اتجهت إلى شراء السبائك الذهبية الصغيرة خمسة و10 غرامات بنهاية عام 2022 التي تضاعف سعرها بنسبة 30 في المئة حالياً”.
من جانبه، يقول تاجر طلب عدم نشر اسمه، “على رغم شح الدولار لدى البنوك فإنه متوافر في السوق السوداء، وغياب الثقة في الحكومة دفع المواطن العادي إلى البحث عن وسيلة للإبقاء على قيمة أمواله، ومن بينها ما بات يعرف باكتناز الدولار”، موضحاً أن “قرارات الحكومة لم تراع ظروف المواطن كما لم تحافظ على مدخراته بقرارات التعويم المتتالية والغلاء غير المسبوق والمواطن الآن غير معني، ولا تؤثر فيه الأزمات التي تتعرض لها البلاد”، مضيفاً أن “الحكومة ترى مصلحتها والناس أيضاً يرون مصلحتهم”.
وتابع التاجر لـ “اندبندنت عربية”، “غالبية من لديهم مدخرات بالجنيه يتخلصون من الجزء الفائض منها بتحويلها إلى الذهب أو الدولار، فهما الأسرع لجهة المكاسب وغير مرجح انهيارهما، وهما أفضل من العقارات التي تعاني هذه الفترة أزمات ضخمة”.
شخص آخر قال إنه وأسرته وأشقاءه حولوا أغلب مدخراتهم إلى دولار وجزء بسيط منها إلى سبائك ذهب، وأنهم يتداولونها في ما بينهم من دون التفريط فيها، إذ يتم الاحتفاظ بالسيولة الدولارية في ما بين أفراد الأسرة فقط، على أن يوفر أفرادها أي مبالغ بالجنيه قد يحتاجها أحدهم في مقابل تبديلها بدولار.
كذلك يقول المقاول تامر فتحي إنه “بعد التراجع الكبير في قيمة الجنيه أخيراً وجهت كل مدخراتي لشراء خامات من بينها كابلات الكهرباء التي ترتفع أسعارها بشدة”، مشيراً إلى أنه في بداية 2022 “اشترى كابلات بقيمة 25 مليون جنيه (800 ألف دولار أميركي)، وارتفعت قيمتها بعد أشهر قليلة لتصل إلى 53 مليون جنيه (1.7 مليون دولار أميركي)”.
وفي الاتجاه ذاته وأمام الأسعار غير المسبوقة في بعض المنتجات يروي الثلاثيني (ع.أ) الذي يعمل في مهنة المحاماة، “قبل نحو عامين قررت توفير بعض المدخرات لشراء سيارة، لكن تفاجأت ومنذ منتصف العام الماضي أن أسعارها قفزت إلى ثلاثة وأربعة أضعاف، مما يعني أنه كلما اقتربت من ادخار سعر السيارة باتت الأمور شبه مستحيلة”.
وتابع، “منذ نهاية العام الماضي اتخذت قراراً بتحول المدخرات إلى عملات أجنبية متنوعة لتعزيز قدرتي على الحصول على سيارة، لا سيما أن أغلب معارض السيارات ترجع باستمرار رفع الأسعار المبالغ فيه إلى سعر الدولار، فقررت أن أوفر الدولار بمعرفتي وأحاول الحصول على سيارة لعلها مخزن مناسب للقيمة أمام المنتج”.
وبخلاف الدولار والذهب جاءت العقارات ملاذاً آخر لمدخرات المصريين بعد هزات عنيفة تعرضت لها السوق خلال العامين الأخيرين أدى إلى تراجعها خطوات للخلف، وأسهم في هذا التراجع حال الغلاء الشديد في مدخلات البناء التي جعلت العقارات تحت الإنشاء ليست الملاذ الأفضل لحفظ قيمة الأموال.
ويقول المثمن العقاري والمتخصص في هذا الملف أيمن سكر إن “العقار كان حتى فترة قريبة الملاذ الأهم لحفظ الأموال، وأخيراً لم يعد كذلك بسبب ارتفاع أسعار مواد البناء خلاف القفزات التي حققها الذهب والدولار في حفظ قيمة الأموال”.
وأضاف سكر في حديثه إلى “اندبندنت عربية” أنه “توجد حمّى لدى المصريين للتخلص من الجنيه، وهي كارثة كبرى ستؤدي في لحظة ما إلى انهيار العملة الوطنية، وكثير توجهوا إلى شراء عقارات بالتقسيط بشكل يضمن الحفاظ على قيمة أموالهم مستقبلاً ولا يكلفهم التعاقد سوى سداد مقدم خمسة في المئة من قيمة الوحدة”.
وأشار المتخصص في العقارات إلى أن هذه الحيلة قام بها كثير للاستفادة من تراجع قيمة الجنيه المتوقعة خلال الفترة المقبلة، إذ تصبح أقساط الوحدة التي تسدد بالجنيه على المدى البعيد لا قيمة لها، لافتاً إلى أن مبيعات العقارات التي تعتمد في جزء كبير منها على أشخاص باعوا الذهب والدولار الذي بحوزتهم بهدف شراء عقار تراجعت أخيراً، مرجعاً السبب في ذلك إلى “فقدان الثقة في المطورين العقاريين على تسليم المشاريع المباعة، وللصعود الكبير في قيمة الذهب وقيمة الدولار مقارنة بالعقارات، وحرص المواطنين أخيراً على الاحتفاظ بمدخراتهم من الدولار والذهب باعتبارهما حصاناً رابحاً وأكثر أماناً في وسط الأخطار التي تسببت فيها حال التضخم، إلى جانب سهولة التصرف فيهما”.
ويروى سكر واقعة لأحد المستثمرين في المجال العقاري ويعمل في دولة خليجية، إذ حوّل جزءاً من أمواله بالدولار إلى الجنيه المصري مطلع عام 2022 لشراء مكتب إداري في العاصمة الإدارية الجديدة، وكان سعر الدولار نحو 16 جنيهاً مصرياً آنذاك، إذ تعاقد على الوحدة بسعر 40 ألف جنيه للمتر المربع، وهذا العام باع الوحدة بسعر 70 ألف جنيه للمتر المربع، ليكتشف تحقيقه خسائر كبيرة بعد تحويل المبلغ إلى الدولار الذي وصل في السوق السوداء إلى نحو 40 جنيهاً، ليربح بمقاييس الجنيه المصري ويخسر عند معادلة المبلغ بالدولار الأميركي.
وكان لافتاً تباين الأرقام الذي شهده الإقبال على الشهادات الادخارية التي طرحها عدد من البنوك المصرية بهدف كبح جماح التضخم وتقليص السيولة لدى المواطنين العام الماضي والحالي، إذ طرح بنكا “الأهلي” و”مصر” في الـ 21 من مارس 2022 شهادات الادخار ذات العائد المرتفع 18 في المئة لمدة عام واحد، وجمع البنكان من تلك الشهادة 750 مليار جنيه (25 مليار دولار) خلال 71 يوماً من طرحها قبل أن تتوقف.
لكن في يناير (كانون الثاني) 2023 طرح البنكان أيضاً شهادات بسعر فائدة يبلغ 25 في المئة سنوياً تصرف في نهاية مدتها، أو فائدة 22.5 في المئة سنوياً وتصرف شهرياً، وجمع البنكان نحو 300 مليار جنيه (10 مليارات دولار) قبل أن يتوقفا عن إصدارها، وفق بيانات رسمية من البنكين.
وتزامن إصدار الشهادات مع تحريك سعر صرف الجنيه المصري في مقابل العملات الأجنبية خلال مارس 2022 وأكتوبر 2022 ويناير 2023.
هل بات “التحوط” المنجاة الوحيدة؟
وفي وقت احتل الذهب المرتبة الأولى في قائمة وسائل التحوط ضد انخفاض قيمة الجنيه المصري ولجأ المصريون إلى شراء السبائك الذهبية بأحجامها المختلفة خلال العامين الأخيرين بدلاً من المشغولات التقليدية، باعتبارها مخزناً للقيمة ووسيلة للحفاظ على الأموال، فضلاً عن تمتعها بحماية قانونية وسهولة بيعها في أي وقت، جاءت العملات الأجنبية وفي مقدمها الدولار الأميركي في المرتبة الثانية ضمن وسائل تحوط المصريين بدافع المشكلات القانونية التي تواجه حائزيه أو المتعاملين فيه خارج السوق الرسمية، وفي ظل جهود مكثفة للسلطات المصرية لضبط تجار السوق السوداء المتعاملين في العملات بشكل عام.
ويقول المتخصص في تجارة الذهب بمصر سعيد إمبابي إن “الشهادات البنكية أصبحت غير جاذبة للمواطنين بسبب ارتفاع معدلات التضخم والتحريك المتكرر لأسعار الصرف وتآكل أرباح تلك الشهادات في نهاية المدة، إلى جانب تيقن أصحاب المدخرات من أنها لم تعد وسيلة لحفظ قيمة الأموال في ظل التدهور الكبير في سعر صرف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية، بل إنها أصبحت تحقق خسائر مالية لأصحابها”.
وأضاف إمبابي في حديثه إلى “اندبندنت عربية” أن “الذهب أصبح الملاذ الآمن لتلك الأموال، لا سميا مع عدم قانونية تداول الدولار والعملات الأجنبية، وعدم التيقن من سلامة الورقة النقدية ذاتها مما جعل الذهب الاختيار الأول للتحوط ضد أخطار انخفاض الجنيه المصري”.
ويكشف إمبابي عن الشرائح المهتمة بشراء الذهب أخيراً وغالبيتهم من أصحاب المدخرات المالية الصغيرة في حدود 50 و100 ألف جنيه (1000 و3 آلاف دولار أميركي)، فهؤلاء لا يمكنهم شراء عقار لكن تلك المبالغ مناسبة لشراء الذهب، سواء سبائك أو مشغولات، لافتاً إلى أن اقتناء العقار يحفظ القيمة على المدى الطويل، لكن من الصعب سرعة التصرف فيه وبيعه.
شركات “السبائك” تنبهت باكراً إلى تغير نمط المصريين، بخاصة من عملاء الشهادات البنكية وظهور شريحة جديدة تسعى إلى تحويل مدخراتها إلى ذهب، فبدأت الترويج لاقتناء السبائك وتصنيع الأحجام الصغيرة منها مما أدى إلى انتعاش سوق الذهب بشكل عام بخاصة في ظل انخفاض رسوم التصنيع على السبائك مقارنة بالمشغولات الذهبية، وفقاً لسعيد إمبابي.
وذكرت بيانات صادرة عن مجلس الذهب العالمي أن معدلات شراء المصريين من السبائك والجنيهات الذهبية تضاعفت على أساس سنوي بحجم يبلغ سبعة أطنان خلال الربع الأول من عام 2023 لتحتل مصر بذلك المرتبة الخامسة عالمياً من جهة الطلب على السبائك والعملات الذهبية خلال الربع الأول من العام الحالي، بعد كل من تركيا والصين واليابان وإيران، وأن الطلب على السبائك والعملات الذهبية في مصر ارتفع مقارنة بالطلب على المشغولات الذهبية الأخرى.
وأرجع مجلس الذهب العالمي السبب إلى تزايد إقبال المواطنين على الاستثمار في الذهب من أجل الادخار والتحوط من التضخم في ظل تراجع سعر صرف الجنيه وانخفاض القيمة الشرائية للعملة.
وارتفع سعر غرام الذهب “عيار 21” من 795 جنيهاً مصرياً (25 دولاراً أميركياً) في يناير 2022 وقفز إلى 2500 جنيه مصري (80 دولاراً أميركياً) بعد 16 شهراً فقط، بزيادة تفوق الـ 200 في المئة.
وأخيراً حاولت الحكومة السيطرة على ارتفاع أسعار الذهب في السوق المحلية بسماحها بدخول المعدن الأصفر مع العائدين من الخارج من دون جمارك، شرط أن يكون الذهب للاستخدام الشخصي وليس للتجارة، وأن تسدد ضريبة القيمة المضافة البالغة 14 في المئة.
من جانبه قال المتخصص في ملف أسواق الذهب وليد فاروق إن “المصريين باتوا غير واثقين في استقرار العملة المحلية، مما دفعهم إلى البحث عن بديل يحفظ قيمة العملة، وكان اختيار الذهب لأسباب عدة، أبرزها سهولة وقانونية الحصول عليه وحيازته بخلاف الدولار أو العملات الأخرى، إلى جانب وجود تسعير واضح للذهب حتى في ذروة الارتفاع السعري، بخلاف العملات التي يتم التعامل فيها في السوق السوداء ولا ضابط يحدد تسعيرها”.
وأشار فاروق إلى أن الذهب اجتذب الأفراد أصحاب المدخرات من 50 إلى 500 ألف جنيه (16 ألف دولار أميركي)، وبشكل عام أصحاب المدخرات الأقل من مليون جنيه مصري (32 ألف دولا أميركي)، أما العقارات فكانت جاذبة لمن يملك مبالغ أكبر من ذلك ولديه القدرة على سداد أقساط أخرى خلال الفترة المقبلة.
المحلل الاقتصادي أحمد خزيم أكد أن الأصل في حفظ قيمة الأموال هو الذهب من قبل اختراع النقود الورقية، وإنه نتيجة الاقتراض من صندوق النقد عام 2016 بدأت الحكومة المصرية تحريك سعر صرف الجنيه في مقابل العملات الأخرى، مما أدى إلى تراجع سريع في قيمة الجنيه دفع المواطن للبحث عن الذهب كملاذ أمن، يليه الاحتفاظ بالعملات الأجنبية مثل الدولار الأميركي والريال السعودي لمواجهة تدهور العملة المحلية.
وتابع خزيم لـ “اندبندنت عربية” أن “عدم هيكلة الاقتصاد المصري بشكل صحيح وضبابية الرؤية الاقتصادية تسببتا في تهديد مدخرات المواطنين، إذ اعتمدت الدولة على الاقتصاد الريعي، وهو نمط اقتصادي يعتمد على الموارد الطبيعية من دون الحاجة إلى الاهتمام بتطويرها، مما جعل قيمة الجنيه تتراجع بالتزامن مع غلاء غير مسبوق أجبر الجميع على شراء الذهب وتنويع سلة العملات للحفاظ على قيمة الأموال، وأن الأكثر ذكاء من قام بشراء سلع مهمة وتخزينها لبيعها بأسعار أعلى”.
وأضاف خزيم، “الدولار في مصر تحول إلى سلعة عليها إقبال ومضاربة ومزايدة وليس مجرد عملة، بسبب الطلب الكبير عليه في ظل عجز القطاع المصرفي عن تدبيره، وهو ما دفع المصريين في الخارج إلى خفض تحويلاتهم بسبب السعر المتدني للدولار داخل البنوك الرسمية في مصر، واللجوء لتبديل الدولار خارج البلاد بأسعار أعلى من المعلنة من البنك المركزي المصري، وهو ما انعكس جلياً على تحويلات الربع الأول من العام الحالي التي انخفضت 23 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022 لتصل إلى 12 مليار دولار بعد أن كانت 15.5 مليار دولار خلال الفترة نفسها”.
ماذا يعني ذلك على الاقتصاد الوطني؟
وأمام اتساع دائرة القلق والتخوف من إبقاء المواطنين على مدخراتهم بالعملة الوطنية، يزيد التحرك تجاه المضاربة بالعملات الأجنبية أو اكتناز الذهب أو حتى شراء العقارات إلى مزيد من متاعب الاقتصاد المصري وعملته المحلية، وفق ما يقول محللون اقتصاديون ممن تحدثوا إلينا، في وقت قفز فيه معدل التضخم الأساس في البلاد خلال فبراير الماضي إلى 40.26 في المئة على أساس سنوي، وهو أعلى مستوى في تاريخه وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
ويقول أستاذ الاقتصاد بالأكاديمية العربية للنقل البحري علي الإدريسي، “بدأ الناس تدريجاً فقد الثقة في العملة الوطنية نتيجة الارتفاعات المتتالية في معدلات التضخم وتراجع القوى الشرائية لأموالهم، وعليه لجأوا إلى الملاذات الآمنة ممثلة في الذهب والعملات الأجنبية والعقارات، وهو أمر ينذر بمزيد من التدهور على صعيد الاقتصاد الوطني”.
ويضيف الإدريسي، “لا شك في أن هناك تداعيات وخيمة على مثل هذا التوجه لدى المواطنين، إذ من شأنه أن يزيد معدلات الفقر والبطالة ونسب التضخم، وسيكون المشهد مظلماً”، موضحاً أن “مثل هذه التحركات لا تخلق قيمة مضافة للاقتصاد المصري على صعيد الإنتاج والتصنيع”.
وفي رأي الإدريسي يبقى الحل في أن “تتحرك الدولة وبسرعة تجاه إعادة الثقة مرة أخرى في الاستثمار والإنتاج ومواجهة الممارسات الاحتكارية التي طاولت كل القطاعات”، مستنكراً “تعدد سعر صرف العملية المحلية وتباينها من مكان إلى آخر، إذ يختلف سعر دولار الذهب عن سعر دولار السوق السوداء عن سعر صرف دولار البنوك الرسمية عن سعر صرف بعض المنتجات الأخرى مثل الحديد والأسمنت والسيارات وغيرها، مما يصعّب المهمة أمام أي مستثمر محلي أو أجنبي لدخول السوق المصرية”. وتساءل، “كيف يحسب المستثمر المحلي أو الأجنبي سعر صرف الدولار في مشروعه؟”.
وقبل أكثر من أسبوع أقرّ الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال اجتماعه بالمجلس الأعلى للاستثمار، وبعد إعادة تشكيله 22 قراراً في مختلف القطاعات والمجالات الاقتصادية لـ “تحقيق طفرة في جذب الاستثمار”، أبرزها استهداف تحقيق نقلة نوعية في خفض كلفة تأسيس الشركات والحد من القيود المفروضة على التأسيس، ومن الموافقات المطلوبة ومدة الحصول عليها وتسهيل تملك الأراضي والتوسع في إصدار الرخصة الذهبية وتعزيز الحوكمة والشفافية والحياد التنافسي في السوق المصرية، وتسهيل استيراد مستلزمات الإنتاج وتخفيف الأعباء المالية والضريبية على المستثمرين، وتحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي.
وتأتي تلك القرارات في وقت خفضت فيه وكالة “فيتش” للتصنيفات الائتمانية الشهر الماضي التوقعات الائتمانية لمصر إلى “سلبية” بعد تدهور مركز السيولة الخارجية واستنزاف احتياط النقد الأجنبي.
من جانبه يقول رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية والإستراتيجية رشاد عبده إنه “لا يمكن أن نلوم المواطنين الباحثين عن حفظ مدخراتهم في مواجهة نسب التضخم التي وصلت إلى 40 في المئة، وتآكل الدخل الحقيقي لهم أمام الارتفاعات غير المسبوقة في الأسعار، إذ يبقى الذهب والعملة الأجنبية وعاءين آمنين قادرين على مواجهة تحديات التضخم وتآكل القوى الشرائية لأموالهم”، موضحاً أن تأثيرات مثل هذا التوجه “وخيمة على الاقتصاد الوطني”.
ووفق عبده فإن “توجه المواطنين نحو الملاذات الآمنة للحفاظ على مدخراتهم يؤثر سلباً في الاقتصاد الوطني، إذ يزيد انهيار العملة الوطنية ويؤثر في العملة الأجنبية في البلاد وسعر صرفها، فضلاً عن تبعات ذلك من إطالة عمليات استيراد السلع والخدمات، ومزيد من ارتفاعات نسب التضخم والغلاء والفقر”، مشيراً إلى أن الحلول تكمن في “معالجة مكامن الخلل في الاقتصاد المصري، والاستعانة بالكفاءات القادرة على إدارة الأزمة بشكل علمي وفعّال لتشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي”.
وفي الاتجاه ذاته يتفق عضو اللجنة العليا للبورصة المصرية سابقاً مدحت نافع في “خطورة توجه المواطنين نحو التخلي عن العملة المحلية في مقابل الملاذات الأخرى”، موضحاً أن ” تأثير مثل هذا التوجه تكمن مشكلته في استمراره، ففي هذه الحال ستتفشى ظاهرة الدولرة مما يعني إلغاء العملة الوطنية تدريجاً”، مضيفاً أن “هذا يجعلنا في موقف صعب للغاية، إذ يؤثر في معدلات النمو والتشغيل ويزيد نسب التضخم ويتسبب في مزيد من معدلات الفقر والبطالة”.
وبرأي نافع فإنه وفي “ظل تعقد أزمة الاقتصاد المصري يكمن الحل الأمثل في الضبط المالي وترشيد الإنفاق الحكومي بشكل سريع، مع عدم الدخول في مشاريع جديدة من شأنها استنزاف العملة الأجنبية، والعمل على توسيع إحلال الاستيراد بالمنتجات المحلية”، موضحاً أن “العبء الأكبر يقع على الدولة في هذه الأزمة، بعد أن دفع المواطن الجانب الأكبر من ضريبة الإصلاح خلال الأعوام الأخيرة”.
المصدر: اندبندنت عربية