فصول من كتاب ” الأحزاب والقوى السياسية في سوريا 1961 ـ 1985″ الحلقة العشرون

رجاء الناصر ـ مخلص الصيادي

الحلقة الثانية: أحزاب الحركة الشيوعية في سوريا 1/3

الحزب الشيوعي السوري في مرحلة التماسك

الحزب الشيوعي السوري أقدم الأحزاب السورية التي لاتزال موجودة في ساحة العمل السياسي، وأكثرها إثارة للجدل، له تاريخ طويل مليء بالموقف الصعبة والقرارات الجريئة، التي أثارت حوله اللغط والجدل، يطرح ذاته كحزب المستقبل، بينما الكثيرون من أعدائه يعتقدون أنه حزب بلا مستقبل، وأنه سيبقى بشكل دائم على هامش لوحة العمل الساسي، ولكنه مع ذلك سيبقى جزءا مكملا لا يمكن الاستغناء عنه، أو تجاهله.

بفعل الحلم والعناد ودفعة هائلة من الإيمان، انطلق الرواد الأوائل يغرسون نبتة الحزب الشيوعي في سوريا، في ظروف غير مواتية، وأرض وعرة، ومناخ معاد، لا تقف وراءهم سوى تلك الثورة الفتية التي تبعد عنهم آلاف الكيلومترات، والتي رفعت الراية الحمراء في موسكو لتقيم “دولة العمال والفلاحين”، ولتعمل على نشر الشيوعية ودولتها الواحدة على أرجاء العالم كله، متعالية على أحلام الوطنيين، وتطلعهم لإبراز هوياتهم القومية والذاتية.

يتحدث بعض الرواد الأوائل عن ظروف تشكيل حزبهم قائلين بأنهم” كانوا يحفرون الأرض بأظافرهم أمام الساقية الصغيرة المنسابة في وعر صلد وبراحاتهم الدامية يزيلون الشوك من طريقها”

لكن من هؤلاء الرواد؟ وكيف غرسوا هذه النبتة؟

المجموعة الأولى:  تتألف من الرفاق الأرمن الذين انتقلوا إلى سوريا ولبنان عبر الهجرة القسرية بعد المجازر العنيفة التي تعرض لها الشعب الأرمني عقب الانتفاضة الفاشلة ضد السلطات العثمانية، هؤلاء الرفاق حملوا معهم قناعاتهم، وأفكارهم، وتشكيلاتهم، وتنظيماتهم، وعلى رأس هؤلاء يقف الرفيق “أرتين مادويان”، والرفيق “هاكيز بوياجيان “، والذين شكلوا عصبة ” سبارتاكوس” القائد اليوناني ( الثراسي) الذي قاد أكبر ثورة للعبيد، وعصبة “سبارتاكوس” التي تتبنى الماركسية ـ اللينينية لم تستطع تجاوز المهاجرين الأرمن رغم أطروحاتها الأممية.

المجموعة الثانية: تتألف من مجموعة حزب الشعب اللبناني وهم عبارة عن مجموعة من الشباب اليساري الماركسي، وتضم هذه المجموعة فؤاد الشمالي، الذي تلقى الماركسية أثناء عمله في مصر على أيدي الشيوعيين المصريين، ويوسف يزبك العامل في ميناء بيروت، ونمر وهبة، والياس سرور، والياس أبو نادر.

ونشطت هذه المجموعة في صفوف العمال، واستطاعت أن تقيم احتفالا بسيطا في ذكرى الأول من أيار “عيد العمال العالمي”.

تشكلت المجموعتان في العام 1924 كل على انفراد، وساهم الشيوعيون اليهود القادمون الى فلسطين بتشكيل المجموعة الثانية، حيث أوفد جوزيف برغس، والياهو تيبر، لمساعدة الرفاق اللبنانيين بتأسيس حزبهم.

وفي العام التالي 1925 استطاع الرفاق اليهود اقناع المجموعتين بالاندماج وبتشكيل الحزب الشيوعي اللبناني، وضمت اللجنة المركزية كلا من: يوسف يزبك، فؤاد الشمالي، أرتين مادويان، هيكازون بوباجيان، الياس أبو نادر، وكان الياهو تيبر أول رئيس للحزب الشيوعي اللبناني الجديد.

وعندما نشبت الثورة السورية الكبرى عام 1925 أعلن الحزب الجديد تأييده لها، ولمطالبها بالاستقلال، ووزع منشورات تأييد لها، وشمل التوزيع مناطق تواجد الجنود الفرنسيين، كما تلقف الشيوعيون الفرنسيون هذه الخطوة وأيدوا زملاءهم الشيوعيين السوريين، وخشيت سلطات الانتداب من هذه الخطوة، واعتبرتها ظاهرة خطيرة رغم ضعف تأثير الشيوعيين في الثورة، وضعف تنظيمهم الحزبي في تلك المرحلة.

وألقت سلطات الانتداب القبض على يوسف يزبك، وارتين مادويان عام 1926 وأحالتهما مع بعض رفاقهما إلى المحاكمة التي استغلها الشيوعيين بمساعدة رفاقهم الفرنسيين في الدعاية لحزبهم، ونفي أرتين ويوسف عن البلاد، وتوقف نشاط الحزب الشيوعي طوال فترة إبعاد قادته رغم الدعاية الحسنة والمنظمة التي بذلها الرفاق الفرنسيون، لكن الوضع تغير بعد عودة هؤلاء القادة من المنفى عام 1928، حيث نشطوا في تنظيم الحزب، وتأسيس فروع له خارج نطاق تجمعه الأصلي وشكلوا خلايا له في بيروت وطرابلس ودمشق.

وفي هذه السنة عين فؤاد الشمالي رئيسا للحزب تأكيدا على دور العمال في قيادة الحزب الذي يعتنق الماركسية.

كانت شعارات الحزب وبياناته خلال هذه المرحلة تركز على قضايا الاشتراكية ومحاربة الاستعمار، كما اقتصرت نشاطاته على تنظيم مظاهرات الأول من أيار، والسابع من تشرين الثاني، وبعض الإضرابات العمالية الصغيرة في منطقة بكفيا، والكتابة في بعض الصحف النصيرة مثل ” الصحفي التائه”.

لقد تمثلت الصعوبات أمام هذه الحركة الوليدة أنها عملت في ظل مناخ عام يدعو للوحدة العربية، والاعتزاز بالهوية الوطنية، ، وفي ظل قاعدة شعبية تتجذر فيها القيم الدينية والموروثات التقليدية، كما أن نقطتي ارتكاز جماعة سبارتاكوس، وحزب الشعب كانتا غريبتين عن الكتلة الشعبية الأساسية، فجماعة سبارتاكوس لم تستطع تحقيق أي انفتاح خارج بيئتها الأرمنية،  التي كان ينظر الآخرون إليها كمجرد غرباء طارئين وضيوف مؤقتين، أما المجموعة الثانية والتي تشكلت من عناصر مسيحية وبرعاية يهودية فهي أيضا كانت تعاني من حالة الحصار التي أحكمت حولها بسبب العداء الشديد الذي تكنه الأغلبية لليهود الطارئين على الأرض العربية، وللحصار الطائفي الذي كان لايزال يضع بصماته في المنطقة اللبنانية.

في العام 1930 استطاع الحزب الامتداد إلى الداخل السوري، وكانت الخلية الأولى التي تشكلت في دمشق تضم خمسة من طلبة الجامعة السورية أشهرهم “خالد بكداش قوطرش”، وعانت هذه الخلية الكثير من نتائج الملاحقات، واضطهد بعض عناصرها، وألقي القبض على البعض الآخر وهم ينقلون المنشورات من لبنان إلى دمشق، وتساقط بعض هؤلاء الرفاق مفسحين المجال لتقدم الرفيق خالد ليلعب دورا أكبر مما هو مقدر له.

وقد استفاد الحزب الشيوعي من الصراعات السياسية الدائرة في إطار سلطات الانتداب، ونتيجة لسوء العمل الحكومي، ولتصرفات تلك السلطات، حيث جرى اعتباره خطرا قائما مما سلط مزيدا من الأضواء عليه.

في العام 1931 أعلن الحزب الشيوعي السوري برنامجه الذي وضع على رأس مطالبه إنشاء حكومة للعمال والفلاحين، وضرورة توزيع الأرض على الفلاحين، وتخفيض ساعات العمل، ومساواة المرأة بالرجل، وندد البيان بالقيادات البرجوازية التي تدعي الوطنية، وجاء في مقدمة البيان تأييد مطلق للسياسة السوفياتية وتبني الحزب للماركسية، وتحديد أن الغاية الأساسية للشيوعية لا ترتكز على العواطف فحسب، وإنما على شيء جوهري يرتكز على سنة التطور الاجتماعي، وأكد على ثقة الشيوعيين بالنصر، لأنه ليس بالمستطاع إيقاف سير الحوادث التاريخية، وطالب البرنامج العمال والفلاحين بالاطلاع على كتابات ماركس ولينين وغيرهما من واضعي أسس الاشتراكية الصحيحة، وتعهد الحزب بترجمة هذه الكتب وطبعها وتقديمها للجماهير.

وفي هذا العام أيضا صدر العدد الأول من جريدة الحزب المركزية الجديدة ” المطرقة والمنجل”، لكن العدد لم يوزع، حيث ألقي القبض على عمال المطبعة أثناء طباعة العدد.

وفي العام التالي حدثت طفرة في المؤسسات القيادية للحزب بتأثير القيادة الأممية الشيوعية التي تضم الأحزاب الشيوعية في العالم، فقد سادت فكرة تجذير الأحزاب الشيوعية الوطنية من خلال ابراز قيادات محلية أكثر تقبلا في محيطها، وبيئتها، وفعلا تشكلت لجنة مركزية جديدة بعد إبعاد الأغلبية التي سيطرت على اللجنة السابقة والمؤلفة من “ستة أرمن، ويهوديين ، وخمسة أعضاء آخرين”، كما تشكلت قيادة جديدة تألفت من فرج الله الحلو، وأرتين مادويان، وخالد بكداش، وناصر حدي، وحنا نمر، وانتخب خالد بكداش باعتباره المسلم الوحيد في القيادة أمينا عاما للحزب، واقتصرت علاقة الشيوعيين اليهود على التوجيه والمشاركة في صنع القرارات. ونشطت القيادة الجديدة في أعمال التثقيف الماركسي، وترجمت البيان الشيوعي، وخلال هذه المرحلة جرت بعض التبديلات في قيادة الحزب حيث انضم إليها نيقولا الشاوي، ويوسف خطار الحلو، وفؤاد قازان، ورشاد عيسى، وأوهانس أغباشيان، وخرج منها كل من ناصر حدي، وحنا نمر.

كما اعتقل خالد بكداش لفترة قصيرة ثم غادر البلاد بعد الافراج عنه حيث قضى فترة إعداد مكثفة في الاتحاد السوفياتي، وساهم الحزب في الاضراب الوطني العام الذي دعت إليه الكتلة الوطنية وباقي المنظمات القومية والمهنية، ودعا إلى تشكيل جبهة وطنية عريضة تضم كافة القوى الوطنية متخليا عن لهجة العداء التي كانت تسم مقالاته وبياناته ضد القوى البرجوازية، حتى أن سكرتير الحزب دعا الى “أن تكون الكتلة الوطنية نفسها شكلا لاتحاد منظم تنضم إليها كل الهيئات والجماعات المجمعة على نجاح الدور الوطني على أن تعين بوضوح وبصورة ملموسة الأهداف والواجبات المباشرة المتفق عليها”. وأكد موقف آخر للحزب على أن الحزب الشيوعي السوري مستعد للانضمام للكتلة الوطنية على أساس ديموقراطي لأجل أن تنتظم جهوده مع جهودها.

وجاء هذا الانعطاف بتأثير المؤتمر السابع للأممية الدولية الذي عقد عام 1935 والذي رسم سياسة عامة للأحزاب الشيوعية من أجل تأمين حشد أكبر ضد الفاشية، واكتساب أوسع قطاعات شعبية إلى جانبه، وحماية  القوى الشعبية من الانخداع بأكاذيب الفاشية.

لكن الأعوام التالية حملت انعطافا كبيرا ومؤثرا في مسيرة الحزب ومواقفه، وجاء هذا الانعطاف على ضوء تشكيل حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا عام 1936، والتي ضمت في صفوفها الحزب الشيوعي الفرنسي إلى جانب الحزب الاشتراكي والراديكالي والذي تربطه علاقات حميمة بالحزب الشيوعي السوري.

وكانت أهم هذه المؤثرات أن الحزب الشيوعي السوري استطاع لأول مرة أن يلعب دورا في السياسة السورية بعد أن ظهر كحزب علني شرعي.

وفي ظل الشرعية تضاعف عدد أعضاء الحزب عشرة مرات حيث تجاوز الألفي عضو بينما لم يزد العدد قبل ذلك عن المائتي عضو، وساهم الحزب في المفاوضات التي أجرتها سلطات الانتداب مع ممثلي القوى الوطنية، وساعد الطرفين السوري والفرنسي على الوصول إلى عقد معاهدة 1936 التي تضمنت الموافقة على استقلال سوريا ضمن شروط وقيود محددة.

لكنه بالمقابل دفع ثمنا لهذا الدور حين اضطر لمماشاة السياسة الفرنسية، وكان تعبيرا منقحا عن موقف حكومة الجبهة الشعبية أكثر مما هو طرف من أطراف الحركة الوطنية، وتحول إلى مندد عنيف بالقوى التي تطالب بالاستقلال التام ومعاداة فرنسا كقوة استعمارية.

كما سجل موقفا متهاونا من مسألة تنازل سلطات الانتداب عن لواء الاسكندرونة للأتراك، وسلخه عن التراب الوطني السوري بحجة عدم احراج الحزب الشيوعي ضمن حكومة الجبهة الشعبية، وهذا ما احتاج إلى وقفة خاصة سنتطرق إليها لاحقا.

إلا أن هذه المرحلة انتهت بسقوط حكومة الجبهة الشعبية عام 1939، وعودة الحزب لمعارضة سلطات الانتداب الجديدة، وأعلنت الحكومة الجديدة حظر نشاط الحزب الشيوعي في سوريا، وملاحقة عناصره وقياداته، ومنعت صحيفته ” صوت الشعب” من الصدور.

ومرة أخرى، وبعد الهجوم الألماني المفاجئ على الاتحاد السوفياتي في أيار 1941، ودخول السوفيات الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء، تعدل موقف الشيوعيين السوريين، حيث دعوا مجددا لسياسة التعاون مع القوى الديموقراطية الغربية لمواجهة الخطر الفاشي… فأفرجت سلطات الانتداب عن المعتقلين الشيوعيين، وأعيدت الشرعية للحزب، فاستعاد الشيوعيون نشاطهم، وعادت صحيفته ” صوت الشعب ” للصدور.

في العام 1943 رشح الحزب أمينه العام وعضوين آخرين للانتخابات المحلية، وطرح برنامجا انتخابيا تضمن المطالب التالية:

1ـ استقلال سوريا وحريتها.

2ـ الدعوة إلى الوحدة الوطنية، وإعادة تجميع الشعب في سبيل الاستقلال الوطني.

3ـ إيجاد مؤسسات شعبية تمثل المواطنين بشكل سليم.

4ـ تقوية الروابط الاقتصادية والثقافية مع الدول العربية الأخرى.

5ـ تقوية صلات سوريا الدولية على أساس العدل والمساواة.

وفي هذا العام، بعد الإعلان الشكلي عن استقلال لبنان، أعلن عن انقسام الحزب الشيوعي السوري إلى حزبين أحدهما يعمل في لبنان باسم الحزب الشيوعي اللبناني، وآخر في سوريا باسم الحزب الشيوعي السوري، وتم ذلك خلال المؤتمر الأول للحزب الشيوعي السوري اللبناني، لكن ومن الناحية العملية استمر الحزبان يعملان بتنسيق تام وبقيادة شبه موحدة.

وفي هذه المرحلة دعا الحزب إلى استقلال سوريا استقلالا ناجزا، كما ندد بقيام قوات الانتداب الفرنسي بضرب البرلمان السوري، ولكن ذلك لم يؤثر على صداقته مع الحزب الشيوعي الفرنسي.

وحاول الحزب ان يقيم علاقات شعبية مستفيدا من أسطورة الانتصار السوفياتي على الفاشية، وفي عام 1947 أعيدت وحدة الحزبين الشيوعي السوري، والشيوعي اللبناني، وتشكلت قيادة جديدة من أعضائها: فرج الله الحلو، نيقولا الشاوي، إبراهيم بكري، يوسف فيصل، رفيق رضا، بقيادة خالد بكداش.

إلا أن الحزب تعرض لصدمة شديدة بعد موقف السوفيات المؤيد لتقسيم فلسطين، وبعد اعلان الحزب نفسه تأييد هذه الخطوة، واعتبر الحزب الشيوعي السوري معاديا للأهداف القومية العليا، وحظر نشاطه اعتبارا من عام 1948 حتى العام 1954، أي حتى المرحلة التي تلت الانقلاب على حكم أديب الشيشكلي.

واستطاع الحزب خلال عمله السري أن يستمر بنشاطه عبر العديد من الواجهات وأهمها حركة أنصار السلام، كما نشط في مجال توزيع المنشورات والبيانات التي نددت بالسلطات العسكرية واتهمتها بالرجعية والفاشية.

وفي هذه المرحلة كانت السياسة السوفياتية قد اتجهت نحو تدعيم علاقاتها مع بعض الدول العربية وخاصة سوريا ومصر، وبتأثير هذا التوجه دعم خالد بكداش علاقاته الشخصية والسياسية مع بعض الأحزاب والشخصيات السياسية والوطنية وعلى رأسها شكري القوتلي وحزبه الوطني.

وفي العام 1954 شهدت سوريا انتخابات برلمانية شارك فيها خالد بكداش عن مدينة دمشق، واستطاع الحصول على العدد الكافي من الأصوات الذي مكنه من دخول مجلس النواب، وكان قد دعا في برنامجه الانتخابي إلى توحيد كافة طاقات القوى المعادية للإقطاع والرجعية والاستعمار، وركز على التحالف مع البعث وأنصار خالد العظم.

ولعبت عوامل عدة في نجاح خالد بكداش أهمها قدرته الخطابية الرائعة التي ساهمت بإنجاح معظم المهرجانات الانتخابية، إضافة إلى تكتل الأقلية الكردية التي تقطن مدينة دمشق ليس باعتباره أمينا عاما للحزب الشيوعي، وإنما باعتباره أحد أبناء هذه الأقلية البارزين، كما أيده عدد من المثقفين والأكاديميين كموقف معاد للرجعية.

وعاد الحزب الشيوعي إلى الصعود، فقد تلاقى مع الحضور الشعبي في معاداة حلف بغداد، ومواجهة الهجمة الإمبريالية على سوريا، كما تعمقت سياسة التعاون بين سوريا والاتحاد السوفياتي وذلك بعد أن أعلنت سوريا تبنيها سياسة الحياد الإيجابي، وعقدت أول اتفاقية للتسلح بين سوريا والاتحاد السوفياتي، وقطف الشيوعيون الثمار فشاركوا في الجبهة التي ضمت نواب البعث العربي، وكتلة خالد العظم، وأصبح له دور في رسم سياسة سوريا رغم عدم وجود من يمثلهم في الوزارة التي شكلتها هذه الجبهة فيما بعد.

وتغلغل الحزب في صفوف القوات المسلحة، وشكل كتلة عسكرية، كما أصبح أحد أنصاره رئيسا لأركان الجيش وهو اللواء عفيف البزري.

وشهدت سوريا موجة وحدوية عارمة لم يعارضها الحزب الشيوعي، وإنما أصدر العديد من البيانات تأييدا لها، رغم أن أدبياته لم تكن ترى في الوحدة القومية هدفا أساسيا من أهداف الحزب الشيوعي.

ولكن حينما أصبح اتفاق الوحدة بين سوريا ومصر أمرا جديا، أعلن الحزب الشيوعي عن موقف معارض، واتهم الوحدة بأنها خطوة من البرجوازية المصرية للاستيلاء على السوق السورية، ودعا للوحدة الاتحادية” الكونفدرالية”، كما عارض السياسة المصرية التي طالبت بحل الأحزاب كشرط من شروط الموافقة على الوحدة، ومع ميلاد دولة الوحدة غادر خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري سوريا وانتقل إلى بلغاريا حيث أخذ يهاجم النظام الجديد.

وتعرض الحزب لمحنة قاسية فقد ارتدت بعض عناصره وكوادره وعلى رأسهم رفيق رضا عضو المكتب السياسي، كما فر أمينه العام، واعتقلت باقي كوادره، ومات فرج الله الحلو جراء التعذيب الذي تعرض له بعد اعتقاله وهو يعبر الحدود السورية اللبنانية من أجل تأمين الاتصال برفاقه السوريين، وشنت وسائل الإعلام حملة مكثفة ضد الشيوعية والحزب الشيوعي، وطردت عناصره من وظائف الدولة، وبشكل عام اقتلع الحزب من المجتمع، ونزعت عنه كافة المكاسب التي حققها خلال عمله الطويل، وساعد على ذلك التأييد الشعبي الكاسح الذي تمتع به نظام عهد الوحدة الذي واجه الشيوعيين، كما ساعد على ذلك موقف الشيوعيين المؤيد لحكم عبد الكريم قاسم في العراق، ودورهم في المجازر التي ارتكبت ضد التيار القومي ورموزه في العراق ابان تلك الفترة.

وعندما وقع الانفصال في 28 / 9 / 1961 أعلن الحزب الشيوعي تأييده للانفصال واعتبره خطوة مهمة ضد “الديكتاتورية والفاشية”، وأعلن عن فلسفة اجتماعية واقتصادية مبررة لوقوع الانفصال وإقامة نظام رأسمالي جديد.

وأعيدت الشرعية للحزب وأفرج عن معتقليه، كما أعيد أنصاره إلى وظائفهم، ولكن المناخ العام لم يكن مساعدا له للتحرك، فالنظام الجديد لم يتجاوب مع وجود الحزب الشيوعي، كما أن القاعدة الشعبية والجماهيرية كانت لا تزال متأثرة بشدة بالعهد الناصري، وبقيادة جمال عبد الناصر.

وعندما قامت ثورة آذار عام 1963 لم يكن للحزب الشيوعي دور مؤثر بالأحداث التي تلتها، إلا أنه حدث في العام 1964 وبضغط شديد من الاتحاد السوفياتي انعطاف جديد في سياسة الحزب الشيوعي عندما أعلن عن سياسة مؤيدة لنظام عبد الناصر ولنظام البعث في سوريا، وفي هذا العام أعيد الانفصال النهائي بين الحزبين الشيوعيين في سوريا ولبنان.

وبدأ الحزب يشهد مخاضا داخليا صامتا استمر طوال خمس سنوات، تعاون فيها مع النظام البعثي الجديد في سوريا عبر تحالفات غير رسمية، وساهم بالمشاركة في المجلس الوطني (مجلس النواب المعين) عبر أصدقاء له.

وتعمقت العلاقة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث الحاكم بعد انقلاب 23 شباط 1966، حين أيد الحزب التحولات الاشتراكية وسياسة التعاون مع السوفيات، ومعاداة الاستعمار، التي أخذ النظام الجديد يدعو إليها بشدة وتطرف.

وفي مناخ تعاظم مد الطروحات اليسارية عقد الحزب الشيوعي السوري مؤتمره الثالث في ظل تحولات مهمة حيث برز تيار قومي داخل الحزب يدعو إلى الوحدة العربية، ويجعلها هدفا رئيسيا من أهداف الحزب الشيوعي، كما يدعو لإنشاء حزب شيوعي عربي موحد يأخذ على عاتقه توحيد الأمة العربية.

وفي إطار مراجعاته للعديد من مواقفه، انتقد الحزب بشدة مواقفه السابقة من تأييده لتقسيم فلسطين، ومن معاداته لنظام عبد الناصر، إلا أن هذا المؤتمر أوجد بداية شرخ أدى إلى سلسلة من الانقسامات، وكان آخر مؤتمر موحد للحزب الشيوعي السوري.

وسنبحث موضوعة المؤتمر الثالث للحزب وما نجم عنه من خلاف في المسائل الفكرية والسياسية والتنظيمية في فصل خاص.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى