رابعاً: نصف قرن من الاستقلال ١٩٢٢- ١٩٧١.
لم يستسلم العرب في كل الدول المستعمرة ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها لواقع الاحتلال، وبدأ كل بلد يواجه المحتل بطريقته الخاصة. ففي مصر بعد مطالبة سعد زغلول باستقلال مصر ونفيه، لم يهدأ الشارع المصري بمواجهة الانكليز، فقد حصلوا على إعلان استقلال، صحيح انه شكلي لكنه تواكب مع استمرار التعليم باللغة العربية، وانتشرت الطباعة، كما كانت ولادة تنظيم الإخوان المسلمين على يد حسن البنا عام ١٩٢٨م، و الذي سيكون له شأن مستمر للآن. أما في تونس فقد نشأ الحزب الدستوري الذي دعا لتحرير تونس على يد عبد العزيز الثعالبي، وينشق عنه حزب الدستور الجديد على يد بورقيبة، متجاوزا المؤسس صالح بن يوسف. بورقيبة الذي سيكون محررا لتونس بعد حين عبر مفاوضات مع الفرنسيين. كما ظهر في الجزائر عبد الحميد بن باديس يعيد الجذوة لاستمرار النضال للتحرر من الفرنسيين ومشكلا بدايات ظهور جبهة التحرير الجزائرية بعد ذلك في الخمسينات التي سيكون فضل تحرير الجزائر من الفرنسيين بعد سقوط مليون شهيد. أما لبنان فقد فرض عليه المستعمر دستورا طائفيا عام ١٩٢٦م، وكذلك في سورية. وتحتل إيطاليا ليبيا، وتقوم ثورتها ويقبض على قائدها عمر المختار ويعدم، أما ألمانيا فسيكون لها دور بتهجير اليهود هربا منها الى فلسطين تجهيزا لإعلان الدولة الصهيونية بعد خروج الانكليز في عام ١٩٤٨م، لم يستسلم الفلسطينيين لواقع الاستيطان اليهودي، وتقوم ثورة ١٩٣٦م وتستمر لسنوات. أما الجامعة العربية التي تشكلت من سبع دول عربية في عام ١٩٤٥م فقد رفضت تشكيل دولة اسرائيل عام ١٩٤٨م وواجهتها بحرب الإنقاذ، التي انتصر فيها اليهود وتوسعوا بدولتهم الى ٧٧ بالمئة من فلسطين، وحصل لجوء جماعي فلسطيني بمئات الآلاف وكان مجلس الأمن قد قسم فلسطين عبر قرار دولي رقم ١٨١ ، قسّم بين العرب واليهود رفضه العرب، وحاربوا وانهزموا. ثم قرار حق العودة للفلسطينيين رقم ١٩٤عام ١٩٤٨م. وكانت فرنسا قد خرجت من سوريا ولبنان ١٩٤٦م. وبريطانيا من العراق في ذلك التاريخ. في ذلك الوقت كان المغرب قد توحد تحت سيطرة الملك محمد الخامس، واستقلت الجزائر عام ١٩٦٢م. كما كان لاستقلال الدول دور في تهجير يهود البلاد العربية الى اسرائيل الوليدة وهذا خدمها بالزيادة البشرية. واستقلت الكويت ١٩٦١م، وانسحاب بريطانيا من اليمن الجنوبي عام ١٩٦٧م، و أصبحت دولة شيوعية. تحررت قطر والبحرين والإمارات وعمان من الانكليز عام ١٩٧٠م. وفلسطين تأبد اغلبها دولة إسرائيل، والضفة الغربية ضم للأردن، مع سيطرته على القدس والأماكن المقدسة المسيحية والاسلامية.
خامسا: عشرون عاما من الانقلابات.
١٩٤٩- ١٩٦٩م.
كانت الفترة من خروج المستعمر الغربي من اغلب البلاد العربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى سنة السبعين، ممتلئة بمتغيرات الصراع داخل الدول للاستحواذ على السلطة و بكل الأساليب الممكنة.
ففي سورية كانت الدولة السورية الوليدة عام ١٩٤٦م ببنيتها البرلمانية ورئيس منتخب قد واجهت حرب ١٩٤٨م مع دولة اسرائيل الوليدة، وهزمت سورية ومصر في ذلك الوقت. خوّن قادة الجيش وعلى رأسهم حسني الزعيم السلطة في سورية وقام بانقلابه الأول ١٩٤٩م وتلاه انقلاب سامي الحناوي وبعده أديب الشيشكلي الذي ألغى المظاهر الديمقراطية كاملة، وكان لأديب الشيشكلي أعمال عنفية شديدة على جبل العرب. ولكن عاد مجموعة من الضباط وانقلبوا عليه واعادوا السلطة للمدنيين الذين استمروا في حكم البلد إلى أن حصل متغيرا عربيا دفع السلطة في سورية مع قيادات جيشها واحزابها للتوحد مع مصر.
مصر التي شاركت في حرب ١٩٤٨ في فلسطين ضد إسرائيل وهزموا ايضا. عاد عبد الناصر من الهزيمة وهو يفكر بالسلطة الملكية الفاسدة، وقرر مع ضباط آخرين، كانوا شكلوا تنظيم الضباط الاحرار ان يصنعوا ثورتهم التي أسقطت الملكية وبنت دولة جمهورية بقيادة ناصر نفسه. ناصر الذي سيكون له دور في إجلاء الإنكليز عن مصر وتأميم قناة السويس، التي جعلته قائدا ورمزا على المستوى العربي. رفضت بريطانيا وفرنسا ومعهم اسرائيل تأميم القناة وقاموا بعدوانهم الثلاثي على مصر. احتلوا القناة واسرائيل تقدمت واحتلت سيناء، لكن التدخل الأمريكي ، والتهديد الروسي ، جعل اسرائيل تنسحب من سيناء وينسحب الانكليز والفرنسيين من قناة السويس، وكان ذلك نصرا لناصر، وانعكس ذلك عربيا وخاصة سورية، حيث توافقت السلطة مع طبقة ضباط الجيش مع الشعب للتقدم خطوة للوحدة مع مصر عبد الناصر. سورية التي كان الفكر القومي العربي متغلغلا فيها عبر حزب البعث الذي كان له امتداد مدني وعسكري ساعد كل ذلك على تحقيق الوحدة المصرية السورية عام ١٩٥٨م. الوحدة الحلم يراها الضباط السوريين امتيازا للضباط المصريين. كما رفضها المحور المعادي لناصر والمكون من السعودية، التي وجدت بناصر وثورته و توسعه تهديدا له. وكانت السعودية قد استوعبت الإخوان المسلمين الذين اضطهدهم عبد الناصر، بعد إبعادهم عن الحكم وهم شركاؤه بالثورة، وبعد أن حاولوا اغتياله. اعتقل الكثير وخاصة سيد قطب رمزهم الفكري والتنظيمي، و اعدمه، صنع بذلك شقاقا لا حل له. دعم السعوديون إسقاط الوحدة المصرية السورية، وسقطت الوحدة عام ١٩٦١م. تساندت أسباب عدة على اسقاطها، تمرد الضباط السوريون، دعم خارجي سعودي ودولي ضد الوحدة، عدم ادارة الخلافات في الإقليم الشمالي في سورية بشكل صحيح. لم يدم الانفصال أكثر من عامين. كان الجناح العسكري لحزب البعث بقيادته محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وكلهم علويين، اضافة لاسماعيلي آخر. رحبوا بالانفصال وفكروا بدولتهم الخاصة، وفي العمق لديهم مشروعهم الطائفي. التقى جهد التنظيم العسكري للبعث مع ضباط ناصريين لإسقاط الانفصال وهكذا حصل، سرعان ما استبعد اللجنة العسكرية من البعثيين الضباط الناصريين، ثم استبعدوا محمد عمران ونفي الى لبنان، واستفرد حافظ الأسد و صلاح جديد بالقيادة السياسية والعسكرية في سورية بعد عام ١٩٦٦م، وسرعان ما ابعد الاسد جديد من السلطة ووضعه بالسجن إلى ما قبل موته بقليل، استمر ذلك عقود من السنين. منذ ١٩٧٠ أصبحت سورية جمهورية الأسد وأخذت مسارا مختلفا. اما مصر فقد حاول عبد الناصر أن يعيد الوحدة بالقوة عام ١٩٦١م لكنه تراجع اخيرا والتفت إلى الداخل المصري وأخذ مسارا اشتراكيا، واصبح امام مشكلة تصعيد عسكري بين اسرائيل وسورية عام ١٩٦٧م، أغلق مضائق تيران، واستفز اسرائيل التي كانت تعد لحرب ستهزم العرب مجددا وتحتل الجولان السوري والضفة الغربية مع القدس وسيناء، وتسمى هزيمة حزيران ١٩٦٧م حصلت بستة أيام فقط. سيعمل عبد الناصر لترميم جيشه وتجهيزة لحرب تحرير، سيشارك بمنع مذبحة الفدائيين الفلسطينيين في الأردن ويموت فجأة وتخلو الساحة بغياب عبد الناصر عام ١٩٧٠م. ويأتي السادات مكانة في مصر.
أما في العراق فالوضع لا يختلف عن سورية فبعد خروج المستعمر الانكليزي واستلام الملكية السلطة سيثور الجيش عليهم ايضا. الجيش الذي كان تغلغل به حزب البعث ايضا، وكان الرئيس بداية عبد السلام عارف من الناصريين، لكن البعثيين انقلبوا عليه وجاء أحمد حسن البكر، ومن ثم سينقلب عليه قريبه ومن ذات حزب البعث صدام حسين ١٩٦٩م ويستمر رئيسها عقود طويلة.
اما الاردن فقد ثبت حكمه الملكي وتحالف مع الغرب الانكليز ثم الامريكان، كان صلاته مع الاسرائيليين مستمرة رغم تورطه في حرب ١٩٦٧م وخسارته للضفة الغربية والقدس. استعان بالإخوان المسلمين في حكمه. اختلف مع التواجد الفدائي الفلسطيني الذي صنع دولة في دولة، وحاربهم الملك حسين عام ١٩٧٠م في أيلول الأسود. تدخل ناصر واوقف الصراع وخرج الفلسطينيين الى لبنان ومات عبد الناصر وطويت صفحة.
أما الفلسطينيين فقد عمل عبد الناصر على خلق شرعية خاصة لهم فساعد في بناء منظمة التحرير الفلسطينية. بقيادة أحمد الشقيري. وعلى مستوى آخر كان أبو عمار ياسر عرفات ومعه مجموعة من الفلسطينيين قد قرروا بناء عمل مسلح خاص بهم. اعلن تشكيل منظمة فتح ١٩٦٥م وقامت بعمليات عسكرية ضد اسرائيل ، كان أهمها معركة الكرامة على الحدود بين الاردن وفلسطين، انهزم فيها الاسرائيليين وزادت قوة الفدائين بزعامة ابو عمار، اصبح الفدائيين عبء على الأردن خاصة أنه حصل اختطاف طائرات إلى الأردن، من فدائيين فلسطينيين، وأصبح هناك دولة ضمن الدولة، كان أبو عمار قد اصبح رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية خلفا للشقيري. حاربهم الملك حسين وانقذهم عبد الناصر وبدؤوا مسارا جديدا بعد سنة ١٩٧٠م في لبنان.
وفي الجزائر فقد استقلت وخرج المستعمر الفرنسي، وكان رئيسها أحمد بن بلا رمزها الوطني ووزير دفاعه هواري بو مدين، الذي اختلف مع بن بلا وانقلب عليه واستلم السلطة بشكل مطلق.
كذلك الحال في ليبيا حيث تحرك القذافي مع مجموعة من الضباط وقام بحركته الانقلابية ضد الملك السنوسي التي اوصلته الى حكم ليبيا عام ١٩٦٩م. استمر رئيسا إلى أن قُتل عام ٢٠١١م على يد الثوار.
وهكذا ما أن جاء عام ١٩٧٠م حتى كانت قد ترسخت الدول الاستبدادية العسكرية. مصر السادات سورية حافظ الاسد، العراق صدام حسين، الجزائر هواري بو مدين، تونس الحبيب بو رقيبة، ليبيا معمر القذافي والسودان وانقلاب جعفر النميري. هذا اضافة للانظمة الملكية المؤبدة سلطتها في بعض الدول مثل السعودية ودول الخليج العربي.