هذا الكتاب الثاني الذي أقرأه عن رجب طيب أردوغان، وقرأنا عدد من الكتب الأخرى عن تركيا والتجربة التركية؛ لنطل على الحالة التركية بعمق أكثر وبشكل يوضح حقيقة الوضع التركي ماضيا وآفاقه المستقبلية.
. مؤلفا الكتاب من المجموعة الأقرب لأردوغان وهما مطلعين على وضعه من بداياته، وهما يعتمدان على شهادات الآخرين المعاصرين لتجربته السياسية والمجتمعية والمشاركين فيها أيضا.
.يبدأ الكتاب بسرد لمنشأ أردوغان فهو من مدينة ريزة على البحر الأسود، والده هاجر لاسطنبول منذ خمسينات القرن الماضي حيث ولد وترعرع أردوغان في إحدى أحيائها الشعبية، تعلم في مدارس (إمام وخطيب) وكان منذ طفولته مولع برياضة كرة القدم، والتحق باكرا بشباب الفكر الوطني (الإسلامي) الذي عبر عنه نجم الدين أربكان؛ ابو التيار الإسلامي السياسي التركي، أصبح ناشطا في شبيبة التيار، وسرعان ما صار من كوادر حزب الرفاه الإسلامي بزعامة أربكان نفسه. هذا الحزب ومؤسسه يعتبر امتدادا لتيار الإسلام السياسي في العالم الإسلامي كله، امتدادا لأفكار الإخوان المسلمون وحسن البنا وسيد قطب والمودودي والنووي وغيرهم.
. انعكست على التيار الإسلامي التركي بفكره الحر خصوصية التجربة التركية للمؤسس مصطفى كمال (أتاتورك) الذي أنهى الخلافة الإسلامية، وتوجه إلى الغرب، وفرض العلمانية، وحاصر الإسلاميين الترك وضيق عليهم. كانت السياسة التركية مسيرة من حزب الشعب الجمهوري فقط (حزب أتاتورك) إلى وفاته، وعندما جاء بعد مصطفى كمال عصمت انينو الذي فتح مجالا للمشاركة الديمقراطية السياسية المجتمعية، وتشكيل الحزب الديمقراطي بتوجهه الإسلامي، ونجاحه في الانتخابات النيابية. وتشكيله الحكومة بقيادة عدنان مندريس لمدة تزيد على عشر سنوات، والذي أسقطت حكومته واعدم مع وزيرين بعد انقلاب العسكر في بداية ستينات القرن الماضي تحت دعوى الدفاع عن علمانية الدولة. وكان هناك تحالف بين قيادة رجال السياسة العلمانية والجيش والصحافة والقضاء. وكونوا الدولة العميقة المتحكمة بالحياة السياسية والمجتمعية في تركيا كل الوقت.
. نشأ الفكر الحر وحزبه حزب الرفاه وزعيمه أربكان ضمن هذه البيئة التي اصرت على ان تظهر بعمقها الاسلامي وان تنتصر لقضايا الناس العادلة وتستفيد من هامش الديمقراطية مهما كان.
.نشأ أردوغان وسط الشبيبة الإسلامية التابعة للحزب وأصبح بعد وقت مسؤولها الأول في اسطنبول، أردوغان الذي ظهرت عليه معالم القيادية: وعيه، وتعاونه مع الآخرين، تغلغله بأوساط الناس، حسه العملي، إيمانه بالجماعية بالعمل والتصرف بروح الفريق، اعتماده على البحث والتقصي ودراسة الحالة، إدراك عمق المشاكل المجتمعية، حسه الإسلامي منصب على الأخلاق والعدالة وحقوق الناس، مؤمن كدولة وحضارة وتاريخ وامكانية على كل المستويات، كل هذه الاعتبارات جعلت من أردوغان وفريقه في مقدمة الفاعلية السياسية لحزبه حزب الرفاه، كانت أهداف الحزب ان يصل الى الحكم عن طريق الأغلبية النيابية والوصول الى قيادة البلديات التي كانت لها المسؤوليه الكامله عن الشؤون الخدمية والمجتمعية لكل الأتراك، وكل ذلك يحصل عبر الانتخابات النيابية والبلدية، التي تحشد كل الأحزاب طاقتها لتكسبها، والحصول ذلك كان أردوغان وفريقه مؤمنا بالتواصل مع الناس أصحاب المصلحة الحقيقية الذين يعانون من مشاكل اجتماعية وخدمية عامة، وعبر طرح حلول عملية والاستعداد لتطبيقها. أصبح أردوغان مسؤول عن شعبة حزب الرفاه في اسطنبول وأخذ ينفذ أفكاره التطويرية للعمل الحزبي والسياسي، وأهم أفكاره التواصل مع الناس، لقد فصل أردوغان بين الحركة بصفتها ذات عمق إسلامي، وبين كونهم حزب يجب أن يتواصل مع عموم الناس وتنوعهم، وأنه عليهم أن يقنعوا الناس بأفكارهم ورؤاهم هي حلول لمشاكلهم المستعصية وأن يتواجدوا معهم في الشارع والأسواق والمشارب ان الزم وفي بيوتهم وبينهم وكجزء منهم كل الوقت، وعمل مع فريقه على خوض غمار الانتخابات البلدية لمدن اسطنبول المتعددة ونجح في بعضها بداية، كان أردوغان وفريقه يواجه عقبة داخل حزبه حول التجديد، وأن ينغمس بين الناس وأن يطور مواقفه المجتمعية، في الحزب يجب ان يكون لكل الأتراك بتنوعها المجتمعي والديني و ليس للإسلاميين فقط، وكان يعبر عن تيار يواجه مركزية الحزب وسيطرة قيادته -ممثلة أربكان- على كل مفاصله، بينما كان أردوغان يؤمن بالديمقراطية الحزبية؛ وأن القاعدة الحزبية هي من تفرز قيادتها وأن كل امر يجب ان ينطلق من قواعد الحزب وعبر الانتخاب، وكان أردوغان يؤمن بالعمل الجماعي المؤسسي والمخطط ويبحث دائما في موضوعاته عبر التخطيط العلمي، من حيث معرفة واقع الناس ومشاكلهم، ومن خلال البحث بالحلول العلمية الممكنة من خلال لجان مختصة تتابع كل شيء. فعندما نجح بالفوز في بعض بلديات اسطنبول وبدأ في حل بعض مشاكلها المستعصية، كان قد درس كل ذلك وطرح له الحلول وأنه سينفذها كحلول انقاذية ونفذها. كانت إسطنبول في تسعينات القرن الماضي ممتلئة في المشاكل المستعصية: تراكم النفايات فيها، ومشكلة مياه الشرب الصعبة على الحل، ومشكلة الصرف الصحي التي حولت البوسفور ومرمرة إلى بحرين فاسدين، مشكلة ديون البلديات الغير مستوفاة للمتعاقدين معها، مشكلة المشاريع المتوقفة عن التنفيذ للإفلاس، مشكلة الفساد الذي يأكل كل شيئ. درس أردوغان وفريقه كل ذلك وقدم له الحلول المدروسة عبر فرق متخصصة وعبر النشاط الميداني، وتواصل مع الناس لينجح وفريقه وحزبه في الانتخابات البلدية لاسطنبول الكبرى حيث يطبق أفكاره وحلوله، وكان أمامه عقبتين رئيسيتين: أولهما العقلية الحزبية التقليدية المركزية المهيمنة الغير ديمقراطية؛ ممثلة أربكان والمحيطين به حيث كانوا يتصرفون وفق توجيهات أربكان ويدعمون من يعبر عن الولاء المطلق له عبر قاعدة السمع والطاعة، وكان أربكان والمحيطين به قد بدأوا يتلمسون صعود نجم أردوغان وقوة حضوره أصبحوا يخافون على مستقبلهم السياسي منه، فكانوا يضعون له العقبات دوما سواء أمام خططه أو استبعاد بعض فريقه، فمثلا منع أردوغان من الوصول للمجلس النيابي عبر تواطؤ قيادة الحزب مع آخر كان يلي أردوغان في الفوز، وكذلك إزاحة كثير من الأسماء المحسوبة على فريق اردوغان في الانتخابات البلدية ووضع بدائل عنهم من المحسوبين على رئاسة الحزب رغم عدم كفاءته، ومثله كثير. وكان أهم نقد من المجموعة التقليدية أردوغان وفريقه انهم يتجاوزون تميزهم أنهم إسلاميين، وتصرفهم وفق منطق الصالح العام وأصبح أردوغان وفريقه يسمون مع الزمن التجديديين.
.وكان هناك بالمقابل مشكلة الدولة العميقة؛ التي كانت تراقب صعود نجم أردوغان ونجاحاته الانتخابية وتنفيذ وعوده التي قطعها على نفسه في كل دورة انتخابية للمجالس البلدية ، وخططت لوضع العراقيل له و افشاله.
. عمل أردوغان وفريقه بكل دأب ونجح بانتخابات اسطنبول الكبرى وحصلوا على العشرات من البلديات، وسرعان ما بدأ بتنفيذ وعوده وخططه، فعبر اربعة سنوات اختفت مشكلة النفايات من اسطنبول، وحلت مشكلة المياه، ونظفت مياه البوسفور مرمراي، وحلت مشكلة الصرف الصحي، وبدؤوا بحل مشكلة المواصلات؛ وشرع ببناء شبكة المترو و توسع السكك الحديدية والربط بينها. لقد أظهر أردوغان وفريقه صورة عن النموذج الواعد لتركيا كلها، وهنا بدأت الدولة العميقة بالتفكير بالتخلص من حزب الرفاه عموما ومن اردوغان سياسيا، فقاموا بانقلاب أبيض حيث أسقطوا حكومة الائتلاف بين الرفاه والحزب القومي وحلوا حزب الرفاه بذات الحجة المدعاة دوما وأنه حزب معادي للعلمانية، ولم يتركوا لأردوغان فرصة ليستمر في ولايته في بلدية اسطنبول؛ واستغلوا ظهوره في الأناضول في برنامج انتخابي لصالح الحزب الجديد (الفضيلة) الذي أسس بديلا عن حزب الرفاه، وقراءة أردوغان لشعر اعتبر دعوة للعنصرية وضد العلمانية والعودة للإسلام، وسرعان ما تحول ذلك لدعوى قضائية عليه، ادت للحكم عليه لمدة سنة وسجن منها أربعة أشهر، وحكم عليه بمنعه من ممارسة السياسة. كانت ضربة قاسية على أردوغان وفريقه، وكان أردوغان مستهدفا هذه المرة بحياته داخل السجن، حيث علم ذلك عبر تسريب المعلومة وقتها، ومن بعض المعترفين على ذلك بعد وقت طويل، لكن عملية الاغتيال ألغيت، ويخرج أردوغان من السجن مصرا على هدفه واستمرار نشاطه. لم ييأس أردوغان بل على العكس تمسك بصحة نهجه وعمله، فها هي نتائج أعماله وفريقه تظهر في اسطنبول، وأصبح أردوغان الاسم الذي يتردد بين الشعب على أنه يحمل حلم حل مشكلات تركيا وتقدمها؛ في الاقتصاد التركي انهار وابواب البنك الدولي مغلقة والطبقه السياسيه قد فشلت، وتقرر اجراء انتخابات نيابية مبكرة ليتحدد من سيكون له القدرة على حمل مشكلات تركيا .
.في الاثناء كان أربكان وأردوغان و فريقيهما يفكران بحل وطرحت فكرة حزب الفضيلة كبديل عن حزب الرفاه، واختلف أربكان وفريقه التقليديين الكبار مع أردوغان وفريقه الشباب والتجديد ولم يستطيعوا الوصول لحل وسط فافترقوا، فاستمر أربكان في حزب الفضيلة الذي حظر، وكون بعده حزب السعادة واستمر على نهجه وأفكاره وأصبح حزبا ضعيفا وفاعليته قليله في تركيا وبين قواه السياسية.
.اما أردوغان وفريقه فسرعان ما عملوا على التجهيز لتأسيس حزب جديد يحمل أفكار وتوجهات أردوغان وفريقه، وتسابقوا مع الوقت ويقدموا رؤيتهم حول كل شيء: افكار الحزب الجديد، اسمه العدالة والتنمية، ورمزه المصباح، ورؤيته الإصلاحية، و تخطيطه لخوض انتخابات نيابية يحصل بها على نسبة تجعله يشكل الحكومة ويقود الدولة.
.تشكل لذلك فريق يعمل طول الوقت ويتابع كل شيء بما فيها التواصل مع الناس في كل المدن والأرياف في كل أركان تركيا؛ اجتماعات مع الناس والاستماع لاوجاعهم ومشاكلهم.
. وهكذا أعلن أردوغان وفريقه الحزب وكان هو رئيسه. وحدد مؤسسوه ومرشحيه للانتخابات وقاموا باستطلاعات كثيرة وكانت كلها مبشرة. وكان هناك مشكلة المنع السياسي عن أردوغان وحاولوا رفع المنع عنه ونجحوا؛ لكن الدولة العميقة ممثلة بالنائب العام أعادت المنع مرة أخرى. وهذا لم يؤثر على أردوغان وفريقه وعمله. فقد نشطوا داخليا واتفقوا أن يكون عبد الله غل رئيسا للوزراء في حال الفوز في الانتخابات النيابية. وبدأ أردوغان جولة زيارات خارجية على كل الدول الفاعلة والمؤثرة؛ اوروبا وامريكا وروسيا والصين وكلها تعاملت مع أردوغان على أنه رجل تركيا القادم. وحصلت الانتخابات ونجح حزب العدالة والتنمية وأعطي له حق تشكيل الحكومة وقيادة تركيا للمستقبل؛ الذي بدأ في 2002 (ومازال مستمر للان 2017). نجح الحزب عبر المجلس النيابي الجديد أن يرفع الحظر السياسي عن أردوغان، وأن يتم انتخابه مجددا ويعلن رئيسا للحزب، ويكلفه بتشكيل حكومة العدالة والتنمية في تركيا التي بدأت بقيادة أردوغان لتجعل تركيا الدولة المتقدمة في كل شيء .
.تنتهي متابعة الكتاب عند استلام أردوغان لرئاسة حكومة العدالة والتنمية التركية 2002…
.لكن أردوغان وحزبه ورؤيته الاستراتيجية وأعماله أصبحت نموذجا يتفق معه الكثير ويختلف معه البعض داخليا وخارجيا، لكن الاكيد ان اردوغان وحزبه جعل تركيا من الدول العشرين الأكثر تقدما في العالم، أردوغان الذي ربط بين الدين والديمقراطية والعدالة ومصالح الناس، وربط بين العلمانية والديمقراطية وقبول التعدد والتنوع والاعتراف بالمشاكل المجتمعية وحلها، وأخرج تركيا من القوميه العرقيه القوميه التركيه كمواطنة لكل أبناء تركيا عبر تعددهم وتنوعهم وأسس لحل المشكلة الكردية، ولو انها عثرت أخيرا بسبب التدخلات الخارجية المستهدفة أمن تركيا ودورها. وهذا حديث آخر.
.الحديث عن تركيا من استلام حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان يتطلب كتاب آخر بذات الدقة والقرب من صناع القرار ننتظره..
.وقبل النهاية لا بد أن نؤكد على انعكاس تجربة أردوغان وحزبه علينا نحن العرب، فقد أسس للديمقراطية وتأصيلها في الفكر الإسلامي، وكذلك قدم تعريفا مقبولا للعلمانية بكونها تساوي المواطنة وحرية الاعتقاد، وانتصاره للحقوق العربية في فلسطين، وداعم للربيع العربي، واستقباله للسوريين اللاجئين ومعاملتهم الافضل دوليا على كل المستويات.
.والحديث يطول..
.رجب طيب أردوغان انسان رسالي قام ويقوم بدوره: منتصرا لإنسانية الإنسان والجماعة الوطنية والحقوق؛ رافعا راية العدالة قولا وفعلا، وممارسة الديمقراطية بصفتها الطريقة الأمثل لممارسة الحياة نحو الأفضل، للفرد والجماعة الوطنية والدولة واعتبار العدالة معيار نجاح السياسة عالميا…
511 7 دقائق