لا غنى عن مواجهة سؤال الهُوِيّة بأبعاده المُتراكبة، ولا سيما في هذه المرحلة المفصليّة القاسية، والتي أضحى فيها هذا السؤال محورياً بهدف البحث عن أفضل الطرق لمُجاوَزة إشكاليات الماضي والحاضر التي لطالما عطّلتْ عملية تخليق هوية وطنية سورية جامعة، وللعبور نحو آفاق المستقبل الأمثل لوطن مزّقته الحرب التي لم تكنْ بالتأكيد وليدة لحظتها الراهنة.
شكَّلَ الانتماء القومي و/أو الديني في معظم الدول التي سادَ فيها سلطوياً عائقاً أمام بناء هويات وطنية مُنفتحة على الحياة والتحوُّل والتقدُّم، ولا سيما أنَّ هذا الانتماء المُؤطَّر والمُدجَّج بالأيديولوجيا كان ركيزة أساسية استغلّتها التنظيمات السياسية القائلة بها من أجل الاستيلاء على السلطة.
ولهذا، فليس من المفاجئ القول إنَّ مجتمعات الطوائف المذهبية والإثنيات العرقية عجزتْ عن تشييد دول حديثة بفعل سياسات الهوية، ذلكَ أنَّ تلك السياسات تنهضُ ببنيتها الأصلية على أدوات إقصائية تفاصلية تنفي الآخرين، وتمنع تحوُّل التعددية الهوياتية الموروثة إلى نعمة وغنىً ومادة أوّلية مُنتجة للثقافة ومُبدعة للحضارة في ميادين الحياة كافة. وهذه الآليات الأيديولوجية الكابحة للتطور والانفتاح هيَ ما سادَ في سوريا طوال العقود الماضية، حيث التقتْ في تحالف موضوعي عميق مصالح سدنة الاستبداد السياسي مع مصالح سدنة الهويات الموروثة لتسوير المجتمع بإحكام، وخنق روحه الأصيلة، فغذّى كُلّ من الطرفين الآخَرَ عبر استثمار مُتبادل كان يهدف دائماً إلى تأبيد الجهل والتخلف والاستعصاء الوطني التاريخي، وبوجهٍ خاص من قبل السلطة السياسية التي عملَتْ جاهدةً على تجميد ديناميات التحرُّر والانفتاح على الحياة والعالم والعصر الحديث.
ومن الواضح في هذا المنحى أنَّ عملية تشكُّل هوية وطنية سورية جامعة قد عُطِّلتْ مساراتُها أو أغلقتْ نتيجة إطلاق شامل لسيادة سلطة الهويات الجوهرانية الضيقة والمتعالية، وهذا هو البُعد الأساسي الذي تمَّ الاستناد إليه سياسياً في خلق وعي وجودي زائف لطالما احتفى بنفي الآخَر المختلف في المجتمع السوري؛ إذ توضَّعَتْ الهويات الموروثة في حالة مواجهة تقابُليّة حدّية تقوم على منطق الثنائيات الميتافيزيقية المركزية المُسَبَّقة والإقصائية، والتي تنظرُ إلى الآخر بوصفه منطوياً على خصوصية مُضادّة ومُهدِّدة لخصوصيته المُتخيَّلة التي ينبغي الحفاظ عليها بنفي ذلك الآخر. وفي منحىً مُكمِّل أيضاً مارسَتْ أيديولوجيا السلطة بدورها هذا التوضُّع الميتافيزيقي الشموليّ المُتعالي على الآخرين، مُتمسِّكةً بمنطق الهوية الجوهرانية النّقيّة والمُسَبَّقة.
إنَّ حاجة الذات الفردية والجماعة الإنسانية _أيّاً كان وصفها_ إلى هوية هي حاجة عضوية طبيعية، لكنَّ السؤال المُلِحّ في هذا السياق يرتبط بكيفية توجيه هذه الحاجة باتجاه وطني جامع وعُمق إنساني وكوني بنّاء. ولا سيما إذا انطلقنا من أبجديات معرفية ترفض الحديث عن وجود تطابق هوياتي شامل بين كائنين بشريين حتى ولو كانا شقيقين، فالإنسان يتألف من طبقات هوياتية متعددة تبدأ بالمعطيات الموروثة (دين _ إثنية _ أسرة _ عائلة . . . إلخ)، ولا تنتهي بالمهنة والمؤسسة والميول الخاصة والاعتقادات المتنوعة والمخيالات الكثيرة والأمزجة المختلفة والمُتغيرة، والتي يُمكن أن تتصل حتى بالفريق الرياضي الذي يشجعه المرء، أو بنوع الموسيقى التي يهواها، أو بالمدرسة السينمائية أو المُخرج الذي يعجبُهُ مشروعه الفنِّي.
وهكذا، تبدو الهوية اضطراراً بمعناها المُعطَى والموروث، وتبدو اختياراً بمعناها الديناميكي الحي والمستقبلي، والحلّ الحاسم باعتقادي لاحتواء خطر تحوُّل الهوية الموروثة إلى عامل مُعطِّل للهوية الديناميكية لا يكون بمُصادَرة حقّ تلكَ الهوية المُسَبَّقة في الحياة؛ إنّما بإيجاد الصِّيَغ المؤسساتية اللازمة لتحويل المُعطى قَبْلاً إلى مواد أوّلية قابلة للمُساهَمة بقوّة في تشييد هوية وطنية مُنفتحة على الوجود، لا العكس.
وأوّل خطوات هذا التشييد المُفترَض والمرغوب به تكمنُ في الاعتراف بالحتمية الوحيدة في الحياة الإنسانية وهيَ التنوُّع والتعدُّد والاختلاف. فإذا كانتْ الهوية الفردية تتشكَّل عبر علاقاتها مع المحيط والآخرين ضمن زمر ضيقة، أو واسعة، تعاقدية، أو مفروضة، فإنَّ معظم المجتمعات المُعاصِرة وبوجهٍ خاص في الغرب، قد استطاعَتْ _إلى حدٍّ ما_ تفكيك الهويات الخطرة، والحدّ من قواها المُعطِّلة للتشييد الوطني والتّقدُّم الحياتي، ودفعها باتجاه أنْ تكون ديناميات مُبدعة انطلاقاً من مُحاوَلة دمج المُسَبَّقات الموروثة في بِنية كُلّية جامعة. فضلاً عن أنَّه من الضروري الإشارة في هذا الموضِع إلى التَّحوُّلات الجذرية العميقة التي شهدَها العالم المُعاصِر بعد التكاثُر والتوالُد والتداخُل غير المسبوق للزمر الاجتماعية في زمن العولمة وثورة الاتصالات والرقميات، وهو الأمر الذي فتَّتَ إلى حدّ ما فكرة صفاء الزمر الهوياتية الأوّلية، وفتَحَ الأبواب واسعةً لمُجاوَزة الهويات المُغلَقة والمُتّكئة على فكرة الجوهر النّقي والمُسَبَّق والطّارِد للآخَر المُختلف من دائرة الحقّ في الوجود.
إثرَ انفجار الواقع الاجتماعي والسياسي السوري طفتْ على السطح كل عيوب المراحل الماضية ومساوئِها التي كانتْ تتراكمُ تحت السطح الظاهري الذي ضبطتْهُ القبضة الأمنية للسلطة، لتتشظّى جميع تلك المساوئ دفعة واحدة حاملةً في تناثرها العشوائي كُلّ الأسئلة الكيانية الوطنية التي لم تعدْ تقبل الإرجاء.
وكان من بين انعكاسات البنية الهوياتية الموروثة والمُعطاة قَبْلاً تلك الصدمات التي كشفتْ عنها أزمة الوافدين والنازحين، وانتقال أبناء بيئات مختلفة إلى بيئات أخرى قلّما كان يحدث الاختلاط والتفاعُل معها من قبل. ويبدو أنَّ الأفكار والرؤى المُسَبَّقة الخاصّة بصورة الآخَر، والتي لطالما غذَّتْها السلطة طوال عقود، قد حضرَتْ بقوة في مخيال كل مجموعة عند اختلاطها بمجموعة ثانية، وإنْ كانَ الشكل التّكافلي والتراحمي السوري العريق قد غلَّفَ إلى حدّ ما مناحي التّعامُل، لكنَّ ذلكَ لا ينفي وجود شكل عميق من الارتياب الهوياتي بين الجماعات المختلفة، وإلا كيف نفسِّر الدوافع العنفية التي طفتْ على سطح الحدَث السوري، ولا سيما بعد أشهر الثورة الأولى السِّلْمية، وبصورة خاصة من قبل السلطة أولاً، وهذه المسألة تذكِّرُنا بالتأكيد بمقولات سيكولوجية الإنسان المقهور من أي طرفٍ كان، وكيفَ يتحوَّلُ المظلوم إلى ظالم، والضحيّة إلى جلّاد، وبالعكس.
فإذا كانتْ الكثير من المُعطيات السلبية للمُسَبَّقات الهوياتية الموروثة والجوهرية قد تحجَّمَتْ، أو على الأقلّ قد تهذَّبَتْ بفعل روح الاختلاط والتواصُل والتّثاقف الناجم عن الاختلاط المذكور هُنا، غيرَ أنَّ هذا لا يعني بحال من الأحوال أن نتحدَّثَ عن تراجُع أو اضمحلال إشكالية الهويات الضيقة بفعل التمازج الحاصل بين البيئات المختلفة، ذلكَ أنَّ كثيراً من مظاهر التعايُش البادية الآن بين البيئات الحاضنة والوافدين أو النازحين الجدُد تتعلّق _كما ذكرتْ من قبل_ بطبيعة تكافلية تراحمية سورية كانتْ مُغيَّبة من جانب أوّل، وتتعلّق من جانبٍ ثانٍ بدينامية الحياة اليومية وضرورات التأقلم مع مصالح الواقع الراهن، ولا سيما تلك المصالح المادية، من دون التخلّي التام عن الرؤى والمعتقدات والبنى الأوّلية المُسَبَّقة.
ولكي لا أكونَ شديد التشاؤم في هذا السياق لن أنفي وجود إيجابيات غير قليلة لهذا الاختلاط، غيرَ أنَّ أي كلام علمي ينبغي أنْ يُبنى على أسس مُغايرة لهذا الارتياح الأوّلي، فأنا لا أستطيع أن أتجاهلَ أبداً وجود نوع واضح من الشعور المُستمر بالارتياب لدى أبناء كثير من البيئات الحاضنة، ولا أستطيع أن أتجاهلَ أبداً وجود نوع واضح من الشعور بالاغتراب لدى أبناء كثير من البيئات النازحة. ولهذا يبدو لي أنَّ أي حلّ وطني حقيقي ينبغي أنْ يتمَّ عبر إعادة تشييد الهوية الوطنية الجامعة مؤسساتياً؛ أي بخلق عقد اجتماعي _ سياسي جديد يحمي فكرة التعايُش من أي اختراق بنيوي أو خلل أو استغلال، وهي المسألة التي تبدأ بإعادة النظر في العملية التربوية، وفي المنظومة الثقافية، وتمرُّ أيضاً بإعادة تشكيل ضوابط علاقات الزمر الاجتماعية والأهلية والمدنية، وتنتهي أخيراً ببناء المؤسسات الفوقية المختلفة، ولا سيما في المستويين الاقتصادي والسياسي، بهدف بناء دولة ديمقراطية تعددية عادلة.
وأرى في هذا الإطار أنَّ عملية إعادة إحياء الذات السورية الفاعلة عبر العمل على إعدادها بأشكال ووسائل مُعاصِرة، بما هو إعداد يهدف إلى تشييد هوية وطنية سورية جامعة، لابدَّ أنْ يرتبط عميقاً بتخليق تمثُّلات مُغايِرة ومُمارَسات اجتماعية تمنح الأولوية للنزعة الفردية في إطار البنية المؤسساتية الوطنية الجامعة؛ ذلكَ أنَّ التمترس على الهويات الموروثة والمُعطاة من قَبْل، ومُصادَرة المجتمع من قبَل السلطة السياسية طوال عقود، أدّى إلى التّضحية بالفردية قبل أية قضية أخرى، ومن الطبيعي أنْ يكون هذا المحو الشمولي للذاتية طريقاً استبدادياً لسيادة الهويات الضيقة في مجتمعنا، في حين أنَّ أي بعث لهذه الهوية الفردية يعني في جانب منه بعثاً للهوية الوطنية الجامعة، وهو الأمر الذي لن يتحقّق خارج إطار بناء مجتمع ديمقراطي يُعيد تعيين الهويات الضيقة بوصفها انفتاحاً على الآخرين من ناحية أولى، وانفتاحاً على العصر والتعددية والحرية والإبداع من ناحية ثانية.
إنَّ الهوية المُعاصِرة لا يُمكن أنْ تتحدَّد بعد الآن تحديداً نهائياً، إنْ لم نقُلْ إنّها لم تكُنْ قابلة للتحديد نهائياً من قبل إلا في إطار تزييف الوعي الوجودي طوال عصور بشرية طويلة، وسببُ عدم القدرة على ضبط الهوية يكمنُ في أنّها ليستْ سوى حركية دينامية متحوِّلة طيلة حياة الفرد والمجتمع، فهيَ انفتاحٌ دائمٌ نحوَ المجهول. وبهذا المعنى يبدو أنَّ حركة العصر الحالي المُتسارعة بلا هوادة تلغي القدرة إلى حد بعيد بعدَ الآن على السيطرة على الهويات واستثمارها لغايات سلطوية، ناهيكم عن القول إنّنا أصبحنا أمام عصر مُغايِر سيفرضُ على مجتمعاته وبلدانه أشكالاً مُغايِرة لم تُختبَر من قَبْل من تشكُّلات الهوية، وهذه الحركيّة الجديدة والجامحة لا بدَّ أنْ تُحدِثَ تغييراً عميقاً يُعلِّمُ الفرد كيفَ يحتفي بتنوّعه واختلافه بوصفه مجموعة انتماءات مُتعدِّدة تتفاعَل بدورها مع مجموعة غير نهائية من انتماءات الأفراد الآخرين والزمر الأخرى في المجتمع المفتوح على المجتمعات الأخرى بطبيعة العصر الراهن.
وعلى هذا النحو، يقودُنا هذا الحديث بالتأكيد إلى فَهم دور التحوّلات المحلية والكونية في تفجير الثورة السورية، حيث اخترَقتْ شبكات المعرفة والمعلومات وسيولة الأخبار والصور عوالم الشباب السوري، وأطلعتهم على أنماط أخرى من الحياة أحسُّوا بأنَّها مُغيَّبة عن بيئتهم الأمّ، وبأنّهم يطمحون إلى تحقيقها وعيشها في وطنهم. وهذا التثاقُف الجديد بقدر ما كان حاسماً في تفجير الحالة السورية، أظهَرَ مدى حيوية تشكُّلات الهوية المعاصِرة وتلاقحاتها مُتعدِّدة الطبقات، والتي بات من المستحيل حصرها في نمط أحادي مُغلَق، ولذلك يبدو أنَّ أيّة نظرة مُتفحِّصة وعميقة تهدف إلى إعادة تخليق المساحة الوطنية السورية، وتشييدها على أسس سليمة، ينبغي عليها أنْ تعي هذا البُعد الكوني للهويات المُعاصِرة، وأنّه ما من بلد أو مكان في العالم بمعزل عن تبادُل التأثر والتأثير مع كُلّ البيئات البشرية الأخرى، وأنَّ فكرة النقاء الجوهري باتتْ فكرة من الماضي البالي، ليسَ فقط لأنَّ منطق الاجتماع البشري يدفع إلى مُجاوَزتها، ولكنْ أيضاً لأنَّ واقع الحال يلفظُها تلقائياً.
لكنَّ تحقيق هذا الانفتاح الوطني المرغوب على العالم المُعاصِر لا بدَّ أنْ يبدأ أوّلاً بترتيب البيت الوطني الداخلي، وذلك بفَهم الدُّروس المؤلمة التي قدَّمتها بقسوة بالغة الحرب السورية، ومُعالجة كُلّ أخطاء الماضي المُتراكمة، ولا سيما بما يخصُّ تعطيل فعالية المجتمع على يد سلطات الهويات الموروثة والهويات الاستبدادية المُختلفة، انتهاءً بصوغ هوية وطنية تعاقدية جامعة ومُعاصِرة تحقِّق لهذا الجيل المكلوم وللأجيال القادمة أحلامها في الانتماء إلى العصر والعودة إلى التاريخ.