حين يتعلق الأمر بالديمقراطية، فمفهوم الديمقراطية واضح، وعناصره يمكن لمسها بسهولة، فالديمقراطية نقيض الديكتاتورية، وهي نظام الحكم المؤسس على احترام الحريات العامة والخاصة، وبناء المؤسسات الديمقراطية المعروفة كالبرلمان، ونظام الانتخاب وطريقة تداول السلطة وحدود صلاحية الحاكم ومسؤولياته. ويتضمن ماسبق حرية الصحافة وتشكيل النقابات والأحزاب بطريقة حرة، والتعبير عن الرأي …الخ.
ليس هناك من غموض أو التباس في مفهوم الديمقراطية، فقط ينبغي تحرير ذلك المفهوم من جميع التشوهات التي لحقته في التجربة التاريخية السابقة مثل( الديمقراطية الشعبية) أو الديمقراطية (الثورية) أو(الديمقراطية الاشتراكية) والتي لم تكن تعني في المحصلة النهائية سوى اغتيال الديمقراطية( بالشعبية) أو اغتيالها ب( الثورية) أو تفريغها ب ( الديمقراطية الاشتراكية).
لكن المسألة تبدو مختلفة حين نصل للعَلمانية، إذ تظهر العَلمانية كمفهوم ملتبس وإشكالي، فالعَلمانية التي انبثقت مع الثورة الفرنسية كانت تعني إنهاء سلطة ونفوذ الكنيسة ورجال الدين على الدولة ومؤسساتها، وقد قامت الثورة الفرنسية لإنهاء نظام الحكم الملكي ببنيته التي ترتكز على ثلاثة ركائز، الملك، النبلاء، الكنيسة، بالتالي كان لابد من تحطيم المرتكزات الثلاثة معًا لإنهاء ذلك النظام بصورة جذرية، وقد ترافق ذلك مع صعود الطبقة البورجوازية حاملة معها روح التحرر والانعتاق من المفاهيم الدينية الضيقة التي سادت أوربة فترة طويلة.
لقد دخلت الثورة الفرنسية والطبقة البورجوازية في حالة عدائية مع الكنيسة سياسيًا وفكريًا، وقد انتشرت تلك الروح التي تبلورت في مفهوم العَلمانية في أوربة مع انتشار الديمقراطية والجمهورية.
وفي بداية القرن العشرين، وصلت تأثيرات تلك الروح إلى تركيا، فولدت العَلمانية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك، واتخذت منحىً عدائيًا تجاه الإسلام، فأغلقت المساجد ومنع الأذان، وفرض على النساء رفع الحجاب بالقوة، ومنعت المدارس الدينية، وجرت محاولة فصل الإسلام عن تاريخ تركيا وثقافتها، وإبعادها عن محيطها الإسلامي واستبدال ذلك بقومية طورانية متلبسة بثقافة غربية.
في روسيا تحولت العَلمانية إلى عَلمانية شيوعية لاتكتفي بالقضاء على الأديان كافة بل بفرض عقيدة الإلحاد بالقوة، وفي جميع البلاد التي خضعت للحكم السوفياتي دمرت المساجد أو أغلقت واستخدمت لأغراض أخرى.
وقد تركت التجارب السابقة أثرًا عميقًا لدى الشعوب العربية المسلمة، فأصبحت العَلمانية مرادفة للإلحاد ومحاربة الدين إلى حد كبير.
واليوم ليس من السهل تحرير ذلك المفهوم مما علق به من ممارسات تاريخية، سواء كان الهدف من ذلك استعادته بصورته الأصلية أو إعادة تأسيسه بطريقة مختلفة عما سبق.
ودعونا نسأل: لكن ماذا نريد نحن من( العَلمانية) ؟
إذا كنا نريد دولة المواطنة التي هي دولة جميع المواطنين بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم، والتي تنظر إليهم وتعاملهم بطريقة متساوية تمامًا من حيث هم مواطنون فقط، فذلك يمكن التعبير عنه مباشرة كما جرى في دستور سورية لعام 1950 كما جاء في الفصل الثاني – المادة السابعة: ( المواطنون متساوون أمام القانون في الواجبات والحقوق وفي الكرامة والمنزلة الاجتماعية)
وإذا كنا نريد من خلال( العَلمانية) ضمان حرية الاعتقاد والعبادة لجميع الأديان والمذاهب فذلك أيضا يمكن التعبير عنه مباشرة كما جاء في الفصل الأول – المادة الثالثة من الدستور( دستور 1950) . ( حرية الاعتقاد مصونة والدولة تحترم جميع الأديان السماوية وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها …) ماذا نريد بعد ذلك ؟
حسنًا دعونا ننتقل إلى مستوى آخر، هل كانت سورية في العهد الديمقراطي خصوصًا بين 1954-1958 دولة دينية أم دولة عَلمانية، إذا كان لابد من استخدام تلك المقابلة بين المفهومين؟
لا أظن أن أحدًا يستطيع القول إنها كانت دولة دينية.
هل احتاج المشرعون الذين وضعوا الدستور لزج كلمة العَلمانية فيه؟
حسنًا، الآن لماذا نشعل خلافًا لاضرورة له حول( الشعار) بدل أن نتفق حول المضامين؟
أما إذا كان هناك من يظن أنه يمكن وضع لبنة في الدستور لمحاربة الأديان في سورية فهو حالم يرثى له.
فالدستور في أي بلد هو قانون القوانين، من روحيته وأهدافه ومبادئه تشتق القوانين التفصيلية، وهو مرجعيتها، ويعتبر العقد الذي ارتضاه المواطنون لتنظيم دولتهم ومؤسساتهم التي تدير أمورهم التشريعية والتنفيذية والقضائية، من أجل ذلك كان لزامًا على الدستور أن يعبر عن التوافق الوطني منذ البداية، وأن لاينشأ خارج إرادة فئة اجتماعية هامة، ثم يتم تطبيقه ضد إرادتها حتى لو حاز على الأغلبية في انتخابات حرة نزيهة.
كلمة أخيرة تتعلق بما تحدث به البعض عن وضع مبادىء( فوق دستورية). فمثل تلك المبادىء مكانها مقدمة الدستور التي يرجع إليها عادة باعتبارها مصدر الإلهام لمقاصد الدستور.
وماسوى ذلك لامكان له سوى ما يخطر على بال شخص أن يفرضه أو يمرره وذلك حقه إن كان دستوره وليس دستور جميع السوريين.