عن دار رياض الريس للنشر والتوزيع صدرت رواية فواز حداد الأحدث “جمهورية الظلام”. وهي استمرار لسلسلة رواياته التي تحاول أن تكون سجلا أدبيا لتاريخ سورية وتعبيرا عما مرت به البلاد في العقد الأخير من القرن الحالي.. تحاول أن تكون العين المبصرة والبصيرة، والعقل المحلل لما حصل ويحصل في سوريا من موقع الانتماء للشعب، وعلى أن العمل الروائي كما نراه، مرآة الحياة وصورتها المبتدعة، المطابقة في العمق للواقع.
رواية “جمهورية الظلام” التي نتناولها هي استمرار لروايات حداد التي عملت على تحليل النظام السوري من جوانب عدة بدءا من “السوريون الأعداء” و”الشاعر وجامع الهوامش” إلى “تفسير اللاشيء” و”يوم الحساب” في مواكبة للحدث السوري ربيع عام ٢٠١١م، وتأثيره في المجتمع.
في هذه الرواية يغوص فواز حداد عميقا في البنية الامنية والاستخباراتية للنظام السوري، مصنع القمع الشامل، ومركز الفعل الإجرامي الوحشي. لذلك سيحتل الصدارة في الرواية، يأخذ وقائعه من خلال المناخ الأمني العام السائد في البلد، مع أن الفرع الأمني في الرواية مضاد لهذه التركيبة، وإن كان يحمل رقما ككل الفروع الامنية السورية.
يُفتتح الحدث الروائي، بمخبر يقدم تقريرا بحق كاتب نشر قصة قصيرة تحتوي على رمز يُفسّر على أنه التبشير بانقلاب ينهي الحرب الدائرة. من هذه الحادثة تتداعى سلسلة تكشف عن آلية تعامل النظام ليس مع الأدب فقط، بل مع الناس دونما تمييز، وضد كل من يخطر له أن يفكر. فالتفكير ممنوع، يستحق العقاب، ما يحيل الكاتب فورا إلى الفرع. ولم تكن الإجراءات بالأمر السهل، فقد أصبح الحساب مؤجلا بعدما أحيل الخلاف إلى الرئاسة حول تقييم القصة كقضية ضمير، خاصة بعدما ارتبط بالضمير الذي حض عليه الرئيس الخالد.
تتوالد عن هذه القضية قضايا تتسلسل متناسلة من بعضها بعضا في داخل عالم مظلم وظالم؛ تأخذنا إلى القصر الجمهوري وما يدور فيه، تطالعنا فيه الأم الأرملة والثكلى التي فقدت زوجها وأولادها دفاعا عن النظام. وهو أمر لا يسترعي الاهتمام، الا لأنه يثير مشكلة وهي أن الأم تمت بصلة إلى العائلة الحاكمة، ما يزج الرئاسة في دوامة مستعصية، فالأم تطالب أن يُعطي ولدها الأخير الباقي على قيد الحياة، منصباً يتناسب وتضحيات العائلة، مع الاخذ بالاعتبار أن الابن ضابط مصاب بوسواس الموت خدمة للتحرير. ما يؤدى أخيراً إلى اختراع فرع أمني وهمي، يختلقه المهندس صانع السياسات الامنية، ولكيلا يكون له أي مفعول، سيقوم برعاية هذا الفرع، بضمانة أن يكون شكليا منزوع الصلاحيات.
ماذا يكون هذا الفرع الذي من المفترض أن يكون بلا عمل؟ فرع خاص بأدباء لا حول لهم ولا قوة. تكتمل الحلقة بإرسال مثقف معروف كي يقود الضابط خشية أن يتعدى صلاحياته ويتعامل معهم وكأنهم من العوام، ويحاول اطلاعه على عالم الأدباء المتوزع بين اتحاد الكتاب والمقاهي والمطاعم، لئلا يعتقد أنه فرع حقيقي ويتصرف على انه ضابط استخبارات، بينما هو رئيس فرع زائف.
تتشعب رواية حداد، وتحضر الشخصيات فيها بشكل سلس، ضابط برتبة لواء كنموذج نادر لضابط شريف عفيف اليد، ورقيب مجند يعلم أولاد اللواء ليتجاوزوا امتحان البكالوريا ولو كان بالنجاح بصعوبة. تتابع الرواية مصائر اللواء الذي سيسرح من الجيش، خلال تفاقم الوضع السوري ودخول سورية في حرب اهلية طرفها نظام قاتل وشعب مقتول، سيبدو اللواء حسب مصادر غربية، احتمال دولي كبديل عن رأس النظام. فيستدعى من قريته الساحلية الى العاصمة ليختفي في العدم قتلا أو احتجازا. ابنه لم يخرج عن كونه ابنا لضابط كبير استُثمر مثل غيره في الحرب، فالتحق بكتائب الشبيحة؛ سرق ونهب وفساد وفجور ينتهي به مقتولا في صراع مع أمثاله من الشبيحة حول اقتسام الغنائم. الابنة تشكل مجموعة من الشبيحة مؤلفة من نساء وفتيات، يحتجزن لخروجهن عن قواعد التشبيح وأنظمته الذكورية، إلى أن تلتقي بخالد المسؤول الامني الرفيع المنتمي للعائلة الحاكمة، الذي حل محل المهندس الذي قتل أو انتحر، لأنه كان جزء من محاولة لإقصاء رأس النظام.
الأستاذ الشاب المغمور الناشئ من بيئة دينية ومجتمعية دمشقية محافظة، سيُزرع محققا في أحد الفروع الأمنية بناء على طلب اللواء ردا على جمائله في تعليم أولاده، سيكون معاون الضابط رئيس الفرع الوهمي، الذي بلا فاعلية، يوكل اليهما القيام بمهمات ادبية بين الكتاب والأدباء والمثقفين. الذين كان أغلبهم جزء من قطيع مثقفي السلطة، الصامت والساكت والمتواطئ.
بينما المسؤول خالد القريب والمقرب من العائلة الحاكمة، يخطط لإبعاد الرئيس، ووراثة حكم سورية، ثمنا لاستمرار النظام حسب نظرية أبدية السلطة، وتغير وجوه الحاكمين، بذريعة ان الرئيس الحالي قد استهلك، ولم ينجح في تجاوز أزمته الوجودية في سوريا.
تتخلق على هامش الرواية حقائق الحياة السورية، التي صنعت على مدار نصف قون، وتنكشف العقلية الأمنية الشاملة التي تدير البلد، فلا تجد حلا إلا بسحق الثورة والحاضنة الشعبية، وحرب لم يعد فيها قتل المدنيين إلا سعيا لتهجيرهم، وتدمير بلداتهم وقراهم ومدنهم، وتحويلها لذكرى عن بلاد كانت هنا.
يؤدي التنافس بين الجيش والأمن واجهزة الدولة الاخرى إلى تكديس المعتقلين في مراكز التوقيف بشبهة ومن دون شبهة، فلا اهتمام بانتزاع المعلومات والاعترافات منهم، بقدر قتل كل من تصل اليد له. الفروع تغص بالمعتقلين تحت التعذيب، وفي المشافي التابعة للنظام، كمواقع اخرى للقتل بتنويع اجرامي حاقد، غرف سوداء للانتقام. بات المطلوب التنكيل بالمعتقل قبل الاجهاز عليه، وستفرز هيستريا التعذيب الضحايا بالآلاف، عدا المصابين بعاهات دائمة والمعاقين… كل هذا على هامش جمهورية الظلام، التي تعمل بدأب على استمرارية النظام ولو أدى إلى فناء الشعب السوري.
تستمر الرواية بصفحاتها التي وصلت ٤٨٠ ص في الغوص بالظلام، خلال مسيرة تتداعى من بعضها بعضا، حكاية تجر حكاية، متابعة مصائر شخصياتها، وخالقه شخصيات جديدة، نتابع بشغف أدوارها ومآلاتها… المحقق النظيف سيستمر متسترا على موقفه الرافض، يلتقي من فترة لأخرى مع شخصية لا ندري ان كانت حقيقية أو وهمية، اختصر اسمها بحرفين ف خ، فسرها المحقق بـ”فاعل خير” شخصية مثلت له الاستمرار الخيالي أو الواقعي لصوت الضمير، تنير له طريقه وتساعده على تجاوز العقبات وتوضح له الكثير من الخفايا، رغم ما شكلته له من الحيرة والتساؤلات حوله، كان يحضر حينما يحتاجه، ثم يغيب. سيتضح في ختام الرواية هذا اللبس ففاعل الخير يوحي بمايسترو الرواية وصانع شخصياتها ومساراتها ومآلاتها ومصادفاتها، من خلال حوار طريف يفسر دور الروائي ككاشف للحقيقة، وقدرة الرواية عن التصدي لعالم خفي من الأهوال. هذا العالم والشخصيات ليسا صنعة روائية، يشهد على حقيقته البشعة الخراب والدمار والشهداء والتاريخ الأسود لجمهورية كان تاريخها ظلاما دامسا. هذا الفضاء المتنوع من كثافة الأحداث، كان البحر الذي سبحت به شخصيات الرواية لتصنع العمل الروائي المتميز لفواز حداد: جمهورية الظلام.
وفي الختام أقول إن العمل على طوله فإن الصنعة الروائية فيه حاضرة بقوة، شغف في المتابعة، تنوع في المسارات، حفر في الشخصيات، محاكمات عقلية، سجالات مبهرة، وقائع تقطع الانفاس، نعم لقد عاش السوريين ذلك واسوأ منه في دولة جرى تحويلها إلى دولة متوحشة.
تنتمي الرواية لما سيشكل جزءاً من نهر الذاكرة لما حصل في سوريا، من خلال سردية لا تقنع إلا بالحقيقة ولا تتوانى عن بذل الجهد للكشف عنها. نحن إزاء تاريخ هناك من يحاول تزييفه وتجنيده أيضا في القتل باستغلال تطرف النزعات المذهبية الدينية. تعمل الرواية على تاريخ مضاد للتزوير تسهم به روائيا على طريقتها وبأساليب متعددة.