أثارت زيارة رأس النظام السوري، بشار الأسد، إلى روسيا، جملة من إشارات الاستفهام بصورة عقّدت القدرة على قراءة الطبيعة الدقيقة للعلاقة بين النظامين الحاكمين، في دمشق وموسكو.
بدايةً، شابت الضبابية موعد الزيارة. ورفض “الكرملين” الإقرار بموعدها، الذي حددته صحيفة “فيدوموستي” الروسية وفق تسريب، اتضح لاحقاً أنه كان دقيقاً. ولم يكن مقنعاً التذرع بـ “أسباب أمنية” لتبرير عدم تحديد موعد الزيارة بدقة. الأمر الذي فتح الباب لتأويلات، أبرزها، وجود ضغوط روسية على الأسد، حيال “التطبيع” مع تركيا. ومما عزّز من قوة هذا التأويل، أن موعد زيارة الأسد المسرّب وفق الصحيفة الروسية، طابق الموعد المقرّر مسبقاً، لعقد اجتماع “رباعي” يجمع نواب وزراء الخارجية من تركيا وإيران وروسيا والنظام السوري، في موسكو، وفق ما نقلت مصادر تركية، في حينه. وهو موعد لم تؤكده المصادر الروسية، أيضاً.
هذه الضبابية من الجانب الروسي عبّرت عن عدم اليقين لدى صانع القرار في أكثر من ملف، يرتبط بالشأن السوري والتركي، على حدٍ سواء. قبل أن تكشف التطورات والتصريحات التي رافقت الزيارة، أن الروس ذاتهم، ما عادوا في عجلة من أمرهم، حيال تطوير “التطبيع” بين أنقرة ودمشق. من دون أن ينفي ذلك إصرارهم على الذهاب قدماً في هذا المسار. لكن برويّة، تعكس تعقيد ملفات العلاقات بين موسكو وأنقرة، وارتباط جُلّ الحسابات الروسية، بملف الحرب في أوكرانيا. وهو ما أدركه الأسد فخاطب بوتين باللغة التي يفهمها، مراهناً على هامش استقلالية أكبر، استطاع تحصيله من جراء انفتاح عربي جزئي عليه، جعل موسكو ترفع من تقديره في حساباتها.
وجاءت التفاصيل الشكلية التي رافقت الزيارة، والتصريحات التي أطلقها الأسد خلالها، لتؤكد ذلك. فالأسد -الذي لم يحظ طوال العقدية المنصرمة، وخلال أربع زيارات إلى روسيا، باستقبال رسمي، أو بإعلان آنيّ عن الزيارة-، استُقبل هذه المرة استقبالاً مختلفاً كُليّةً. ونجح نسبياً، في فرض رؤيته على الموقف الروسي من مسار “التطبيع” مع تركيا. ولا يُنسب هذا النجاح إلى حنكة الأسد، بقدر ما يُنسب إلى ثقل الملف الأوكراني على صانع القرار الروسي، الذي بات يربط كل شيء، بهذا الملف. لذا، لا تملك موسكو رفاهية الضغط الشديد على حلفائها، مهما ضعفُوا –من قبيل الأسد-، خشية خسارة جانب من نفوذها عليهم، لصالح بدلاء متوافرين –إيران-، أو محتملين –دول الخليج أو حتى الصين، الوارد الجديد بقوة إلى ملفات الشرق الأوسط-.
ما يدعم هذه القراءة، ذاك الوفد الاقتصادي الذي رافق الأسد إلى موسكو، مما يعني أن النظام يراهن على انفراجة في الدعم الاقتصادي الروسي له، طالب بها، علناً، على لسان محللين موالين له، أكثر من مرة، منذ الشهر الأخير من العام المنصرم، حينما وصل الانهيار الخدمي من جراء أزمة الوقود، إلى مستوى غير مسبوق.
وفيما ترك الأسد التفاصيل الاقتصادية لوزرائه المعنيين، ركّز من جانبه على البروباغندا والتفاوض على معادلة وسط بينه وبين صانع القرار الروسي، في مسألة سرعة ومعادلات تطوير مسار “التطبيع” مع أنقرة.
أما على صعيد البروباغندا. فقد ركّز الأسد على إسماع الروس ما يحبون سماعه، من حديث عن “النازية الجديدة” في أوكرانيا، وريثة “القديمة”، التي كان قد احتضنها الغرب، حسب وصفه. ورغم المغالطات التاريخية في خطاب الأسد، فإن الهدف منه، هو الوصول لآذان الروس تحديداً، وليس لآذان طرف محايد. والقصد منه، أن يقول لهم: نحن حلفاؤكم، ونتبنى روايتكم عن التاريخ والحاضر. وننتظر منكم، المِثل في القضايا المحورية التي تخصنا.
وفي تصريحاته، كان لافتاً ترحيبه بزيادة عدد القواعد العسكرية والجنود الروس في سوريا، في إطار “لعبة التوازن الدولي الذي تلعبه موسكو من خارج حدودها”. والحديث عن بقاء دائم لهذه القواعد والقوات، بوصفه “أمراً ضرورياً في المستقبل”. وبذلك قايض الأسد البعد الاستراتيجي للوجود الروسي في سوريا –الذي يراهن عليه صانع القرار في موسكو، بصورة كبيرة-، بهامش استقلالية أكبر على صعيد التعامل مع ملف “التطبيع” مع تركيا. وبدعم اقتصادي يخفف من وطأة الانهيار المعيشي في مناطق سيطرته.
وحصل الأسد على ما يريد في ملف “التطبيع”. إذ أُؤجِل الاجتماع المزمع لنواب وزراء الخارجية لكل من تركيا وروسيا وإيران والنظام، والذي كان من المقرر عقده في 15 و16 آذار الجاري. وحصل ذلك، رغم أن وفود تركيا والنظام وصلوا بالفعل إلى موسكو. ولم يتم تحديد موعد آخر للاجتماع. وقد استفاد الأسد مما يبدو أنه استياء روسي من موافقة تركية مرتقبة لانضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، لتعزيز موقعه في أثناء التفاوض مع بوتين في الاجتماع المغلق الذي دام ثلاث ساعات.
لكن مسار “التطبيع” لن يتوقف، حسبما أكد الأسد نفسه، في تصريحاته للإعلام الروسي. إلا أن ذلك المسار سيسير بناءً على معادلات شارك الأسد في صناعتها مع حليفه الروسي، وليس وفق إملاءات من ذاك الحليف. أبرز تلك المعادلات، خروج تركيا من الأراضي السورية، ووقف دعمها للمعارضة، بصورة تجعلها خارج معادلة التأثير في الشأن المحلي.
وبذلك نجح الأسد –حتى الآن- في تجنب مسار تسوية كان من المحتمل أن يخرج عن سيطرته، ويجبره على التفاوض جدياً، مع شركاء محليين ليكونوا طرفاً في تركيبة “الدولة السورية”، في إطار تسوية إقليمية. إذ ما كان يمكن لتسوية مع تركيا أن تنجح، إلا وفق معادلات تضمن استقرار “الشمال السوري”، وعدم حصول موجة نزوح مليونية منه. وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا بتسوية سياسية، يضطر فيها الأسد لتقديم تنازلات لسوريين. وهو أمر حارب الأسد أكثر من عقدٍ لتجنبه. فالأسد يقدم التنازلات للخارج فقط، شريطة أن يكون الكفيل المحلي الوحيد لمصالحهم على التراب السوري.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا