سوا ربينا مرّة أخرى؟

محمد أمين الشامي

لم ننس بعد ذلك البرنامج الأسبوعي الَّذي كان يحلُّ على سهراتنا بالإكراه في التِّسعينات ضيفًا سمجًا وثقيلًا بإشراف من إدارة التَّوجيه المعنوي والبناء النَّفسي المرتبطة بشعب المخابرات المختلفة التّابعة للنِّظام، ليذكِّرنا “بالأخوّة” السّوريّة اللُّبنانيّة وعراها المتينة وجذورها الضّاربة في التّاريخ ونتائجها الَّتي ملأت جيوب الضُّبّاط “السّوريّين”، يوم كان لبنان متصرِّفيّة تابعة للنِّظام. والحقيقة أنَّ البرنامج كان يمكن أن يؤتي ثمارًا فعلًا لو أنَّ الجسور الَّتي هدمتها عوامل خارجيّة وداخليّة عدَّة بمقاصد براغماتيّة ومدروسة قد أعيد بناؤها أو ترميمها على أسس سليمة وقويمة في حينها.

لبنان كان جزءًا من سوريّة الطَّبيعيّة مثله مثل شرقي الأردن وفلسطين، أو ما يعرف ببلاد الشّام. هذه حقيقة تاريخيّة لا ينكرها أحد. لكن وجوه هذه الحقيقة أعادت تشكيلها أياد كثيرة عبثت بتضاريسها الاجتماعيّة وملامحها النَّفسيّة حتّى حوَّلتها إلى حقيقة مغايرة أنتجت واقعًا آخر دقَّ أبناؤه أسافين إيديولوجيّة وشعبويّة بين البلدين جعلت الهوَّة بينهما واسعة وشاسعة. فمقابل لبنان الحضارة والحريّة وسويسرا الشَّرق كما كانوا يطلقون عليه، تقوم سوريّة المحافظة والمكبوتة بل والمتخلِّفة! ومع وصول النِّظام البعثي إلى الحكم، ازدادت رقعة التَّباين بين البلدين وتراخت الرَّوابط بين الشَّعبين وترسَّخت الفوارق النَّفسانيّة بينهما، حتّى كانت الحرب الأهليّة اللُّبنانيّة والتَدخُّل السّوري فيها، وما تلا ذلك من تبعات وآثار عمَّقت التَّمايز بين الشَّعبين.

كلُّنا يعرف هذه المعلومات، بل وربَّما نجد من يملك تاريخًا مفصَّلًا ودقيقًا للعلاقة بين الجارين اللَّدودين تتجاوز هذا بكثير. لكن النُّقطة الَّتي تهمُّني من مثال العلاقة بين لبنان وسوريّة بأبعادها التّاريخيّة والإيديولوجيّة والقائمة الآن هي الدَّرس الّذي لم نتعلَّمه، والخطأ الَّذي ما زال كثيرون يقعون فيه: القفز العاطفي فوق هوَّة الواقع القائم.

على الرَّغم من أنَّ كثيرًا من العائلات البيروتيّة -إن لم نقل معظمها- دمشقيّة الأصل، نجد أبناءها ينكرون هذا، ويؤكِّدون ما زُرع في فكرهم أنَّهم أبناء “الحضارة الفينيقيّة” الَّتي امتد أثرها إلى قرطاج في تونس الحاليّة وما بعدها؛ وهم أبناء “الحضارة الغربيّة” بوجهها الفرنسي، وجه فرنسا حامية حمى المسيحيّة في الشَّرق المسلم وربائبها بالبعد الإيديولوجي للقصد؛ وهم أبناء الحرِّيّة والدّيمقراطيّة الوحيدة في المنطقة العربيّة المقموعة. هذا ما اشتغل عليه المتلاعبون بالحقيقة التّاريخيّة من فرنسيين وقوميين لبنانيين حتّى هدموا بفؤوس الفرقة جسور التَّواصل وأساسات الثَّقافة التاريخيًّة والاجتماعيّة والتُّراث الَّذي يمثِّل الوعاء الجامع لأبناء المنطقة الَّتي شملتها راية الخلافة الإسلاميّة شاء من شاء وأبى من أبى.

مع محاولة النِّظام القفز فوق الجسور المهدَّمة الَّتي ذكرنا لتوِّنا لتبرير وجوده وأفعاله في لبنان، اجتهد في لمِّ الشّامي على المغربي كما يقول المثل، وتفتَّق العقل العسكري المخابراتي عن أفكار كان أحدها برنامج “سوا ربينا”، المولود المسلول لعلاقة تفتقر إلى أدنى مقوِّمات التَّوافق، كونها قائمة بالإكراه، والنَّتاج المنفِّر لهذه القفزة الحمقاء في الفراغ.

ومع النَّكبة الَّتي ألمَّت بالسّوريين جراء التَّوحُّش في قمع الحريّة، التمس بعض السّوريين النَّجاة عند اللُّبنانيين، وكان ما نعرف من تمييز وعنصريّة وإذلال وإهانة واستغلال للّاجئين. وما ذلك إلّا إحدى جرائر التَّجربة السّابقة والمريرة بين اللُّبناني (الأسمى) والسّوري (الأدنى)، وهو ما عبَّر عنه أحد المواطنين من مدَّة قريبة جدًّا بلا مواربة.

لكن، يطلُّ سؤال مهمٌّ لا بد من طرحه: هل يوجد فرصة لإعادة ترميم ما انهدم وبناء ما تخرَّب على أسس يتقبَّلها الطّرفان بناءً على واقع كلٍّ منهما بعيدًا عن حلبة التّاريخ والثَّقافة والعيش والجيرة وغيرها من طروحات لم ولن يقبلها أو يأخذها أحد على محمل الجد لمخالفتها للقناعات القائمة؟ أظن أنَّ الأمر ليس بمستحيل إن قامت هذه العلاقة على أسس مختلفة تناسب العصر وفلسفته، أسس المصالح المشتركة وتكامل المشاريع وتلعب فيه الأسس السّابقة دورًا مساعدًا يعمل على تثبيت الأسس الجديدة وترسيخها. وعندما نجد الجواب على هذا السُّؤال، يمكن أن نعمِّم الأمر على علاقة السّوريين مع أطراف أخرى. أمّا ما يقوله الواقع، فالطَّرح العاطفي لفكرة العيش المشترك والاندماج بموجب التاريخ والثَّقافة والإرث يحتاج إلى إعادة نظر لأنَّ كلَّ جانب أقام هذه الأسس بناء على وجهة نظره ومواقف من أمر بالتَّعميم حيث كان التَّخصص واجبًا، ودعا إلى التَّمايز يوم كانت الدَّعوة إلى التَّلاحم لازمة. الأمر باختصار وارد بين طرفين يحملان الإرادة ويتمتَّعان بالرّؤية وينشدان المصلحة وهما على المستوى ذاته من النِّديّة والسِّيادة، وليس تابع ومتبوع.

المصدر:إشراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى